في رواية "أسد البصرة" والتي وضعها الكاتب في ثلاثة اقسام تاريخية متحركة ترجع الى الاحتلال الاول للعراق من قبل بريطانيا بعد الحرب العالمية الاولى لتنتهي بالاحتلال الاخير للعراق سنة 2003 اختار الروائي البصرة لمعالجة مشكلة الهوية في العراق والتي لم تكن تمر بأزمة استقبال الآخر والمعايشة معهم والزيجات المختلطة الاديان وعرض معاناتهم. تمكن السارد من ذكر الخلفية التاريخية لثلاث فئات تعرضت للإبادة والتهجير، وجدت في البصرة مكانا آمنا لجميع الاجناس وبسرديته .. هناك ثلاث نساء يتنافسن على من الذي ظلم تاريخيا اكثر من الاخر! فهناك ابادة اليهود على يد هتلر "لم تكن (هيلا) تقبل بأقل من ستة ملايين ضحية كعدد مهول للقتلى اليهود على أيدي النازيين بين عامي 1939 و1945 "علما بإن عددا غير قليل من هؤلاء لم يكونوا من اليهود، حرص هتلر على إبادة عدد منهم لتنقية العنصر الجرماني" وفي البصرة ستجد من يتكلم عن إبادة الارمن على لسان (ميساك) " التي لن تغفر لأحد قوله أن عدد القتلى الأرمن كان أقل من ثلاثة ملايين ضحية متجاهلة ذكر "مئات الالاف من السريان والكلدان والآشوريين واليونانيين النبطيين ممن شملتهم المجزرة العثمانية". كما يتطرق السارد الى امرأة فلسطينية من سكان حيفا تقول بإن "لا شتات يوازي الشتات الفلسطيني، وتحصي الحوادث الجسيمة في قائمة تضم نحو ثمانين مجزرة حدثت بين عامي 1937 و1948"

 غياب عنصر الاختيار

شخصية "موشي" اليهودي او "خاجيك "الارمني او حتى "امل" المسلم هي من سوف تعبر بعلاقاتها المتشابكة عن طبيعة المجتمع العراقي المتنوع، تعبر عن هويات دينية مختلفة هي عبارة عن شخصية البطل في رواية (أسد البصرة) التي تفسر لنا اشكالية هوية المواطن العراقي من خلالها، فتلك الشخصية ولدت في تاريخ سياسي معقد هو 1963 حيث يشاع ان والده اليهودي (مائير شلومو) المترجم في القنصلية البريطانية بالبصرة قد تزوج من امه الارمنية (نوفا) الطباخة، يقتل الاب من قبل الحرس القومي بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي ويتم اعدام الام بعد ان تضع ولديها في المعتقل، ويتم تبني هذا الطفل من قبل اسرة مسلمة ! نحن امام شخصية تمثل العراق (البصرة) في جزء منها يهودي ،وفي قسم اخر ارمني ، وفي اتجاه ثالث مسلم، وفي داخل هذا الاسلام يمكن ان يكون فيه تفرعات مذهبية، وثقافية، وتلك الشخصية لم تختر هويتها، بل فرضتها الظروف والواقع المتنوع لطبيعة المجتمع.

 الهروب للأصول ام البقاء لمواجهة المصير

يقدم لنا السارد الشخصيات وهي تعيش في العراق المحتل امريكيا، ويسلط الضوء على خلفية كل ثلاث شخصيات رئيسة في الرواية، اهمها الشخصية المحورية (موشي) حينما يكون في بيت العمة اليهودية (هيلا) التي تلح عليه ان يهاجر معها الى إسرائيل، مستخدما الحوار. اما ماريو فهو روائي من بيرو يزور العراق-بغداد-ويفكر موشي ان يقص حكايته لتكون رواية عظيمة، اما خالته الارمنية (ميسك) فهي تلح عليه للهجرة معها الى ارمينيا، وهو في بيت خالته له اسم آخر ودين مختلف هو هنا (خاجيك) خالته تجمع قصاصات الجرائد التي تتحدث عن استهداف الارمن من قبل المتطرفين وتعدها سببا وجيها لترك العراق والهجرة الى ارمينيا "اغتيال مترجمين أرمنيين من قبل ميليشات في البصرة ..."مقتل مسيحي وشقيقته والاستيلاء على دارهما في البصرة" – (لازم تطلع من العراق!).

الإسقاطات التاريخية والغرائبية

تمكن الروائي "ضياء جبيلي" من التعامل بذكاء مع الواقع المملوء بالتناقضات المعقدة من خلال اعادة صياغة أسطورة أسد بابل ، وبإسقاطات تاريخية على ذلك النصب لأسد بابل في منطقة العشار "الذي كان يحاكي اسد بابل الأثري في مدينة الحلة" ومن البديهي بإن الاسقاطات التاريخية في تقنيات الرواية تحتاج الى (الاحكام والاتقان) وقد توفرت في هذا النص ،ففي القسم الثاني من رواية (أسد البصرة) وهو الجزء الاكبر من الرواية والذي يمتد منذ ولادة (أمل) الشخصية الرئيسة 1963 حتى دخول صدام الى الكويت(1990) وبذلك فإن جميع الاحداث التاريخية لتلك المرحلة الحرجة قد تم تجسيدها في هذا الجزء ومزج الكاتب مع الوقائع التاريخية حالات من التعبير عن اللا منطق ،والتجريد الظاهري للواقع ،وتداخل مستويات متعددة للسرد وتداخل الجغرافي وتعارض مستويات الزمان والمكان مع تيار الوعي.

 الواقعية البنائية في السردية

هناك من يشبه اسلوب الكاتب بالواقعية السحرية واستخدام (الغرائبية التي تخرق نواميس الطبيعة) التي انطلقت من امريكا اللاتينية! بينما نجد اسلوب "ضياء جبيلي" اقرب الى (الواقعية البنائية) من خلال (التعبير عن القبح) من دون تزويق ! اكثر من موقع من الرواية، هذه الاشياء القبيحة يطلق عليها البعض (الابتذال) ويعدونها (تعكس الطبيعة الانسانية بحالتها الواقعية) وتوفر القوة التعبيرية الكامنة وتضيف بعدا جديدا من أبعاد الواقع، كما ان في سردية الروائي توسيعا لمفهوم الواقع ليشمل "الحلم والاسطورة" ومن خلال الاحداث السياسية لتلك المرحلة التاريخية التي شملت (الحرب مع ايران والقصف على مدينة البصرة، والتوتر السياسي العام، والموت الحاضر في كل اجزاء الرواية حتى شخصيات رئيسة من الرواية ) مع غرائبية رجوع (امل) الشهيد الى الحياة بطريقة عجائبية.

عرض مقالات: