ضوء على  "موسوعة السرد العربي" / ناطق خلوصي

تفضّل علينا الناقد الدكتور عبد الله ابراهيم بنسخة إلكترونية من منجزه النقدي الكبير " موسوعة السرد العربي " بأجزائها التسعة التي  تقع في 3652 صفحة . وكانت هذه الموسوعة قد صدرت  عن المجلس الوطني للإعلام بدولة الإمارات العربية المتحدة وهي حصيلة زهاء ربع قرن من الجهد الدؤوب في البحث النقدي وقد جعل منها مؤلفها أشمل موسوعة متخصصة في تاريخ الأدب " كما ورد في مقدمة الناشر .يقول الأستاذ المؤلف عن منجزه" بدأت به وأنا في الثلاثين، وفرغت منه وأنا على مشارف الستين". ويضيف قوله في مقدمته للموسوعة :" لا يمكن دراسة السرد العربي، قديمه وحديثه، بدون الوقوف بالتفصيل على مجموعة من الأسس النظرية في تحليله والسياقات الثقافية الحاضنة له"، وهو يتعامل مع موضوعة السرد وفق هذا المنظور فيُرجع أحد أسباب "سوء الفهم الذي تعرضت له السردية العربية على امتداد خمسة عشر قرناً، إلى التركيز على الشعر من جهة وعدم امتثال معظم المرويات السردية لشروط الفصاحة المدرسية التي أنتجتها البلاغة العربية المتأخرة".

يخصص المؤلف الأجزاء الأربعة الأولى من الموسوعة للحديث عن السرد العربي قديماً فيتحدث، من بين ما يتحدث، عن المرويات السردية والمركزية الدينية، المرويات السردية والشفاهية العربية، أساطير الأولين وإعادة صوغ الماضي، المدونات السردية الجاهلية، الاسلام والسرد، في تتبع للتطور المرحلي الذي طرأ على السرد العربي. وما يلبث أن يتحدث عن الحكاية الخرافية  وعلاقتها بالسرد ويتوقف عند ألف ليلة وليلة فيشير إلى الرواية الشفوية وإشكالات الهوية، ثم يتناول موضوعات: البنية السردية للحكاية الخرافية، والسيرة وتشكّل النوع السردي، والبنية السردية للسيرة الشعبية والمقامة وتشكّل النوع السردي. وفي جزء الموسوعة الثالث يشير إلى انبثاق المرويات الكبرى عن العالم القديم   ويتوقف عند النص الرديف (النصوص غير العربية) ويورد نماذج من هذه النصوص. أما في الجزء الرابع فيتناول المؤثر الغربي ويتحدث عن تفكيك الخطاب الاستعماري وتفكك الموروث السردي والتعريب ومحاكاة المرويات السردية .

 يشرع المؤلف في الانتقال إلى الرواية الحديثة بدءاً من جزء الموسوعة الخامس حيث يتحدث عن السردية الحديثة و الموقف الثقافي والرواية والتركيب السردي  والتمثيل السردي والمرجعيات الثقافية، فيتناول بالبحث روايات لمحمد حسين هيكل ونجيب محفوظ والطيب صالح وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان . ويكرس الجزء السادس للمرأة والسرد العربي، انطلاقاً من مفهوم النسوية والممانعة النسوية  ونقد الأبوية، ثم التوقف عند السرد النسوي والرؤية الأنثوية للعالم، والسرد النسوي ومركزية الجسد،  مع عرض نماذج  لما كتبته المرأة المبدعة وما كُتب عن المرأة في السرد العربي .ويتناول الجزء السابع موضوعات السيرة والمنفى والأوطان المتخيلة، فيتحدث عن المنفى وانزياح الهوية، والهوية السردية والمدن المستعادة، والسرد والاعتراف واعادة تعريف الهوية، السيرة الروائية والهوية والتهجين السردي، الارتحال والاكتشاف وصوغ الهوية . ويشير المؤلف بهذا الصدد، كنماذج تطبيقية، إلى: "سيرة مدينة" لعبد الرحمن منيف، و"أية حياة هي؟ سيرة البدايات" لعبد الرحمن مجيد الربيعي و"بقايا صور" لحنا مينه و"الحفيدة الأميركية" لإنعام كجه حي، وأعمال سردية لبهاء طاهر وعلي الشوك وصاموئيل شمعون  وصنع الله ابراهيم  وعلي بدر وبتول الخضيري .

  أما الجزء الثامن فيُكرّس للحديث عن الرواية التاريخية .وجاء الحديث تحت عنوان " من الرواية التاريخية إلى المتخيل التاريخي "ويُستهل بقول المؤلف " أصبح من اللازم إحلال مصطلح " التخيّل / التخييل التاريخي " محل مصطلح  "الرواية التاريخية". ويتناول هذا الجزء موضوعات: الامبراطورية والسرد والتاريخ، السرد ومفهوم الامبراطورية، والتخيل التاريخي، التهجين السردي وتمثيل الأحداث التاريخية، أعراف الكتابة القديمة،التواطؤ بين السرد والتاريخ، السرد والتاريخ واللاهوت،التخيل التاريخي وتفكيك الهوية الطبيعية، التوثيق والتخيل التاريخي، التخيل السردي والتمثيل الاستعماري القديم، والتجربة الاستعمارية والهوية المرتبكة .

 وعلى الرغم من أن المؤلف وضع قوائم للفهارس في نهاية كل جزء فأنه خص هذه الفهارس بالجزء التاسع من موسوعته بالكامل  (ويغطي 434 صفحة). وهو يقول بهذا الصدد في توطئة هذا الجزء: "تؤدي الفهارس الكشفية وظيفة الدليل المفتاحي إلى محتويات الكتاب ومكوناته من مفاهيم ونصوص ومصادر وموضوعات  وهي تقود القارىء إلى مقاصده حيثما كانت". لقد اقتصر هذا الجزء على كشّافات موسعة لـ: المصطلحات والأعلام والمواقع والبلدان والأمم والقبائل والجماعات والكتب الواردة في المتن والأشعار والأمثال والمصادر والمراجع .

إن هذا الاستقراء السريع للموسوعة التي نلقي عليها الضوء، والمرور بعناوين موضوعاتها أو مفاتيح أبوابها التي تفضي إلى آفاق معرفية واسعة،إنما هو محض محاولة للتعريف بأوسع وأهم موسوعة من نوعها صدرت، عربياً، حتى الآن .

*******************************

أمواج ضابط بجوار الأدب / عبد الكريم يحيى الزيباري

حياةٌ واحدة لا تكفي، لتعش مرتين، انغمس في السيرة والمذكرات، لكن ليس كأمواج عبد الله إبراهيم، قام بمعالجة يوميات امتدت لنصف قرن من الزمان، كركوك، بغداد، وبيته الذي فجرته (القوات الصديقة) وحديقته التي لم يبق منها شيء/ ص82. وتستمر المغامرة بحفلة أثناء الحصار ضيف شرفها جان دمو، الذي كاد أنْ يغرق فندق السدير نوفوتيل بمياه حنفية البانيو، وصفحات كثيرة عن جان دمو. ثم عودة إلى 26 أيلول 1977 إلى القاهرة، ليكمل دراسته على نفقتهِ الخاصة، تناهت الى سمعه إشاعات إعادة الطلبة العراقيين بسبب توتر سياسي طارئ، في صالة انتظار الملحق الثقافي بالسفارة العراقية في القاهرة، تبين أنَّ الملحق يعرف عبد الله إبراهيم الذي سلَّمه الجائزة الأولى في إحدى المسابقات القصصية، حين كان يعمل معاوناً لمحافظ كركوك.

وأنْتَ تقرأ لأستاذ السَّرد د. عبد الله إبراهيم أمواجه، ستشعر بمتعة كبيرة، تختلف عن قراءة بقية كتبه، رغم أنَّ كلّ كتابٍ من كتبهِ، يُعدُّ برأيي كقارئ من أمَّهات الكتب في اختصاصهِ، أما أنْ تنفردَ به في لقاء قصير، لساعة أو أقل، فهذا يعادل قراءة عشرة كتب، إذا عرفت كيف تستثمر اللقاء.

وهو إذ كان يذكر أصدقاءه بأسمائهم وعناوينهم وتفاصيل حيواتهم، فاروق مصطفى صاحب السيارة البرتقالية الصغيرة التي تجوب الشوارع بلونٍ فريد لا تشاركها فيه سيارةٌ أخرى، وفي الصيف يطوف في بلاد الإغريق، والإسبان. ومغامرات الشاعر الأرمني «خاچيك گربيت آيدنجيان»، كتب مطولات شعرية ملتوية، استلهمت تاريخ أرمينيا بعنوان (الحشرة الأفيونية) ودفع ثمن نشره في مطبعة قديمة، المنضِّد لم يفرق بين السين والشين، فجاء العنوان (الحسرة الأفيونية) فرح الشاعر بالخطأ، كناية عن حسرة الشاعر على وطنه الذي أصبح ذكرى. ولنتخيَّل شاعراً يكتبُ بالعربية الفصيحة وهو لا يجيد نحواً ولا صرفاً، مكث الديوان، فمن أجلِ أنْ يقول الملك فيصل الثاني سيقول الملك فيصل اثنين.

عواد المعماري أمضى طفولته في محلة «بريادي» التي يمتزج فيها التركمان والكرد والعرب في بيت يعود ليهودي هُجِّر إلى فلسطين نهاية الأربعينيات. والبيت خان كبير تسكنه ست عشرة عائلة، مجتمع متعدد اللغات، والأعراق. وكان يعتز بلقبه «المعماري» لكنه تخلى عنه، كما تخليت أنا عن لقبي «الحمداني» احتقاراً للانتماءات العشائرية. أصبح عواد أستاذاً في جامعة بابل، ثمَّ أستاذا في المعهد الملكي للدراسات الدينية في الأردن، ثمَّ هاجر إلى كندا، ثمَّ خبيراً إعلامياً في المعهد الدبلوماسي في الدوحة، والتي غادرها بعد أشهر قليلة.

ليس بمقدوركَ أنْ تكون طبيباً ناجحاً وأديباً، لا ولا ضابطاً أو موظَّفاً، أو غير ذلك، قد ينجح الآحاد، تشيخوف، ستندال، نجيب محفوظ، أو تترك الطب والوظيفة كما فعلَ يوسف إدريس، ويحدثنا راكب الأمواج عن تجربةٍ مغايرة (ومن شهر لآخر يحضر رمضان محمد، ضابط في رتبة متوسطة، سَعى لأنْ يكون أديباً، لكن التربية الصارمة التي تلقاها حالت دون اندماجه الكامل في الأدب، فبقيَ مجاوراً للمنطقة الأدبية، إلى أنْ أحيل إلى التقاعد برتبة لواء في نهاية التسعينيات، ولطالما اصطحبَ رهطنا إلى صالة «القادة» الفخمة في نادي الضباط، واستدعيَ مرة واستجوب، وحوسب، لأنه دعا جملة من الصعاليك إلى قاعة كبار قادة الجيش العراقي)، فهل سوف يستسلم السيد اللواء؟ يضيف (وآخر عهدي به، زياراتي له، للفترة (2004- 2012) خلال أسفاري الصيفية إلى العراق كان منكَّباً على تدوين مخطوط ضخم عن تاريخ كركوك مذ عرفت باسمها القديم «أرابخا»).