لا اعرف ولا اذكر كيف حصلت على مذكرات قاسم محمد الرجب الاستاذ الكتبي المعروف بمكتبته البغدادية الشهيرة التي يرقى تأسيسها الى الثلث الاول من القرن العشرين في سوق السراي.
كنت ابحث في مكتبتي عن كتاب احتاج اليه لتدقيق معلومة في الركن المخصص للنخب العراقية الرائدة من الاحيائيين في الشعر والنثر الذين حملوا راية النهضة الحضارية منذ الربع الاخير من القرن التاسع عشر وحتى النصف الاول من القرن الماضي. وكعادتي وانا ابحث عن كتاب، اتوقف عند الكتب القديمة التي بعد العهد بيني وبينها، واحيانا اجد كتاباً او كراساً مختبئاً في احدى الزوايا يغطيه الغبار، واتناوله وانفض عنه الغبار الذي تراكم، ويدفعني الفضول الى تصفحه. وقد انسى الكتاب الاصلي الذي كنت ابحث عنه واستغرق فيما عثرت عليه بالمصادفة. وهذا ما حدث معي هذه المرة، فبدل ان اعثر على ضالتي، وجدت مذكرات قاسم محمد الرجب.
وقلت في نفسي ربما اشتريت هذا الكتاب من شارع المتنبي او من مكتبات شارع السعدون، وربما حصلت عليه من احد معارض الكتب الدورية في بغداد واربيل. وأياً كانت المناسبة التي اتاحت لي ان امتلك هذه المذكرات واضعها في مكتبتي فهي مناسبة سعيدة، فوجدتني احملها مترفقاً واخذت في تصفحها وقراءة محتوياتها، وكالعادة ايضاً، نسيت كل شيء آخر، واندمجت في عوالم الصفحات التي أقرأها.

النشأة .. البدايات

تفصح مذكرات الرجب منذ البدء الى انه نشأ من اسرة رقيقة الحال في الاعظمية، ولهذا انقطع عن المدرسة حينما كان في الصف السادس الابتدائي سنة 1930 – 1931 واتصل بسوق السراي عاملاً لدى نعمان الاعظمي صاحب (المكتبة العربية) براتب شهري قدره 600 فلس، وحينما احتج الرجب على شحة هذا الراتب زاده الاعظمي الى (750) فلساً في الشهر، وبعد سنة كاملة زاده الى (900) فلس، وبقى سنتين يعمل بهذا الراتب الضئيل.
كان سوق السراي آنذاك زاخراً بالمكتبات الصغيرة والكبيرة، امثال (المكتبة الوطنية) لعبد الحميد زاهد و(المكتبة الاهلية) لعبد الامير الحيدري و(المكتبة العصرية) لمحمود حلمي و (مكتبة الشرق) لعبد الكريم خضر. وهناك من يعرض بضاعته على الرصيف كأحمد كاظمية والحاج محمد وسامح اسماعيل. ومن المكتبات الصغيرة التي استمرت بصغرها لسنوات طويلة (مكتبة التجدد) لحقي بكر صدقي و (مكتبة الشبيب) لرشيد عبد الجليل و (مكتبة الزوراء) لحسين الفلفلي، اذ لم تتقدم هذه المكتبات بالرغم من وجود طاقات من الذكاء عند البعض من اصحابها او حسن معاملتهم مع الآخرين.
وكانت المكتبة العربية لنعمان الاعظمي – مجال عمل صاحب المذكرات – كبرى تلك المكتبات في السوق والعراق كله، وكان صاحبها الاعظمي عارفاً بالكتب، ذواقا باختيار ما ينشره ويطبعه من الكتب القديمة، عالما بالكتب الخطية، بل كان الوحيد الذي يفهم هذا الفن ويعتني بتسويق الكتاب المخطوط وعرضه.
وكان سوق الكتاب ضعيفا والمطبوعات قليلة والامية متفشية، كما ان الكتب الخطية لا تتحرك ولا سوق لها. فاذا احرز الاعظمي بعضها حزمها وسافر بها الى مصر لبيعها او يستبدلها بالكتب المطبوعة. وكان اذا باع كتابا يتغزل به، ويطرق مجلدا بمجلد ليظهر له صوتا كما يفعل باعة الاحذية، ويصيح: "كل الصيد في جوف الفرا".

وقفة لا بد منها

والحق، انه رغم استغراقي في نشأة وبدايات قاسم محمد الرجب في سوق السراي، الا ان ما استوقفني في مذكراته بشكل شامل ثلاثة امور:
الاول، غياب الينابيع التاريخية لهذا السوق التي ربما ترقى الى "سوق الثلاثاء" الشهير في العصر السلجوقي لبغداد في زمن السلطان ملكشاه. وفي هذا الصدد يقول الباحث الدكتور عماد عبد السلام رؤوف – في مبحث تاريخي مهم -: في اواخر القرن الخامس للهجرة لم تكن صورة المنطقة التي يقع فيها سوق السراي وما حوله، وبضمنها القشلة وشارع المتنبي، بل والمحلات المجاورة لها قد تحددت بعد، صحيح ان المنطقة كلها تعد القسم الجنوبي الشرقي من محلة واسعة عرفت بسوق الثلاثاء نسبة الى سوق قديمة كانت تعقد في هذا الجزء من ارض بغداد في عهود ما قبل تأسيسها كمدينة على يد المنصور العباسي.
ويستدرك الدكتور رؤوف: الا ان ما نملكه من معلومات عن معالم هذا السوق ظلت قليلة وغير واضحة، واهم ما نفتقده من هذه المعلومات الاسلوب الذي تحول فيه هذا السوق المؤقت كما يفهم من اسمه الى سوق دائمة، تكتظ بالدكاكين وتحيط بها المساكن وتتخللها الدروب. ان السعة غير العادية لهذا السوق تدل على ان نشوءه كان في عصر لم يكن الجانب الشرقي من بغداد قد كثرت فيه العمارة، ومن المؤكد انه ينتمي الى عصر كانت تغلب عليه الزراعة والحياة الريفية في هذه الارض، قبل ان يمتد اليها العمران هابطاً من اعلى الجانب الشرقي، حيث الرصافة وما يليها.
اما الامر الثاني، فهو غياب الصلة او الربط بين سوق السراي وشارع المتنبي، خصوصا وان العقود الثلاثة الاخيرة شهدت انحساراً للكتب والمكتبات من السوق المذكورة، وانسحابها معا الى شارع المتنبي المجاور الذي اصبح قبلة للمثقف العراقي وقدس اقداسه المعرفة والعلم والجمال. علما بان هذا الشارع عرف في الماضي القريب بشارع (الاكمكخانه) أي شارع المخابز العسكرية العثمانية، وهو شارع ما زال يمتد على نحو مستقيم ومتعامد بين شاطئ دجلة وشارع الرشيد، متجاوزاً مبنى الاكمكخانه حتى يعترضه على نحو عمودي يوازي درباً طويلاً يصل بين محلة (جديد حسن باشا) من الشمال الغربي ومحلة (الدنكجيه) من الجنوب الشرقي، فلا يستطيع السائر في هذا الشارع الا ان يتخذ طريقه يساراً باتجاه المحلة الاولى او يميناً باتجاه الثانية.
اما الامر الثالث والاخير، فهو عدم معاينة الكاتب لمأزق الحداثة في الثقافة العراقية وما قادت اليه الصراعات الفكرية والسياسية من تفتت لمشروع حداثي واعد كانت اربعينيات القرن العشرين وخمسينياته تحمله الى العراق، بل وتشهد على مساراته وبنائه.

العصامية تصنع المعجزات

ظل الفتى قاسم الرجب خمس سنوات عاملا اجيرا لدى الاعظمي في مكتبته الشهيرة من دون ان ينقطع عن دراسته المسائية في المأمونية الكائنة في ساحة الميدان وقتذاك، متمرناً على المشي ليلاً في طريق العودة الى بيته، فاستطاع ان يوفر بعض النقود ليشتري بها اولا اجزاء كتاب "الاغاني" لأبي الفرج الاصفهاني. ولهذا الكتاب – كما يقول – الفضل في اذكاء روح المطالعة التي احبها كثيرا مع اختلاطه اليومي بمرتادي السوق من العلماء والادباء امثال: طه الراوي الذي يعده اكبر مشجع ومرغب للكتاب في جميع مجالسه الرسمية والبيتية. وكذلك عباس العزاوي المحامي الذي كان اكبر زبون للسوق وللكتاب.
واختلط الرجب ايضا بالكثير من اليهود الذين كانوا يتاجرون بالمصاحف ولوحات الآيات القرآنية، وعرف من خلالهم استراتيجية البيع بأقل الارباح عندما يتزايد الطلب على كم معروضاتهم. وكان يرتاد المكتبة العامة في الباب المعظم ومكتبة المتحف العراقي في شارع المأمون مستفيداً من معرفته بكوركيس عواد مدير المكتبة وساطع الحصري مدير الآثار، مطلعا على الغريب والنادر من الكتب المطبوعة بعناية المستشرقين او مطبوعات الهند وغيرها مما لم يكن يصل الى سوق الكتب حينه.
وفي عام 1936 يبتسم له الحظ بعد ان عانى ما عانى من فقر وتعب وبؤس وعدم تقدير، فيقرر استدانة مبلغ اربعة دنانير ونصف من احدى قريباته (وهو مبلغ جسيم في ذلك الوقت على حد تعبيره) فيذهب به مسرعاً الى المصرف العثماني ليحوله الى شركة الكتبي (لوزاك) في لندن مقابل ان تبعث له بنسخة من "معجم الادباء" لياقوت الحموي، وهو يقع في سبعة مجلدات، وبعد ايام تصل اليه النسخة كاملة فيعرضها على كلية بغداد للآباء اليسوعيين في الصليخ، وخلال دقائق يربح من صفقته ثلاثة دنانير ونصف دينار، وبذلك ربح راتبه في يوم واحد.
وتتكرر مثل هذه الصفقة لمدة ثلاثة اشهر متواصلة وهو يكتنز الارباح ويراكمها، واذا بخاله يبعث له مبلغ خمسة وعشرون ديناراً عارضاً عليه فتح مكتبة معه في سوق السراي، فيرسل بعض المبلغ الى مصر وبعضه الى اوربا طالبا ما عرف من مختلف الكتب، ثم يجد احد الدكاكين الفارغة الصغيرة في وسط سوق السراي، بعد ان شد عزيمته وساعده كثيراً البعض ممن التقى بهم يوم كان يعمل عند نعمان الاعظمي، خصوصا صديقه الشاعر عبد الستار القره غولي (خال الباحث عزيز الحجيه) وهو من اقترح عليه تسمية مكتبته باسم (المثنى) تيمنا بالقائد العربي المثنى بن حارث الشيباني.
وتتطور هذه المكتبة وتتسع داخل سوق السراي على مر السنين، ثم يفتح لها فرعاً آخر في الباب الشرقي في الركن المطل على ساحة التحرير وشارع السعدون معا ضمن عمارة مرجان المعروفة بعائديتها وتصميمها للمعمار الرائد جعفر علاوي.

حكايات وطرائف

الحكايات والطرائف التي يرويها قاسم محمد الرجب عديدة وممتعة، خصوصا ما يجري في ايام الجمع حينما تقام سوق المزاد وتباع الكتب فيها بطريقة الهرج، ويتبنى هذا البيع عبد الحميد زاهد بصوته ذي النبرات اللطيفة، الا ان ما يعرض في هذا المزاد لم يكن في الغالب لا من سقط المتاع وما يبور عند اصحاب المكتبات، فيدبروا مؤامرة على الزبائن في اقامة المزاد.
ويورد الرجب جهل باعة الكتب في ذلك الزمان، اذ ان الكثير منهم لا يعرف القراءة والكتابة، والبعض الآخر دخل المدارس الليلية متأخراً فتعلم قليلاً، ومن كان يعرف القراءة والكتابة لم يكن عنده الرغبة في قراءة شيء.
واكثر اصحاب المكتبات لا تجد بينهم من يفهم الكتب سوى المرحوم حسين الفلفلي، فهو متوقد الذكاء كثير الوسواس. ومن الادلة على ذلك ان لا يسمح لأحد بدخول مكتبته مهما كانت منزلته وصداقته معه، بل لا يسمح بدخولها حتى لأولاده، ولذا تراه دائما واقفاً بباب المكتبة، مكدساً الكتب المدرسية المستعملة لتكون حائلاً دون الدخول لمن يريد ذلك، وحتى لو ذهب الى قضاء حاجة او عمل فانه يغلق المكتبة ولو كان هناك ببابها عشرات الاصدقاء.
ومن عملاء السوق الفضلاء الشيخ امجد الزهاوي، وهو يقتني كتب الحديث والفقه والتفسير وقليلا من كتب التاريخ والادب، واذا اراد هذا الشيخ الدخول الى المكتبة، فانه لا يدخلها قبل ان يخلع نعليه ويضعها تحت ابطه، وهو بهذا يتحاشى ان يدوس ورقة، اذ ربما كان في تلك الورقة لفظ الجلالة او اي اسم آخر مقدس.
وكان اشهر زبون للسوق هو عباس العزاوي المحامي، فكان يتردد اربع مرات او اكثر في كل يوم، واذا ما وقع كتاب خطي بين يديه ولم يشتره فانه يبقى سنوات دون ان يباع، حيث لم يكن هناك يومذاك من ينتقي المخطوطات.
وكان من عملاء سوق السراي زبون من اكابر شيوخ العمارة ونائب في مجلس الامة، هو الشيخ فالح الصيهود، وكان انعقاد دورة المجلس يسكن بغداد ويتردد على السوق، فيطلب من اصحاب المكتبات كل الكتب التي تبحث في الامور الجنسية كالقصص والملح والمناظرات مثل رجوع الشيخ الى صباه والايضاح في علم النكاح ومحاضرات الادباء للراغب الاصبهاني وزهر الربيع وغير ذلك من الكتب. وكان يقتني الكتب من دون مساومة، وربما دفع سعر الكتاب مضاعفاً باختياره. فمثلا كتاب عيون الاخبار لابن قتيبة يتكون من اربعة مجلدات وفي المجلد الرابع منه كتاب خاص بالنساء، ولذا فانه يشتري الكتاب كاملا ويدفع ثمنه، الا انه يترك المجلدات الاخرى ويكتفي بالرابع.
وتلك الايام نتداولها بين الناس ..