يكفي القارئ أن يقف عند العنوان الفرعي لكتاب حنا بطاطو (العراق)” الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ليجد أن هذا العنوان الواسع والذي يغطي جزءا مهما من تاريخ العراق لا يختص بمرحلة دون أخرى، وإن انطلق من بداية الاحتلال العثماني للعراق، بل يخص التكوين الاجتماعي للطبقات الإجتماعية في العراق، وهو تكوين يلازم أي تفكير حديث، فتجد أن الكتاب يفيض على أغلفته وعنواناته الفرعية ليجري مع الرافدين من شمال العراق وحتى جنوبه متشعبا في فروعهما وقصباتهما، وفي كل ما يتعلق بالإنتاج وإعادة الإنتاج. بما فيها مكونات الشعب العراقية كلها، لذلك فهو ليس كتابًا آنيًا يقرأ مرة واحدة أو تحفظ منه فقرات شواهد واقتباسات، بل هو تيار من المعرفة التحليلية لطبيعة المجتمع العراقي مصحوبة بممارسة اجرائية مختبرية معتمدة على استقراء واحصاء وتدقيق. من هنا، أجد أن قراءة هذا الكتاب باستمرار، تعني تجديد الطريقة لفهم ما يجري بناء على ما تشكل في المجتمع العراقي وعلى الكيفية التي صاغت بها الفئات الإجتماعية رؤيتها عبر التاريخ المعاصر للمفاهيم الأساسية: الطبقات الإجتماعية، والحركات الثورية، والعهد العثماني، والعهد الجمهوري، أربعة حقول كبيرة احتوتها المجلدات الثلاثة، والموزعة بعنوانات فرعية إلى ما يشبه الأنهر التي تسقي وتغذي كل الأرض العراقية بمياه لا تنضب من التصور الفكري الصائب للتحليل.

ويكفي القارئ أن يجد هذا البحث مبنيًا من خيوط النسيج الاجتماعي العراقي، الخيوط  المنسوجة بألوان الطيف الاجتماعي واستعارة لخيوط أجنبية مختصة بالشأن العراقي، أو كما يقال في الأمثال الشعبية ”السدى منه وبيه”، ما يعني أنه يؤلف نصًا، ضمن منطق الحياة الاجتماعية المتعددة المستويات، فالمؤلف لا يضع العربة أمام الحصان، بل يبني تصوره على المكونات البحثية المستخلصة من البنى السياسية والطبقية والثقافية ، ولذلك تجد مصادره العديدة، مصداقية لتصوره، فهي من مناشئ مختلفة، من بينها”  السجلات السرية للمديرية العامة للأمن، أي ملفات الشرطة السياسية العراقية عن مختلف الأحزاب وعن كل شخصية سياسية ناشطة في البلاد في العهد الملكي، ثم أوراق ومدونات صادرتها الشرطة وكانت تخص اللجان القيادية للشيوعيين والبعثيين، ومخطوطات شيوعية عثر عليها في سجني الكوت وبعقوبة، ومدونات حرفية لاستجوابات أجريت لأعضاء مهمين من الكادر الشيوعي اعتقلهم البعثيون في العام 1963،وتقارير الاستخبارات السرية البريطانية و”خلاصات الاستخبارات” و”ملاحق خلاصات الاستخبارات” المتعلقة بالفترة 1917-1931، والملفات السرية للرائد .ج. ف.ويلكنز، الذي كان لفترة رئيسًا لـ،”إدارة التحقيق الجنائي” ولـ” الفرع الخاص” ومستشارا فنيًا” للحكومة العراقية”. مضافًا إلى ما سبق “السجلات البريطانية العامة”، ومصادر كثيرة أخرى.

وفي النظرة العامة، الكتاب يتضح الجهد المعرفي الموسوعي، لذلك تكون قراءته واحدة من الطرق العملية لفهم ما يجري للعراق في مراحل تكوّن تشكيلات الدولة العراقية، والشيوعيون معنيون أكثر من غيرهم في فهم تلك الآليات، التي ما يزال بعضها مستمرًا، خاصة البنية العشائرية، والدينية، وتطور البعض الآخر منها بأشكال جديدة، خاصة بعد تدخل دول الجوار في بنية النسيج الاجتماعي العراقي، وما أفرزته الحروب العبثية من تركيبة مشوهة لعدد من المناطق الجغرافية. الأمر الذي يعني أن الطبقات الإجتماعية ليست تشكيلات ثابتة، ومستقرة، في بلد عانى الكثير، فأي تغيير فصدي في بنيته ينتج مفاهيم جديدة قد لا تكون معلومة سابقًا، من هنا، تأتي القراءة المستمرة لهذا البحث المهم، زيادة في الوعي، وتبصرًا في الكيفية المترجرجة التي تتشكل بها الفئات والطبقات الإجتماعية، خاصة وأن البنى التحتية للصناعات والمنشآت الزراعية والثقافية والاقتصادية، لم تكن مستقرة، ولن تكون مستقرة ما دامت تخضع للمتغيرات السياسية الفوقية، ومن يستقرئ وضع مجتمعنا العراقي اليوم، يجد أن منشأ الاضطراب فيه متأت من تلك الأرضية الرخوة التي بنيت عليها المفاهيم الطبقية خلال الخمسين سنة الأخيرة. اقول لنقرأ هذا الكتاب مرارا، ففيه اضواء كاشفة لقضايا مختبئة في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي.

عرض مقالات: