طيبة ، ودماثة أخلاق ، وشجاعة ، ومحبة عالية ، وروح متصالحة مع الآخر ، هكذا يمكن ان أصف شخصية فنية مهمة جداً لم تأخذ حقها من الشهرة عبر الإعلام ولهذا ظل اسم تلك الشخصية معروفا فقط لدى النخب الفنية والأدبية ومتابعيها على الرغم من ان حضورها الفني لا يختلف عليه اثنان ، كان رساماً ونحاتاً يحفر في الصخر نواياه ويجعلها تتكلم بألم وحسرة على حياة البؤس والظلم التي عاشها ذلك الفنان والمبدع الذي كان عبارة عن كتلة من الحنين والروح الإنسانية العالية انه الفنان الكبير النحات أياد صادق المولود في مدينة البصرة عام 1943 والذي اشترك في بداياته بتجربة فنية مهمة مع القاص العراقي الكبير محمد خضير بعنوان ( خمسة وجوه سافرة ) ونشرت تلك التجربة في مجلة "الأقلام" العراقية عام 1972 ، ويرتبط الراحل اياد صادق بعلاقة صداقة قديمة جداً مع محمد خضير حيث عملا سوية في التدريس لسنوات بعد تخرجهما حتى انتقل من البصرة الى بغداد بسبب انتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي ومطاردات الأمن له في اغلب الفترات بعد انهيار الجبهة الوطنية والإعتقالات التي طالت الشيوعيين في أوآخر فترة السبعينيات ، ولكي ينقذ نفسه حمل هوية مزورة وعاش في احد احياء بغداد في جانب الكرخ وكان يعمل داخل البيت فينحت بالحجر والخزف ويرسم بعض التخطيطات ومن ثم قام بفتح ورشة لتصليح السيارات وأصبحت فيما بعد عبارة عن مأوى للهاربين من مطاردات رجال الأمن وخاصة اصدقاءه من أهالي البصرة الذين لا يملكون مسكناً داخل العاصمة بغداد. للراحل الفنان اياد صادق روح عراقية عذبة كعذوبة دجلة والفرات وميزته الطيبة والنقاء وهكذا هم أهل البصرة يمتازون بطيبتهم النادرة التي تفوح رائحتها من ضفاف شط العرب ونخيله الذي يقترب من الغيوم ويوشك ان يمسك بالسماء. ولأياد صادق الذي رحل عنا عام 2009 الكثير من المعارض التي كنتُ شاهداً عليها قبل التحضير لها وبخاصة معارضه داخل العاصمة الأردنية عمّان عندما جاء عمان منتصف التسعينيات وكان يسكن في بستان بجبل اللويبده وفيه بيت من الطين وسكن معه في بداية الأمر الفنان المسرحي رضا ذياب وعندما وصل الى عمّان صديقه الشاعر حسب الشيخ جعفر تكررت اللقاءات والزيارات في غرفتنا التي كانت تطل على جبل الحسين وكان قد اشترك في معرض مشترك اقامته امانة عمّان وقدم بعض التخطيطات والمنحوتات الجميلة التي تدل على حضارة وادي الرافدين العظيمة. ثم انتقل الشاعر حسب الشيخ جعفر للسكن مع اياد صادق في ذلك البستان الجميل وكنا معه انا وصديقي الشاعر نصيف الناصري وسهرنا الليالي الطوال في ذلك البيت البسيط جدا والبستان المثمر الذي زارنا فيه الكثير من الشخصيات الفنية والأدبية، كان اياد صادق يحضّر لمعرض كبير من المنحوتات الحجرية ويعمل منذ الصباح وحتى المساء ونراه يصنع في مشغله تلك المنحوتات الضخمة التي يحتاج لها المزيد من القوة لصانعها الذي يبعث في داخلها أمل الحياة، كان الشاعر حسب الشيخ ينظر الى كل منحوتات صديقه النحات وكأنها تنطق بالألم. وقبل ان يفتتح المعرض في غاليري الفينيق كتب الشاعر حسب الشيخ جعفر مقالة طويلة وجميلة جداً عن منحوتات اياد صادق أو كائناته الصامتة التي جعلت الحجر يطلق لسانه وينطق إبداعا. وبدوري بعثت بالمقالة الى لندن حيث جريدة الحياة مع بعض الصور. وبعد ان افتتح البياتي معرض أياد صادق داخل الفينيق أقام بعدها جلسة كبيرة كتحية للفنان اياد صادق الذي كان خجولا وطيبا وأمينا ومحباً للجميع ، وبعد ان تلاقفتنا المنافي الواحد بعد الآخر هاجر صادق الى فنلندا ليعيش بعزلة تامة إلا عن أعماله النحتية وتخطيطاته في الرسم ، كنت على اتصال به وهو يحدثني عن غربته وقساوتها وعن ضياع الوطن وضياع الإنسان وضياع الأمل لكنه ذهب في عام 2009 الى العراق حيث مدينته البصرة وهو يحمل الكثير من أعماله الفنية ويلتقي بأصدقائه الذين احتفوا به ، ويبدو ان تلك الزيارة كانت بمثابة الوداع الأخير لمدينته التي احبها وأخلص لها. وفي طريق عودته الذي كان عبر العاصمة الأردنية عمّان التقى بالقاص الصديق علي السوداني الذي اسرني في ذلك الوقت بان أياد صادق كان يعاني من مرض عضال لكنه استطاع تجاوزه حتى وصل فنلندا وحدثته عبر الهاتف وقال انه بحالة صحية جيدة لكنه انتكس بعد فترة قليلة ليودعنا بصمت مطلق. رحل اياد صادق بطيبته التي عرف بها وبفقره ولوعته لكن رأسه ظلت مرفوعة وشامخة كما عرفته وهو يسخر من الطغاة والجبارين الذين أرادوا إذلاله وقد فشلوا.الراحل اياد صادق كان رحيله بمثابة الخسارة الكبيرة على الفن العراقي ففي أغلب أعماله يعالج المأساة التي يتعرض لها الإنسان وحيرته في كل الأوقات وكل الأزمان ، لقد صور بتماثيله ولوحاته مأساة حلبجة ومقابرنا الجماعية والحرب والموت ولم يترك مأساة هنا وهناك إلا ومرّ بها وهو يحمل آلام الناس قبل آلامه ، ويؤكد صادق في الكثير من أعماله على الرحيل كثيمة في اعماله الأخيرة ، وله بصمته الخاصة في مجمل الأعمال التي احيانا كنت اشاهدها تتكلم بذات الهدوء الذي يمتلكه أياد صادق ، أنه فنان نادر.. الحزن علامته الفارقة..

عرض مقالات: