ظلَّ الموتُ كابوساً يرافقُ الانسانَ طيلةَ وجوده، حتى اشتغلَ معظمُ الفلاسفةِ والعلماءِ في البحثِ والتحليلِ عن ماهيةِ الموتِ وآثارهِ وكيفياتهِ. فقدْ عدّهُ بعضُ البشرِ كابوساً يُؤَرِّقُ وجودَهم وعدواً تجبُ محاربتُه والخلاصُ منه. ثمّ تتالتْ التفسيراتُ والتأويلاتُ لماهيّةِ الموتِ وحقيقته، حتى وصفهُ بعضُ رجال الدّين بالتّحرر منْ قيود الدنيا وآلامها. بيدَ أن المجتمعات ما زالت تخشاه وتخافه وتعدّه غولاً مُخيفاً وعائقاً أمامَ سعادات الإنسان.
في رواية "طائر التلاشي" للروائي محمد رشيد الشمسيّ، يقلبُ لنا الكاتبُ المفهومَ ليقدمَ لنا موتاً مُشتهًى، موتاً لذيذاً من طرازٍ فريد، يطاردهُ الناسُ فلا يَجدونَه. هذا الموتُ المرعبُ تحوّلَ في أنظارِ سكان جزيرة توخولو الى ترياقٍ يُعيدُ الى حياتِهم طعمَها ورونقها، ليُثبتَ لنا أن الحياةَ معادلةٌ لا تستقيم إلا بتوازن طرفيها ، الولادة والموت. فحين رُفِعَ الموتُ عن هذه الجزيرةِ اختلَّ نظامُ الحياةِ فيها، واضطربَ انسجامُ نظامِ الطبيعةِ، حتّى تحوّلَ العيشُ إلى سلسلةٍ من العذاباتِ المرعبة.
يخلقُ لنا الشمسي جوّاً من الفنطّازيا المطعم بالرمزية المحكمة، متفرداً عن غيره من الكتاب والروائيين؛ إذ دأبَ الكتابُ والروائيونَ على سَبرِ أغوار التأريخ، لا يفتؤون يقلبون صفحاتَ كتبه، بحثاً عن اسطورةٍ يوظفونها في سردياتهم، فَنرى مكتبات الكُّتابِ تزدحمُ بكتبِ التأريخ بغية العثور على أسطورة، غير أنّ الشّمسي في روايتهِ هذهِ يقدّم لنا أسطورتهُ الخاصةُ به، أسطورةٌ ابتدعها من خيالهِ الخصبِ، ثمّ يقدم لنا منها بناءَ روايتهِ المتماسكُ؛ إذْ يقدم لنا جزيرةً نائيةً لها قانونها وطريقةُ عيشها وأعرافها الخاصةُ؛ إذْ أن كلّ تجمعٍ بشريٍ لا بّد أن يخطَّ له نمطَ حياةٍ تفرضها عليهِ ظروفهُ وأحوالهُ.
استعملَ الشّمسي الرمزيةَ طريقةً لمعالجاتهِ لما نعيشهُ من واقعٍ أليم. ابتدأ الكاتبُ سلسلةَ رموزه في هذه الرواية من الجزيرة نفسها، فهي رمزٌ لكل بلدٍ يئنُّ من ويلات الجهل والفساد والتخلف. رمزٌ لكل تجمع سكاني يستسلم لأقداره بسهولة وينقاد الى الحاكم ومعاونيه تمام الانقياد، الطائر الداجن الّذي أخذ اسمه من اسم الجزيرة نفسها هو الآخر رمزٌ أرادَه الشمسيّ أن يمثلّ كلّ القيم الفاسدة التي تجتاح المجتمعات، تلك القيم التي تتسلل إلى قمة القداسة رغم قذارتها ولؤمها. قيمٌ أو أمراضٌ تفتك بالمجتمعات بمساعدة الجهل والموروث ومباركة السلطة وحاشيتها.
نحن أمام رواية حبلى بالرمزية الحاذقة، فالكاتب ببراعته قد زاوجَ الفنطازيا بالواقع على بساط الرمزية الفضفاض. يتسلل وباء التلاشي إلى المجتمع بحماية السلطة وعقل الجهل الجمعي ليتحول إلى إرثٍ يقاتل الناس من أجل ديمومته وإبقائه، ورفض أيّ صوتٍ يناله بالنقد أو الاتهام. ثمّ يزجّ الكاتب صوت الحكمة والعقل المتمثل في الحكيم تخاخا، فتخاخا هو رمز للضمير الحي في المجتمعات ورمز للتعقل والدراية ولليد التي ترجو الخير لمجتمعها. لكنّها على الدوام تكون هي اليد الأضعف التي غالباً ما يكبّلها الجهل ويلوّثها التعصب لينتهي بها المطاف أن تكون يداً طريدةً مغلولةً.
حاولَ تخاخا أن يحذر سكان الجزيرة من خطر التلاشي وينتشل مجتمعه من خطر هذه الكارثة التي أوشكت على الفتك به، لكنّهم تجاهلوه وقابلوه بالرفض والاستهزاء ثم انتهى به المطاف في قفص الاتهام ماثلاً أمام سلطة الحاكم المستبد، ليرى نفسه منفياً خارج موطنه الّذي ضحى من أجل سلامته وسلامة أهله. يضع الشمسي بعض الفواصل الواقعية من أجل إراحة ذهن القارئ من ضغط الرمزية وغموضها في إيراده بعض اللمحات الواقعية، منها ما جاء على لسان تخاخا حينَ أكّد على أهمية العمل ونبذ الكسل.
ثمّ يورد مورد واقعي آخر وصورة إنسانية جلية وهي قصة الحب بين الحبيبين شباليا وشموخا. فالحب دائماً ما يفرض وجوده في كلّ الظروف والأحيان، باعتباره لغة كونية عذبة تتقنها جميع الموجودات؛ إذ يصرّ شباليا وسموحا على الاستمرار في قصة حبهما رغم رفض المجتمع وعناده، لتنتصر إرادةُ الحبّ في نهاية المطاف، ويدخل الزوجان قفصهما الذهبي بسلام.
بعد أن أنعشَ الشمسيّ قلب قارئه بفسحة الحبّ الأخّاذ، يدلف ليقدم رمزاً آخر يمثل صور البشاعة التي تختبئ تحت عباءة الحاكم المتسلط. فحين طالب سكان جزيرة توخالو السلطة بأن تحلّ قضيتهم وضعنا الكاتب أمام حجم النفاق الّذي يحمله الحاكم المستبد، وكيف إنه مستعد لأن يتلاعب حتى بالمقدسات من أجل الاستمرار في ظلمه؛ إذ يقرر الحاكم استبدال الدين الذي يدين به سكان الجزيرة ويجعلهم يعبدون الطائر اللعين الذي سبب لهم مأساتهم وفتك بسعادتهم. يضعنا الشمسي أمام مفصل حرج في حياة الجنس البشري وهي القدرة على المناورة والتلون والتلاعب بإعدادات القيم واعادة ضبطها كيفما تشتهي إراداته المتصارعة. يقبل سكان الجزيرة الحل الجديد ويشرعوا في بناء معابدهم الجديدة لمعبودهم الجديد بعد أن هدموا معابد، الههم السابق.
رمز آخر وصورة أخرى من مظاهر العجز البشري ساقها لنا الكاتب في موضوعة التظاهرات التي تكررت في الرواية. وهي في أغلبها ليست تظاهرات بمعنى الرفض والتنديد، إنّما هي استجداء الحاكم وارتماء في احضانه ليحل لهم مشاكلهم متناسين دورهم وقوتهم كمجتمع قادر على تحمل مسؤولياته والنهوض بواقعه. تنتهي الرواية باستسلام سكان الجزيرة لمأساتهم ومواجهة مصيرهم المؤلم رغم بعض المحاولات الفاشلة.
هكذا ينهي الشمسي فصول روايته ليضع القارئ أمام كم هائل من التساؤلات التي يجب أن نبحث عن إجاباتٍ لها.