في الساعات الأولى لصباح لايشبه صباحاتنا هذه من قريب أو بعيد، قلت لصاحبي الذي كان يبكي: هي خدعة، بل هي أكذوبة كبيرة يروجها قتلة لا مهنة لهم سوى الكذب!  لكنه حينما سألني: لماذا؟ صمت قليلا لأقول له: لبث الرعب! ولم يدر في خلدي ساعتها، أن الصباح في تلك الساعة لا يشبه صباحنا هذا من قريب أو بعيد! كان معبأً بغواية غريبة، وأن الطين والماء والاحلام لا تشبه الطين والماء والاحلام التي نعرف، لا لشيء سوى انها كانت تحت رحمة تلك الغواية الدخيلة التي لا نعرف كيف استطاع القاتل أن يحتملها! ولا أعلم أي خلود أزلي بقي راسخاً في ذاكرة وعين من لامس الماء جسده برأس مثقوب!

كانوا" 1700 " قلب ورأس وحلم، يضربون اسفلت شوارع ساكنه،  شوارع خبروها ، يعرفونها وتعرفهم ذرة ذرة و قلباً قلباً وحلماً حلماً.  الشوارع ساكنة وفارغة إلا منهم وتلك  الغواية المتخفية حولهم ،  قال أحدهم للآخر:

"لنمض نحو الهواء الساكن نحركه قليلا "

 ملابسهم خفيفة تتيح لهم السير بسرعة، لا يملكون الا "1700 " قلب ينبض وثمة سكون حولهم، وقداسات من موسيقى الحياة الضاجة في ارواحهم ، سكون يثير بقايا هلع انهمر عليهم كما  الضجيج الذي ترافق مع ضوء الشمس المصفر وهو يغسل اجسادهم بعد أن لامست اقدامهم اسفلت الشوارع التي يعرفونها وتعرفهم  ، لم تمض ساعات قليلة على معانقتهم الشمس وعيونهم مصوبة ناحية دخان يتصاعد من بعيد ، حينها قالت الموجة في النهر وهي تعلن عبر رقصتها الاليفة وهي تخترق الصخب: لا لوم على الدم المراق فيك يا نهر! ولاغرابة أن يغص النهر بحكاية على وشك أن تجري الآن، حكاية متخمة بالأحلام ويقف عاجزاً عن امتصاصها حيث كانت الكتل تمضي بصمت نحو قرارها، يدفعها الموج، ربما تكبر الكتلة الصماء من دم مرسوم على الرأس كقلنسوة حمراء، كتلة لزجة تغطى رماد الاسمنت ربما ودعت الجرف والاسمنت لم يتسن للماء ان يسمع كلمات الدم قبل ان تطير الى الاسفل هابطة من الدكة .. نحو الدكة!  وحينما سألنا النهر عما جرى، لم ينبس بحرف لم يقل سوى إنه ماء على الرغم من احمراره.  حينها وصلت في صباح لايشبه صباحاتنا هذه لامن قريب أو من بعيد الى خزانة دائرة البريد المركزي ـ ألف وسبعمائة رسالة ـ بعضها ملون وبعضها ابيض وبعضها اسود وبعضها بلا لون لكنها تتشابه كونها مكتوبة بحبر داكن على مظاريف تحمل ختم قاعدة " سبايكر " الجوية.  وفي يوم واحد وساعة واحدة حمل سعاة البريد في حقائبهم كل الرسائل ثم اوصلوها الى بيوت بعيدة غارقة وسط حقول وسعفات الوطن، بيوت كانت تنتظر وصول اصحاب الرسائل التي وصلت في يوم واحد وفي ساعة واحدة لكنهم الى يومنا هذا لم يصلوا!

"شمعة أخرى الى سبايكر"

في صباح لايشبه صباحاتنا هذه من قريب او من بعيد، كان المشهد الحي للموت الحي يزاحم أحدهما الآخر

في صباح لا يشبه صباحاتنا هذه، رأينا تصاعد التراب

في الأماكن التي تخترق فيها الرصاصات الاحلام

كانت المشاهد والصور، في صباح " يشبه صباحنا هذا "

طازجة كالسلالم المؤدية الى منصة النهر.

عرض مقالات: