كنت مستلقياً على أريكة الغربة وأقرأ في كتاب استعرته من أحد الأصدقاء كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاماً وعام، استمتعت بسرد صاحب الكتاب للأحداث والذكريات والتقلبات السياسية داخل العراق في فترات الأربعينيات والخمسينيات وما بعدهما. الكتاب عبارة عن خلاصة تجربة سياسية نبيلة ومخلصة للوطن والناس وعنوان الكتاب يشد القارئ لمعرفة محتواه، ويصلح كتاب ذاكرة النخيل لان يكون عملا روائيا مهماً يتحدث عن حقبة في تاريخ العراق الحديث. ولعل فن الكتابة الذي أجاد بها الكاتب والسياسي عزيز الحاج في كتاب "ذاكرة النخيل" عبر اسلوبه الشيق والممتع بأن يجعل من الكتاب وثيقة مهمة في تاريخ الحركة اليسارية العراقية. لقد سرد لنا الأحداث بتشويق وحرفية عالية فهو في قلب الحدث وشاهد عليه، كان عزيز الحاج عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وبكل دقة وأمانة وبلغة ممتعة صور لنا تلك الأحداث من نضال وصمود وتحد وشموخ ورفعة خاصة حين تحدث عن رفيقه يوسف سلمان يوسف (فهد) وعن سجنه في مدينة الكوت قبل اعدامه عام 1949.وأنا غارق في خضم الأحداث أثناء القراءة حتى طرق باب الغرفة بقوة ؟ ثم دخل جان دمو الذي ظلّ واقفاً وهو يحدثني بهدوء تام، ومن هدوئه أعرف أن جان محتاج لشيء ما. جان دمو كان مثل الطفل الصغير الذي يبتسم للريح حين تمر من جانبه مسرعة، حاولت مساعدته قدر الإمكانيات المتاحة آنذاك حتى غادر الغرفة التي كانت خالية إلا من قدح الشاي وعلبة سجائر توشك على الإنتهاء وكتاب عزيز الحاج "ذاكرة النخيل" الذي كنت أعود إليه على الفور بعد كل مقاطعة من أي طارئ يطرق الباب ويجعلي بعيداً عن أحداث لم أعرفها من قبل .كانت رغبتي عارمة في قراءة الكتاب في تلك الساعات، ثم عدت الى الكتاب الذي يروي قصة ملحمة مشرفة في تاريخ النضال السياسي داخل العراق على العكس من كتاب هاني الفكيكي الذي كتب مذكراته تحت عنوان (أوكار الهزيمة) والتي بيّن فيها الكثير من المؤامرات والإنقلابات والإعدامات والمحاكمات غير العادلة وغير الشرعية داخل صفوف حزب البعث الذي ركب قطار الدكتاتورية والقمع والتدمير والسجون وأحواض التيزاب ! بينما عزيز الحاج في ذاكرة النخيل والذي هو عبارة عن صفحات من تاريخ الشيوعية في العراق تحدث عن قيم وأخلاق ومبادئ وعلو وسمو ونضال مشرف وتضحيات جسام من أجل الوطن والناس على الرغم من تركه العمل السياسي أثناء كتابته الكتاب في بداية العقد التسعيني. تحدث الكاتب الحاج عن مدير سجن الكوت الذي كان يلعب (الطاولة) مع يوسف سلمان يوسف (فهد) في كل يوم وكان قد سأله لو سنحت له الفرصة في الهروب من السجن وهو المحكوم بالاعدام فهل سيهرب ؟ ثم قال مدير السجن فيما إذا هربت يا فهد سوف أذهب بدلا عنك الى السجن وتذهب عائلتي وبناتي الى مصير مجهول، عندها قال له يوسف سلمان (فهد) بعد أن أقسم له بشرفه السياسي أن لا يهرب. وفعلا فكر رفاقه ومن ضمنهم عزيز الحاج الذي كان يعمل مدرسا في مدينة الكوت ومدرسته تقع خلف السجن تماما ففكروا بحفر نفق يوصلهم الى زنزانة رفيقهم فهد في السجن ويحتاج النفق لفترة زمنية ممكنة، لكن فهد لم يهرب ولم يسبب المتاعب لسجانيه وذهب الى أعواد المشانق مرفوع الرأس وبشجاعة وبطولة قل نظيرها ومازال العراق ومنذ سبعين عاما يتذكر تاريخه المطرز بالنضال والرجولة والفداء.لقد تحدث الحاج في ذاكرة النخيل بكل شجاعة وثقة بالنفس لانصاف صفحة ناصعة البياض بتاريخ العراق الحديث، صفحة خالية من الغدر والخيانة والذل والهوان والإنتهازية، لقد كانت صفحة مشرقة بالوفاء والحب والأمل والمستقبل. كتاب "ذاكرة النخيل" لعزيز الحاج يندرج ضمن كتب ادب السيرة الذي أصبح يقترب كثيراً من كتابة العمل الروائي وقد صنف النقاد بعض كتب السيرة ووصفوها بالرواية لكنها تحتاج الى شجاعة من كاتبها لكي يكتب من أجل انصاف الحقيقة مثلما فعل عزيز الحاج بكتابه "ذاكرة النخيل" والذي يعد من الكتب التي تنير طريق الحرية وتفتح ابوابا على مستقبل زاه بالأمل. ختم عزيز الحاج كتابه "ذاكرة النخيل " بكلمات رائعة كانت عن الأجيال التي ستأتي وتقرأ تاريخ هذا النضال لتحذو حذوه وتواصل التاريخ النضالي المشّرف في ذاكرة النخيل.

عرض مقالات: