فجعت الأوساط الأدبية والإعلامية قبل أيام برحيل أحد أبرز الأسماء اللامعة والمؤثرة في الثقافة العراقية، والذي كان له الدور البارز في احتواء الثقافة وتكتلها كسلطة مستقلة ضد جبروت عدد من دعاة الثقافة والسياسة. الشاعر إبراهيم الخياط عرف على الساحة العراقية بوصفه صحفيا نشطا، وناشطا مدنيا يساريا انتمى إلى صفوف الحزب الشيوعي، وتنظيماته السرية في شبابه المبكر وتحمل الاعتقالات والظلم والتهميش لسنوات طويلة إبان حقبة البعث ونظام صدام حسين، وواصل مسيرته في الكفاح ضد حكومة الاحتلال والمحاصصة الطائفية بعد عام 2003، وتولى ادارة الاعلام في وزارة الثقافة واتحاد الكتاب والأدباء حتى أصبح الأمين العام للاتحاد كاسبا ً محبة الجمهور الثقافي. كما عرف بقلمه اللاذع والجريء ووقوفه مع وحدة العراق وهويته الوطنية، ومع قضايا الشعوب المضطهدة في العالم وثوراتها ومنها القضية الفلسطينية وموقفه الواضح والصريح من أمريكا والكيان الصهيوني. وهو شاعر ثمانيني عزف عن النشر في تلك الفترة لأسباب سياسية، لم يكن الخياط من هؤلاء الذين يظهر عليهم غرور المنصب أو نرجسية الشاعر، بل متواضعا ً جدا ً تتحطم أمامه جميع الحواجز والجدران، كان كريما وبسيطا ً محباً للبسطاء والحياة العادية، وصانعا ً استثنائيا ً للبهجة والحياة، وقد أفنى سنوات عمره في اتحاد الكتاب والأدباء في خدمة الثقافة والمثقفين ومحاولة الارتقاء بواقعهم وأحلامهم في وطن يرتقي هاوية الظلام كل نهار، في وطن يتنفس الخوف والموت، في وطن مسور بالوحوش وأنين الموتى، في وطن اللعنة القديمة والحكمة القديمة، ظل الخياط في هذا الوطن ولم يغادره أبدا، وظل طائراً محلقا ً برايته الحمراء، طائرا أبيض في سماء من لهب.
في هذا النسيج المتشابك والمتداخل من الاغتيالات والموت المجاني، يبدو أن هناك خيطا خفيا جدا يجمعنا ويوحدنا في هذا الحزن العميق، هذا الحزن الذي أصاب الثقافة العراقية برحيل كبار أسمائها من مفكرين يساريين إلى أدباء وشعراء، وأسماء أخرى لها صوتها في المجتمع، ابتداء من حادثة اغتيال كامل الشياع على يد الظلاميين إلى حادث موت الشاعر ابراهيم الخياط على طريق سير بين محافظتي دهوك وأربيل عندما صدمت سيارته سيارة جاءت بسرعة جنونية من الطريق المعاكس.
وكانت هناك سلسلة من الاغتيالات والحوادث المقصودة أو غير المقصودة تستهدف أسماء عراقية لأسباب مجهولة من قتلة مجهولين وأقدار مجهولة أيضا، وملفات غامضة تبقى محاطة بالسرية والشكوك، ثم تطوى في غياهب النسيان، كما أن هناك دوافع مكبوتة ومصالح تحرك الكثير من المثقفين الذين لهم انتماءات رجعية ودينية وعلاقات خفية مع بعض الجهات المتطرفة، لذلك كانت الأغلبية منهم تحجم عن قول الحقيقة أو تحليل الظواهر تحليلا ً علميا ً ومنطقيا ً، وكان معظم الذين قالوا الحق وصرحوا به علنا ً قد قتلوا برصاص غادر وجبان أو في حوادث غامضة عن طريق مخابرات ثقافية مازالت تعيش بيننا الآن وتستشري كالسرطان . في هذه السلسلة المعقدة من الحوادث والمصادفات والصدمات؛ وصار للحكمة أسرارها الخفية، وللأشرار اساليبهم اللعينة والخبيثة. ربما أكون شخصية قلقة وكثيرة الشك في أعمق لحظات حزني أو فرحي، لقد قلت بعد حادثة اغتيال الروائي والصحفي علاء مجذوب في كربلاء:.. "أن الثقافة العراقية بأسمائها ورموزها مستهدفة" ..أو على الأقل هناك رسالة من المجرمين القتلة أو من الأقدار الطائشة .. هدفها زرع الخوف والرعب في شخصية المثقف العراقي كي يظل مشلول الفكر والحرية ومغيباً عن مجتمعه ووطنه وانتمائه، حتى تأتي رصاصة الموت بالتقسيط على حد تعبير الشاعر الراحل ابراهيم الخياط،. فبعد أن تم افراغ البلد من العلماء وأصحاب الكفاءات من مهندسين وأطباء، وشخصيات وطنية، وعلماء فلك وذرة ...الخ جاء الوقت للنيل من المثقف العراقي بالقتل أو التهجير أو حوادث القدر المباغتة؛ لكي يتحول هذا البلد تماما إلى مجتمع سهل الانقياد وحضيرة للمافيا وتجار البشر.
وعلى اتحاد الكتاب والأدباء في العراق أن يكون على اطلاع كامل ومفصل على ملف الحادث الذي أودى بحياة ابراهيم الخياط والملابسات والظروف التي أحاطت بهذا الحادث.
وعلى المعنيين بالأمر أن يتحلوا بالشجاعة والمسؤولية الثقافية والوطنية في بلد تمحى فيه الذاكرة كل يوم، ويستبيح أبناء الظلام الأبديون إرثه التاريخي والثقافي.

عرض مقالات: