"أنا منذ زمن احاول أن اكتب عني، لكني اضيع بين متاهات الوحشة" كان هذا السطر الاول في المجموعة القصصية الصادرة عن دار المدى "سيدة الظلمة وظلها" لسعاد الجزائري وقد افتتحت القصة الاولى فيها بإقرار الكتابة عن الذات لولا التوهان في متاهات الوحشة، وكأنها لا تريد لرحلتها الانفراد والتوحد، فبدأت قافلة القص تحمل  شخوصا تنتقيهم بدراية وتروٍ؛ قافلتها التي كانت مؤثثة بعاداتها اللغوية الخاصة التي تتكسر على اتونها نصوص المألوف والمتداول الامر الذي يستدعي القارئ كي يتباطأ في قراءة السطور محاولا ان يتأمل النسيج اللغوي الذي اعتملت فيه صناعة المفردة ونحتت على أديمه تلك العبارات التي تلامس الوجدان وتستنهض الذاكرة التي تبيح لنا التلصص الى الوراء للنبش في تلك الطفولة وما بها من تشوهات حيناً أو القفز على اوتار براعم الأنوثة وهي تتنفس النضوج لتصل بنا نحو ممارسة الحياة بحقيقتها دون رتوش حيناً آخر، فتناولت موضوعات الحب والخيانة والتناقضات في العلاقة بين الرجل والمرأة وألقت الضوء على كل ما يخالف التفكير المنطقي في القضايا المجتمعية .

والكاتبة في مجمل خط سيرها  كانت كمن ينسق تتابع القصص بتتابع الموضوعات وفقا لمراحل زمنية هي تسلسلها على ان يكون الخيط الرابط بينها دوما هو ثيمة الفقد وربما الخذلان احيانا .

تشظي حالة الفقد عبر مراوغة النسيج القصصي

ان القاصة (سعاد الجزائري ) تعكس رؤاها الذاتية نحو الحياة في العراق ، فقد ارادت ان تقول لنا هذه هي الرؤى التي املكها للكتابة والقص بينما هي توهمنا بذاتها التي تنطلق منها فقد كانت تلك الذات تحمل ذوات الآخرين باختراقها الحواس ومجانستها الابتكارات اللغوية على وفق حيثيات اللقطة الذهنية التي ربما تحتاج الى مونتاج لإعادة تقطيع الصور وحثها على التأثير في الآخر وكيفية انسجامها، ضمن الوحدة الفنية في عملية السرد ، وهنا تدخل الخبرة القصصية والتجربة الحياتية؛ خاصة ان الكاتبة لامست باشتغالها هموما انثوية على درجة عالية من الحساسية كالخيانة مثلا هذا غير استنطاقها فعل المواطنة في بعض قصصها جاعلة من الوطن حبيبا تغازله فضلا عن التقاطها مجموعة من الأعطاب الأجتماعية التي نخرت البنية التربوية واثرت في الطفولة بشكل سلبي كالمعتقدات والإيهامات التي يتربى عليها الطفل منذ صغره حتى نشوئه محملاً بمخلفات نفسية مرجعها تنامي الشعور بسوداوية الواقع المرتكز على افكار مغلوطة وراسخة في الذهن، والسرد هنا اتخذ على عاتقه ان يدور على وفق محور واحد يهيمن على اغلب النصوص ويطبعها بطابع الفقدان واقصد هنا فقدان الأهلية للأمومة وفقدان الذكريات الجميلة  وفقدان الأشخاص المهمين والفاعلين في حياتنا او في مجموعة حيوات الشخوص الذين تتعمد القاصة وصفهم من الداخل عن طريق استبطانها العميق لهمومهم وعذاباتهم حتى تصبح تلك الصفات فلسفة وآراء يتبناها المؤلف فيغدو عارفا عن الشخصيات ما لا تعرفه هي عن نفسها فتتكشف بواطنها امام القارئ كما في قصة (الوحدة .. حب منفرد).

  وتلجأ القاصة في احيان كثيرة الى التماهي مع الشخصيات حتى لنشعر بها تلغي المسافة الفاصلة بينها وبين العديد من ابطالها وقد نشعر في سعيها للتماهي بهذه الطريقة مخصوصاً بشكل ما مع الشخصيات النسائية، فنجدها لا تصنع لهم وجودا فرديا بل تشكل منهم نماذج لمبدعتهم نفسها وهذا شائع في قصصها التي تكون بطلتها امرأة مثل قصة (الأسيرة) وقد سعت القاصة الى اظهار النماذج السلبية للشخوص بإشارات تلميحية دون الحاح  في وصفها إذ ان هناك مجسات واشارات فيها من الجزالة والعمق ما ينير سراجا للكشف عنها من خلال عبارة او عبارتين او ربما مقطع صغير وينبغي الإشارة هنا الى ان القاصة قد حالفها التوفيق بدرجات متفاوتة في التعامل مع مجموعة من الشخصيات السلبية في قصصها بحيث يشعر القارئ بانه امام شخوص حية ـ وليس أمام نماذج جامدة ـ لها سقطاتها ولديها ايضاً ما تبرر به هذه السقطات وقبل كل شيء لنا ان ندينها وفقاً لأفعال ملموسة في ثنايا القص ومن ذلك السياسي الذي يغريه نهد العاهرة للتخلي عن صديق عمره في قصة (سلطة النهد) والزوج الخائن في قصة (جنح فراشة) أو قصة(العشاء جاهز) والام التي تخيف ابنتها بتعاليم غاية في الصرامة والتخلف في قصة (سور الحزن)  فجميعها تؤدي الهدف نفسه .

ان القاصة في سردها اعتمدت الجمل المكثفة التي تستدرج القارئ الى ساحات الريع الكلامي دون تكلف بل انها اشغلت ذهن القارئ وسحبته الى منطقة الحبور والاحتفاء بالألفاظ والتراكيب اللغوية التي تحاول دائما ان تثير الاغراء لديه لمواصلة  تتبع الحدث دون انقطاع فهي تخرجه من فخاخ القوالب الجاهزة لحواضن الافكار النابضة بالتجدد،  متكئة على  اناقة فعل اللغة المكتنزة التي تشع كشمس غاربة أو وهج نار تلظى بالعشق لأشكال تعبيرية يكون مصدرها (المجاز) الذي يفجر الطاقات الكامنة ويسمو بها نحو إحداث عملية فبركة مقصودة ومحببة في قاموس اللغة وهي بتقانتها تلك تذهب الى ابعد الحدود، تلامس الكلمات كما تلامس الورود والعطور وتغري بالبوح من دون النزوح نحو الاغراب بل ان القارئ يشعر بطبيعة اللغة على الرغم من استخدامها طرقاً مختلفة كالتكثيف والتقشف في الكلام والمباغتة غير المتوقعة لنمو المشاهد بما يشعرنا بوحدة العلاقة ما بين الكاتبة الأنثى خارج النص والأنثى التي في داخله ونعني بذلك عضوية العلاقة ما بين المؤلفة ولغتها وشخصياتها وما يثبت ذلك استخدامها اسم (سعاد) كلما احتاجت ان تذكر  اسم امرأة في قصة ما، وكلما ارادت ان تسمي بطلاتها تحديدا،  وخلافا لذلك نجدها في طرقها للدلالات المفتوحة دون مسميات للشخوص تكون غايتها ان تقودنا الى الصوت الخفي للقاصة حيث تنتاب المهمة القصصية بكامل وعيها القصصي كي تصل بنا الى رحاب بلاغية تمتد وكأنها تغلف لوحة للنقش تحمل في تفاصيلها آثار ذاكرة امتدت ما بين العويل للنساء او الغناء وما بين الحديث للرجال وفعل التمجيد او التنكيل بدورهم وهذه التحولات في المعاني تذهب بنا الى قصدية في فلسفة الدهشة التي تعتنقها القاصة وتقودنا الى غرفها العديدة ما بين المقابلات اللغوية والمطارق الفكرية على الذهن  التي تكون مطروحة  بذائقة كتابية عالية بحيث تتبنى تحنيطها في اذهاننا كي لا تتسرب من هنا او هناك .

 

عرض مقالات: