ثمّة اعتقاد طاغٍ في الأدب العربي يتعلق بضرورة الطابع المتجهم للرواية وحجم الجديّة الذي تنطوي عليه، ومدى ارتباطها بالنمط المتجهم للروائي العربي نفسه، الأمر الذي وضعها في إطار جاد واحد لم تستطع التخلص منه أو الخروج من إطاره، ولعله السبب الحقيقي وراء اختفاء الأنماط الأخرى من الرواية في الأدب العربي، كالرواية العاطفية والبوليسية ورواية المغامرات أو التسلية، والأمر برمته عائد للفهم الخاطئ لوظيفة الرواية في عالمنا العربي، فهناك من يصر على أضفاء القدسية وضرورة الرصانة والبحث عن الموضوعات الاجتماعية الثقيلة والمعقدة، وهناك من لم يمتلك الأدوات اللازمة لابتكار انماط أخرى من الرواية لجهة شح الخيال.
وفي الوقت الذي يزخر فيه الأدب العالمي بنماذج وانماط روائية مدهشة ومتنوعة هدفها تقديم التسلية والمتعة للقارئ، يخلو الأدب العربي من مثل هذه الأنماط ويكاد يقتصر على نمط الرواية الكلاسيكية.
إن ارتباط الرواية بشخصية الروائي ـ المتجهم ـ الذي طالما نراه يجلس إلى طاولة المناقشة في الكثير من الندوات الأدبية، عابسًا متجهمًا لا تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهه الجاد، انعكس سلبًا على الأنماط الروائية المكتوبة، كما لو أن خفة الروح والطرافة والجوانب الفكهة من المحرمات روائيًا.
لقد أنتج مثل هذ الأدب أحادي الجانب قرّاءً متجهمين أيضًا، وغاب تنوع الذائقة لدى أغلب قرّاء الأدب العرب بشكل عام، ونشأت أجيال كاملة لا تعرف شيئًا عن الأنواع أو الأنماط الأخرى للرواية، كالرواية البوليسية وروايات الرعب والجاسوسية والمغامرات والروايات العاطفية، التي يعتقد كثيرون خطأً أنّها خاصة بالمراهقين والمراهقات وحسب، كما تداخلت الحدود الفاصلة بين روايات الفتيان أو اليافعين وروايات الكبار.
ولعل البعض يعتقد بأنّ الأمر مرتبط بثقافة المجتمعات العربية وطبيعة التناقضات والمشكلات التي تعيشها، تلك التي تضع عامل التسلية والترفيه في أسفل سلّم الأولويات لدى الفرد العربي، بينما يعزو الكثير من النقاد الأمر إلى رغبة الكتّاب بإضفاء الجانب التراجيدي على أعمالهم، كي يأخذه القرّاء على محمل الجد، الأمر الذي أقعدهم عن تجريب أنماط أخرى من الكتابة الروائية. وعلى الرغم من وجود مثل هذه الأنماط من القرّاء في أغلب المجتمعات وتنوع اهتماماتهم، حسب ثقافاتهم وحاجاتهم وأوقات فراغهم، ألّا أنّنا لا نجد مثل هذا التنوع لدى القرّاء العرب، إلّا في حدود ضيقة للغاية.
وتؤكد أغلب الدراسات النفسية المتعلقة بالأدب على أن القراءة بحد ذاتها لا تخلو من عناصر تفعيل القدرات الخيالية وبعث الانشراح ونزعة التأمّل لدى الأفراد، سواء كان ما يقرؤوه روايات جادّة أو فنتازية وغيرها. وبقدر تعلق الأمر بسوق الكتاب العربية، فثمة الكثير من التساؤلات التي يواجهها الكثير من الناشرين عن اختفاء روايات اليافعين التي تناسب أعمار الناشئة، ليس لجهة النمط الذي كُتبت فيه الرواية ولغتها وعدم تعقيدها، بل لجهة خلوها من الأفكار "الهدامة" ومشاهد الجنس وما شابه، كما أن الناشرين أنفسهم لا يأخذون الروايات من الأنماط الأخرى على محمل الجد ولا يتحمسون لنشرها ويلهثون فقط وراء الروايات الجادّة، لاعتقادهم الراسخ بعدم وجود شرائح أخرى ذات اهتمامات وذائقة مختلفة من القرّاء، حتّى بات الأمر يندرج ضمن سلوكيات القراءة المبهمة وتقاليدها عربيًا. وفي الواقع، طالما طرح الكثير من القرّاء، والقارئات تحديدًا، أسئلة عن الأنماط الأخرى من الروايات التي يجدونها في الأدب المترجم وحسب. وإذا كان الحديث يطول عن أسباب تلك الظاهرة وتحليلها، إلّا أن المؤكد هو هيمنة الطابع التجهمي على الرواية العربية وكتّابها بشكل يدعو للاستغراب.

عرض مقالات: