يلاحظ الباحث أن البحث في تطور اللغة النقدية وتحولاتها ما زال دون المطلوب، وهذه نتيجة متوقعة لأن الباحثين في تاريخ النقد العربي الحديث قد درجوا على البحث في المؤثرات التي تسهم في صوغ ملامح هذا النقد من حيث كونها محلية وأصيلة نابعة من التراث أم من حيث كونها مستوردة ومنقولة من حضارة أخرى نتيجة لتأثير الآخر، الغربي تحديداً، في ثقافتنا الراهنة من دون النظر في لغة هذا الخطاب وما يكتنفها من ظواهر لسانية خاصة لأن أغلب الباحثين كانوا ينظرون إلى اللغة على أنها وعاء محايد للفكر فحسب. وقد تكون لمثل هذا النزوع في الدرس والتحليل مسوغاته العلمية، بيد أننا نلاحظ أن لغة الخطاب النقدي العربي لم تحظ باهتمام كافٍ على الرغم من أن الصيغ الخطابية لكلام النقاد من أبرز التجليات التي تسهم في الكشف عن طبيعة الاتجاهات الفكرية والثقافية التي تصوغ تصورات هؤلاء النقاد وتحدد بوصلة عملهم النقدي ودرجة تأثرهم بالنظريات الأدبية سواء أكانت عربية أصيلة أم أجنبية مستوردة. فاللغة النقدية لغة وصف وتحليل وبناء أفكار واستنتاجات، بمعنى أنها لغة مخصوصة في لغة النص الأدبي، أي أنها ميتالغة، ولا بد لهذه اللغة أن تشهد تطوراً وتحولاتٍ في معجمها وبنياتها النحوية وما تعبر عنه تصوراتها الثقافية والفكرية حين يشهد النص الأدبي نفسه تطوراً وتحولاتٍ جوهرية في تصوره للتجربة البشرية وفي في طريقة تقديمه لهذه التجربة. ولذلك يمكن القول إن النتاج الأدبي الجديد، في الثقافة العربية نفسها أو في سواها من الثقافات، هو ما يدفع إلى التأثر بالنظريات النقدية الأجنبية لما ينطوي عليه من تحولات في الرؤيا والشكل والطريقة اللسانية في طرح التجربة الذاتية، فيجد النقاد أنفسهم في حاجة ماسة إلى تطوير لغتهم النقدية حتى يتمكنوا من صوغ تصورات نقدية تتناسب مع حاجات النص الأدبي نفسه. ويمكننا أن نصوغ الفرضية التي تربط بين تحولات الأدب بوصفه إبداعاً والكلام النقدي بوصفه تأملاً عقلياً لهذا الأدب. وهكذا حتى يكون النتاج الأدبي هو ما يدفع إلى تحريك حالة التفاعل مع النظريات الأدبية الأجنبية ومن ثم تطوير لغة النقد. ويمكن القول إن تطور لغة النقد، أو كلامه، لا يحدث إلا حين يمر الأدب بمرحلة انتقالية جوهرية مهمة، فلا تعود النظريات المتيسرة والعدة اللسانية المرتبطة بها في الثقافة النقدية التقليدية المحلية كافية لرصد التحولات العميقة في الأشكال الأدبية الجديدة التي هي نتاج تحولات مماثلة في الذائقة الأدبية لدى المبدعين ولدى الجمهور في آن واحد. ومن هذه اللحظات التاريخية الفريدة التي امتلك النتاج الأدبي زمام المبادرة فيها فكان هو الدافع الأساسي لسعي الخطاب النقدي إلى تجديد كلامه ومصطلحاته؛ كانت لحظة التحول من النتاج الشعري التقليدي، أو ما سيعرف لاحقاً بشعر الشطرين، إلى الشعر الحر أو ما عرف لاحقاً بشعر التفعيلة. وينبغي التنويه إلى أن هذا الزعم لا يعني أن تلك المرحلة قد شهدت موت الشعر التقليدي وانتهاءه؛ بل أن المقصود هو ظهور نتاج شعري جديد فيه مغايرة رؤيوية وشكلية، فكان أن تسيد هذا النتاج الأدبي للمشهد الشعري. فتكون النتيجة أن يطرح مثل هذا النتاج الشعري الجديد أسئلة ويثير قضايا تستلزم مقاربات نقدية مختلفة في الأدوات والتصورات والصياغات الكلامية مغايرة لتلك التي كانت سائدة في نقد الشعر قبل ظهور النتاج الشعري الجديد. وباختصار، فإن هذا النتاج الشعري الجديد يتطلب نقداً جديداً ذا لغة جديدة.
ومن الضروري هنا أن نبين مرة أخرى أننا نستخدم مصطلح اللغة بمعنى الكلام. إذ على وفق ما جاء به سوسور، في نطاق الثقافة الفرنسية، صار واضحاً أن دراسة ظاهرة اللغة البشرية تقول بضرورة التفريق بين مفهوم الكلام parole الذي يختص بأي إنتاج للكلام في لسان بعينه على وفق قوانين هذا اللسان، سواء أكان هذا الإنتاج كلاماً عادياً أم نصاً أدبياً أو تاريخياً أو فلسفياً ...إلخ، وأن مصطلح اللسان langue يختص بالإشارة إلى الألسنة المختلفة مثل اللسان العربي واللسان الألماني واللسان الروسي. أما دراسة ظاهرة قدرة الإنسان على استخدام الألسنة المختلفة فهي تقع ضمن ما يفهم من مصطلح اللغة أو language. ونلاحظ أن المتون العربية القديمة تكاد تخلوا من ذكر مصطلح اللغة، فهي تتحدث عن اللسان بمعنى اللغة، فقد ورد في الآيات 192-195 من سورة الشعراء قوله تعالى: " وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ". ويلاحظ هنا أن اللسان هنا هو ما نصطلح عليه في أيامنا هذه باللغة العربية. وينصرف معنى مصطلح الكلام في الثقافة العربية إلى معانٍ متعددة يضيق المجال عن الخوض فيها؛ أما في الثقافة الإنجليزية، فإنهم غالباً ما يعبرون عن مصطلحي اللسان واللغة بمصطلح واحد هو language، ويضعونه قسيماً لمصطلح الكلام.
إذن، يفرض النص الأدبي الجديد على النقد لا أن يجدد أدواته وتصوراته ومنطلقاته الفكرية والفلسفية فحسب، وإنما أن يطور لغته أيضاً حتى يتمكن من صوغ مدونته النقدية المغايرة. وأن من شروط نجاح قيام النص الأدبي الجديد بدوره هذا أن يقترن وجوده بإنتاج نصوص شعرية جديدة تعبر عن رؤيا جديدة تقوم على قطيعة حاسمة مع الذائقة الشعرية التقليدية حتى تؤسس لذائقة جديدة في التلقي. وهنا تبرز أهمية ما أسميه باللحظة السيابية. فقد أنجز السياب متناً شعرياً مغايراً للنمط الشعري التقليدي ولشعر من عاصره حتى أنه يمكن القول إن للمتن الشعري السيابي أثراً أعظم من أثر سواه من شعراء الخمسينيات في تحديث الخطاب النقدي العربي من النواحي كافة. ومن السمات التي ساعدت على فاعلية هذا المتن الشعري الجديد أنه قدم للأدب العربي نصوصاً شعرية مؤسسة مثل (النهر والموت) و(أغنية في شهر آب) و(أنشودة المطر)، وهي نصوص أظهر الدرس والتحليل وبناء الاستنتاجات النقدية، باستثمار نظريات ومعارف وصيغ تعبيرية جديدة، أنها كانت تجسيداً لرؤيا مغايرة، وهذه الرؤيا قد وضعت في صيغة شعرية فاعلة. لذلك رأينا كيف كانت هذه النصوص المؤسسة مرصودة من خيرة العقول النقدية العربية التي تفاعلت معها على نحو خلاق وكتبت عنها وفيها كتباً ودراسات ومقالات أسهمت في ذيوع التجربة الشعرية الجديدة من جهة وفي تطوير النقد ولغته من جهة أخرى.
فاللغة النقدية تستمد عناصر قوتها ونماءها من العلاقات المعقدة التي هي حصيلة تفاعل ما تقدمه منابع التنوع الثقافي الغزيرة التي يجب أن تكون حاضرة في الخطاب النقدي نتيجة حضورها في النص الأدبي الجديد نفسه، وفي ما يقترحه هذا النص من تجليات لسانية متفردة. وتتفاعل اللغة النقدية مع ما تفرضه ذائقة الذات المنشئة للنص النقدي من صيغ كلامية وأسلوبية خاصة. وينبغي توكيد أهمية السلامة النحوية التي تعدُّ رافداً أساسياً مهماً في لغة النقد الأدبي. وحتى لا نغفل أهمية التراث النقدي العربي في حديثنا عن اللغة النقدية، فسوف يكون ضرورياً الإشارة إلى أهمية معرفة الناقد بدور معاني النحو، وهي المعاني المتحصلة من البناء النحوي نفسه، في تشكيل المستويات الدلالية المختلفة في لغة النص الأدبي من جهة، وفي تطوير لغة مدونته النقدية من جهة أخرى؛ وهي المعرفة التي عبر عنها عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، ونرى أنها ما زالت فاعلة في أنماط الخطاب عامة، وفي الخطاب النقدي خاصة.
ولو فحصنا أثر المتن الشعري السيابي على لغة النقد الأدبي على وفق هذا التصور، لرأينا كيف ارتقت لغة النقد مدارج كبرى جديدة. فالمصطلحات المتخصصة في نقد الشعر، وهي من أبرز مكونات لغة النقد، قد تغيرت واغتنت على نحو جوهري، فقد أضيف لها قدر غير يسير من جديد المصطلحات، ونشأت الحاجة إلى إعادة النظر في قديم المصطلحات، فتحول مصطلح الشعر العمودي إلى شعر الشطرين حتى يكون متوافقاً مع مصطلح الشعر الحر الذي استبدل لاحقاً بمصطلح شعر التفعيلة. وأعيد النظر في قيمة بعض الظواهر الشعرية القديمة مثل مصطلحات الأغراض الشعرية ووحدة البيت وعدم جواز الجمع بين عدد من بحور الشعر، فالتسميط، على سبيل المثال، قد استبدل بمصطلح القوافي المرسلة أو القوافي المتنوعة. وهذا المصطلح الجديد يختلف عن مصطلح التسميط لأن القوافي المرسلة لا تخضع لشرط التكرار المنتظم كما يحدث في ظاهرة التسميط، هذا فضلاً عن أن اشتغال مصطلح التسميط يكون في بيئة اصطلاحية مستمدة من تصور تقليدي معين للشعر. واغتنت لغة النقد بمصطلح القوافي الداخلية والإيقاع الداخلي، وهما مصطلحان يصفان ظواهر نصية اقترحها متن التجربة الشعرية الحديثة بدءاً من السياب ونازك الملائكة، كما ظهرت مصطلحات (التجربة الشعرية) و(الرؤيا) و(الأسطورة) فتعاظمت الحمولة المعرفية في لغة النقد. ومع أن ازدهار تجربة السياب الشعرية كان لفترة قصيرة لا تتجاوز العقدين إلا قليلاً، إلا أنها أنتجت مصطلحاً مهماً هو (المراحل الشعرية) في حياة الشاعر الإبداعية فصرنا نتحدث عن تحولات في الرؤيا تتوافق مع تحولات المراحل المختلفة في حياة الشاعر.
وعلى أية حال، فإن مهمة النقد الجديد المصاحب للظواهر الإبداعية الجديدة ليست بالمهمة الهينة؛ فقد كان على هذا النقد أن يطور من أدواته اللسانية على نحو يؤدي إلى تكوين ذائقة تلقٍ جديدة لدى الجمهور لتكون عاملاً إيجابياً في ذيوع الشعر الجديد بإظهار مزاياه الفنية والفكرية. ولم يكن ممكناً أن يكتب النجاح لهذه المهمة العسيرة لو لم يكن من تصدوا لها من كبار النقد الذين استطاعوا تطوير لغة نقدية تنجز وظيفة الوصف والتحليل من دون أن تغيب وظيفة التوجيه عنها. إن لغة المدونات النقدية لنقاد الحداثة تظهر تنوعاً لسانياً وأداءً كلامياً ناصعاً يعكس التفاعل الخلاق بين لغة النص الأدبي ولغة النقد الأدبي؛ وقد كان للنص السيابي دور بارز في الإسهام بتشكيل ملامح هذه اللغة الاصطلاحية والفنية والفكرية.
ولو عطفنا النظر إلى دراسة السرد القصصي القديم والحديث، لرأينا جسامة ما كان يعانيه النقد القديم من نقص فادح في المصطلح وفي التطبيق. إذ بعد أن أنجز ذلك النقد القسمة التقليدية للإبداع الأدبي إلى شعر ونثر، جرى تكريس دراسة الشعر فكتب فيه النقاد مئات من الكتب في طبيعة الشعر العربي خاصة، فدرسوه من كافة الوجوه بما تيسر لهم من معرفة، كما كتبوا في طبيعة شعرية بعض الشعراء. ولم يكتبوا في دراسة النثر العربي شيئاً مهماً ومن ظاهر هذا الإهمال لنقد النثر أنهم لم يكتبوا في نقد المقامة مع كونها فناً أدبياً رفيعاً لأنهم كانوا ينظرون إلى فنون النثر على أنها دون الفنون الشعرية منزلة.
وقد يكون مثل هذا الإرث المهم من الكتابة النقدية كافياً للتعامل مع إبداع يعكس ثقافة عصر لها تصورات ثابتة وسرمدية عن الحياة والشعر والأدب؛ ولكنه قطعاً لن يكون كافياً حين يكون الإبداع نابعاً من ثقافة ذات جوهر متغير، جوهر يحتفي بالصيرورة والتحول. وهكذا فحين ظهرت القصة القصيرة والرواية في مجال الإبداع الأدبي العربي الحديث، كانت هناك حاجة ماسة في أن يجدد النقد الأدبي لغته ومصطلحاته وتصوراته حتى تنسجم مع حاجات هذا النمط الإبداعي الممثل للثقافة الجديدة. والحق أقول إن النقد الأدبي العربي الحديث، مستفيداً من المصطلحات والجديدة المأخوذة من الآخر، هو ما أنجز مهمة الاستجابة للتحديات التي طرحها الخطاب الأدبي العربي في مجال السرد القصصي والروائي على نحو جديد تماماً. وفضلاً عن ذلك فإن هذا النقد الأدبي العربي الحديث هو من أعاد اكتشاف مزايا النصوص السردية العربية القديمة من حكم وأمثال ومقامات ومرويات وحكايات. أليس كذلك؟

عرض مقالات: