ليس الفكر قطعة اثاث قديمة نسعى لتجديدها بعد أن استهلكت بالاستعمال، وليس الفكر موضوعا يجدد نفسه دون إرادة فاعلة، بل هو رغبة معرفية تحتمها الظروف وتفرضها احتياجات التفكير الميداني. لذلك يرتبط الفكر بالممارسة، وبما أنه يتجدد حتى لو لم نضع أيدينا في عملية تدويره، نجده يفتح ابوابه لاستيعاب ما يناقضه أيضا. لذلك فالفكر ليس آلية تجريدية بل هو ممارسه قائمة على المراقبة والوضوح. كل فكرة لها مجالات عديدة لتنفيذها، ومن هنا يتوجب ان نختار ما يلائم توجهنا في قراءة الأفكار لتصبح آلية عمل لنا.

قديما كان رئيس القبيلة الساحر والدجال هو من يفكر نيابة عن ابناء قبيلته، ونتيجة لذلك اكتسب مكانة العارف والدليل. وقد اقترنت معرفته بالسلطة فأصبح ما يقوله رئيس القبيلة قانونا ملزما لبقية افرادها. وقد تجري صراعات دموية بناء على اختلاف رؤى وتفسيرات زعماء القبائل حول الظواهر الطبيعية، حيث يدعي كل ساحر انه هو من تنبأ بحدوثها.

وباستمرار الممارسة الاجتماعية، لم تعد مثل هذه الخزعبلات الفكرية طريقة مقبولة لتفسير اية ظاهرة اجتماعية مهما كانت شعبيتها. لذلك تطلب ان يكون التفكير ميدانا وممارسة عملية واسئلة واجوبة، واحتمالات الخطأ والصواب.

في بلادنا التي ابتليت بتفكير ناقصي العقل، يمكن ان تصبح أية تفسيرات شخصية سببا في صدامات دموية، لاسيما وان من يغذي هذه النزعات الفكرية هو من يجهل كيفية التفكير بحل ما للمشكلات.

فثمة مواضيع قائمة على تصورات آنية تفرض رؤيتها على ما سبق. لذلك يتطلب تجديد الفكر فيها ان تضعها تحت السؤال، فالأفكار دون مراقبة تذهب احيانا لغير مصباتها، بالرغم من وضوح ينابيعها. ربما أريد بهذه الجملة نوع من التحفيز على فهم ان الحياة لا تسير دائما بأفكار ثابتة، فبالقدر الذي تتجدد فيه الحياة اليومية، يتجدد التفكير بمكوناتها، وبضمنها نحن أنفسنا وما نحمله من عقائد وأفكار. هذه سُنّة التطور، لا يمكن أن يبقى مجرى النهر نفسه وملايين الامتار المائية تغير كل لحظة من تربته ونباتاته وأحيائه. هذه سنّة العمل الإنساني الذي يقودنا باستمرار إلى عدم الوقوف في نقاط سبق ان وقفنا عندها وجرى تجاوزها، فالفكر يموت إذا اعدت الآليات القديمة كطريقة لتجديده، لأن كل تجديد يتم بآلية جديدة.

يتطلب تجديد الفكر ان يكون العقل مصدرا للتفكير، وأعني بالعقل استمرارية الوعي بالمتغيرات، وإلا اصبح العقل ايضا عقبة امام التجديد إذا لم يغير طرائق تفكيره هو الآخر. فالعقل ليس إلا المخزن الجدلي لاستقبال الأفكار وفرزها ومن ثم مقارنتها بمراحلها السابقة، لصياغة رؤى جديدة، ويتوجب ان تكون الحواس والأفكار الأخرى واعية لطرائق الفكر المتجدد. ليس العقل هو الدماغ دون ممارسة، وما نعمله يوميا يؤثر في سياقات كثيرة، وعلينا ان ندرك ان تجديد اية فكرة يعني السير بخطوات لتحقيقها. فالعمل لا يتم بمقدرات مسبقة ثم نطمئن لنتائج لاحقة، بل يتم ونحن على وعي ان العملية التاريخية يصنعها العمل البشري. هذه ليست مقولات جامدة بقدر ما هي افكار محفزة تدعونا دائما ان نضع التفكير في اي مشكل اجتماعي اقتصادي نفسي انساني امني، موضع سؤال التطوير والتجديد. ومع ذلك يبقى الفكر نفسه باستمرار بحاجة إلى تطوير وتجديد الآليات نفسها.

لذلك لا يصح القول بتجديد الفكر دون أن يكون للفكر موضوع، فالتجديد يتم في وجود موضوع لم يفكر به من قبل، والتجديد تفرضه الحياة على الفكر، وليس مصاحبا للتفكر دون موضوع. اننا لا نربط العربة امام الحصان، وكل تفكير هو طريقة منهجية، وكل موضوع بحاجة إلى تطوير وتجديد. وإلا بقي الموضوع كما هو، وبقي الفكر القديم كما هو، بينما الأثنان يتعرضان إلى متغيرات تتطلب اجراءات جديدة.

عرض مقالات: