طالما تساءلت عن كم التأثير الهائل الذي تركته الحرب على وعيي وإسهامها في تكويني الكتابي. في الغرب لا يعدّون من دخل حربا سويا، على الأقل من الناحية النفسية، ويعاملونه معاملة خاصّة، ويخضع في الغالب لحالة طويلة من العلاج النفسي. لاحظ أنّهم يتحدثون هنا عن حروب قد تدوم أيّاما أو أسابيع أو أشهرا. فما بالك في من يدخل حربا منذ الثامنة عشرة ويخرج منها وهو في عمر الثلاثين؟
وعلى الرغم من كل ما يُسبغ على الحروب من مسميات أو مسوغات، من مثل الحرب من أجل فرض السلام أو حرب الضرورة أو الحرب المقدسة أو حرب التحرير وغيرها، إلّا أن الحرب تبقى في حقيقتها التي خبرتها جيّدا، شرا مطلقا.
يقول وليم غولدنغ في معرض حديثه عن روايته الشهيرة “ملك الذباب” وهي رواية حرب بامتياز، إنّ الإنسان ينتج الشّر كما ينتج النحل العسل، وهو توصيف استعاري طالما وقفت عنده وتأمّلته في الحقيقة، فالذي يمتص رحيق طفولته من العنف والحرمان والموبقات والكبت، لا بد ان يكون سلوكه عدوانيا وشريرا لاحقا، حتّى لو غلف سلوكياته تلك بالشعارات البراقة، بطعم العسل.
لقد تمكنت الحرب في المحصلة، من كسرنا في النهاية، وهذا أمر مؤكد، لكنّها لم تستطع تحطيمنا تماما لحسن الحظ، وعلى الرغم من أنّنا لسنا أسوياء نسبيا، لكننا قادرون على الكتابة في لحظات أسطورية ومخاتلة الوحش الكامن داخلنا. نكتب عن الحبّ والجمال والإحساس، في غفلة منه، خوف أن يستيقظ ويدهمنا ويسوّد خيالنا من جديد.
وطالما هناك حروب، سيظل هناك كتّاب يحاولون فهمها واستلهام شيء مفيد من حطامها. لقد كان جيلي من الأدباء في العراق جيل محنة وتشرد وتهديد مصير، ولعله الجيل الأدبي الوحيد في العالم العربي الذي تعرض لمثل تلك المحن، فمنذ امتلاكنا لوعينا الإبداعي مطلع الثمانينات، نشبت الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة التي استمرت أكثر من ثماني سنوات وطبعت ذاكرتنا بمشاهد القتل والدم، ثم اندلعت حرب الكويت وما تلاها من هزات ارتدادية عميقة مهدت في آخر المطاف للاحتلال الأميركي للعراق وانهيار النظام السابق وتحطيم الدولة العراقية بالكامل، ومن ثم تعرض العراق لحصار اقتصادي ظالم وشرس أدى في المحصلة إلى انهيار البنية الأخلاقية للمجتمع ككل.
إن تلك المحن والمتغيرات العميقة التي امتدت على مدى ثلاثة عقود، هي عمر جيلنا الافتراضي وفترة امتلاكه لوعيه النقدي والإبداعي، طبعت كتاباتنا بطابع المأساة وما زالت، ولا أعتقد أننا سنتخلص من ذلك التأثير الساحق قريبا.
أتخيل الجنود الناجين من الحروب مثل الأنبياء والكهنة، فهم على الرغم من امتلاكهم القوّة والقلوب الميتة من كثرة ما رأوه من القتل والدمار والرزايا، إلّا أنّهم معبؤون حكمة وتأنيا وصمتا. ينظرون إلى ما يجري حولهم من حياة صاخبة بريبة وتوجس، ويتحركون بحذر، وعندما ينفردون بأنفسهم يبكون بحرقة لأتفه الأسباب، ويدفعون حبيباتهم السابقات دفعا إلى اختيار غيرهم من الرجال الأسوياء، خوفا عليهنّ من عطب أرواحهم.
أن تكتب تحت وطأة تلك التفصيلات المهولة، معتمدا على التذكر، وتحف جوانحك الآلام والخشية من المستقبل، وعقلك يستحضر تلك الوجوه التي قاسمتك لحظات الرعب والجوع والتعلّق بحبل النجاة المتأرجح بين الحياة والموت، لهو عذاب موجع في الحقيقة، لكن الأكثر وجعا منه هو محاولتك دفن ماضيك في الجزء الخلفي من رأسك المقاوم للانفجار ومحاولتك فتح نافذة للضوء المشرق ليتسلل إلى ذاكرتك وصورها المتربة بفعل الزمان وتكتب روايات عن الحبّ، قد تعلق تفصيلاتها في شغاف القلوب وتعرّش في رؤوس القرّاء الذين سيلعنونك في النهاية، لأنّك أفسدت عليهم يومهم وتركتهم معلقين في الهواء.

عرض مقالات: