قدّم الروائي طه حامد الشبيب في روايته السادسة عشرة – اصدار الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق – طباعة دار الرواد المزدهرة، مطلع عام 2019، نمطا سرديا جديدا قوامه "الشبحية"، كل ما فيها يكشف عن عوالم داخلية، بمناخها الواقعي تناول فيها حقبة مهمة من الصراع السياسي العراقي متفردا في تناوله للمبنى الفكري فقدّم حمودي الأعمى ببصيرة عصاه يُنطّقها ما أن يسوّي تراب الأرض بكفّه وكأنه يهيئ لها سبورتها فتمسي جزءًا ملازماً له ومثله ساردا يحكي، فـ " الأعمى خير مَنْ يحكي عن لا شيء "!

مدخل

شخوص الرواية بفضاءاتها الخصبة وندماء "حمادي" يكشفون عن رهبة العرف الاجتماعي وصراع سياسي يراوح بين من يسمون انفسهم بـ "القوميين" وبين "الشيوعيين"، وما يعبّر "القوميون" بواسطته من أحقاد يترجمونها بعصي اللافتات لضرب "الشيوعيين" في حقبة تلامس عنجهية الحرس القومي في ستينيات القرن الماضي، وكيف تتلاقف هاته الصراعات في التجاوز على حقوق الناس واغتصاب الفتيات لمجرد مطالبتهن بحقوقهن المدنية بمحمولات الفهم السائد وما يدور في العالم الثوري وبتأثير أفكار المد الثوري العالمي أنذاك.
صراعٌ تبعته نتائج سلبية انعكست على هدم وطن بدلا من أن تأخذ به وتنمّيه، وعَبْرَ جيل لم يعرف السلام بل طوردت رموزه المتمثلة بحمامة بيكاسو، صار الجيلُ المشوّه بكل ما يحمل من ماضٍ متخلف يُقزّم بلدا عريقاً استهلكته الشركات الرأسمالية في هجومها الشرس ممزقةً إياه شرّ تمزيق.
ولا غرو أن نلمسَ ثيمة الرواية في مشهد مداهمة المسلحين وهم يفتشون عن مخزون العَرق لدى "حمادي" وما أن يغادروا المكان حتى يشتُم المتخاصمين "لأن قضوها واحد يقتل الآخر... الى أن صفا الوقت لهذوله اللي ما ادري من أين طلعوا لنا..".
لقد استطاع الروائي ومن اشتغاله على آلية الوصف، أن يلوذَ بساردي عمله من ثم ينكفيئ صامتا، عَلَّ المتلقي ينتبه فينهض بما فضل من حرق لانقاذ ما تبقى فيواصل عَبْرَ عصا "حمادي" السحرية بقية الحكاية.

عنونة

في عنوان هذه الرواية تورية ترتكز على المضاد فلسفيا فالسارد الرئيس " يحكي عن شيء " غاية في الأهمية، على الرغم من المُعطى التمويهي التخييلي الكاشف عن واقع الحاضر والمستقبل.
وإذْ يحكي عن "لا شيء" فـ "اللاشيء هذا كبير. كبير جدا"، ويكرر "كيف يمكن أن تكون حكاية تدور حول لا شيء مبعثاً للملل؟"، على أنه على الرغم من عماه فهو يرى ".. أما الراقصات.. فلا أحد من المحتشدين هنا.. يستطيع أن يرى رقصهن ما عداي أنا".
وعلى هذا أسس الروائي لعنوان سرديته مفصحا عن قلقه من ما يحصل من خراب، وهل أن لنظرية تآكل الحضارات شأنٌ في هذا المعنى؟
"حمادي ابن عمران الفحام"، الشخصية الرئيسة تستدرج القارئ بذكاء، بل لعمق ما فيه من براءة الشاهد على فجاجة الأشياء وبراءتها، حين يهدّ جدران وسقوف بيتهم العالي، تدهشنا حالٌ من فنتازيا سحرية كلما وصل إلى السلّم المؤدي إلى السطح حيث تنّور أمّه، فتعود صفوف الطابوق إلى مكانها، ".. فالهدم ليس سهلا هو الآخر..

لغة السرد

ليس اسهل على الشبيب من أن يتفنن بتقانة لغته السردية القريبةٌ لفهم المتلقي المقنعة والمنسوجةٌ نسجاً مذهلاً فشخوصه المتواضعة تتعلم الفصحى عبر اذنها اللاقطة فيعمد الكاتب إلى اشراك "الراديون" وحالة سُكْر "حمادي" ملقناً اياه إلى ما يهذي به من قول.. فلا غرو أن نجده يتحدث بلغةٍ بعض مفرداتها متقدمة على شخص بمستوى ثقافته الا أنه يبرر ذلك فيرجعه بفضل الراديو وفي احيان اخرى الى " شيخ موسى " الذي أشرف على حفظه للقرآن.
"الشيخ موسى" يأتي على ذكره عشرين مرة ليكون بمثابة سارد خفي بما يمتلك من معان ومفردات من لغة القرآن كذلك "الراديون" بتسميته الشعبية البسيطة يغدو حيّا يحكي وينوّر بالفصيح من لغة لا تموت ولهذا دلالته القصدية.
وكما لا يُخفى حضور "دُرّة" وجراؤها وهي تتمسح بـ "حمادي" فتحيي في الذاكرة وفاءَ أول صديق للإنسان. فـهي تدرُّ من الحنان معادلاً موضوعياً مما فقده الانسان المعاصر وهي الحارسُ الوفي لمخبأ قناني العرق زوّادة "حمّادي" وندمائه. ومثل هذا محاكاة "حمادي" لدِيْكِ الفجر وهو ينبه ليس للصلاة فحسب بل لحراسة العِرْض...
حتى الخمرة تعتني بـ "حمادي" وتمنحه من كرمها فتعوّض له بعض ما فقده، ".. اقسموا لي على الأ تخبروا أهل المحلة.. وكانت تلك جملته الأولى التي يقولها بالفصحى بعد أن ينتشي. فالفصحى " جميلة، ولا ينبغي لنا التحدث بها الّا اذا شعرنا بالجمال"
عمد الروائي إلى زج التعبير "يعني شنو؟" تكراراً على لسان حمودي طمعاً بشد اصغاء ندمائه وكذا نلمس الطريقة الذكية التي عالج بواسطتها المؤلف فصاحة اللغة في فضْل الراديو لمفردات عديدة.

الرمزية

يحيلنا الكاتب الى أكثر من رمز، بدءاً بوصية والد حمادي "في أي ظرف من الظروف لا تعوف باب البيت".
يأتي "حمادي" على ذكر ساحة تدريب القوميين ذات الأرضية الترابية.. " علينا أن نسير في الطين ونخوض برك الوحل.. برك الوحل قريبة منا، إلا أنني لا أرى أرجلنا تغوص فيها".
رمزٌ آخر مُستقى من مثل شعبي ".. اختفاء حفنة الملح من الماء" رامزا لاختفاء "حمزة".
وبالمثل في "الذبابة الدائخة" والتي تستحق الوقوف عندها لتكرارها. بل ان " حمدية" ذاتها تقترب من الترميز إلى كونها "الوطن" الذي تحاول حتى الفنتازيا العثور على ثوابته المهزوزة للنيل منه وثلمه، الوطن الذي وقع عليه ظلم أبنائه قبل ظلم الأعداء.ولمجرد هذا الشعور تسعى البريئة ضحية كل التقاطعات الى إنقاذ سمعة شرف كونها طاهرة لم يمسسها أحد.
ولا يفوت الروائي رصده الدقيق للوضع الغريزي لـ "حمادي"، الحالم بالزواج من انثى بضّة الجسم، هو الذي لم يعرف من النساء تقرّباً سوى أمه "زهرة" واخته "حمدية"، على أن امّه تظهر له بمظهر "زهرة" الشحاذة العمياء فتختلط عليه رؤياه مما يمنح عقله الداخلي فارقا في لون العينيّن لتبريرٍ ما وكأننا أمام ما يشبه عقدة أوديب.
في مشهد تمايل القطط والكلاب السمينة اشارة الى العنف المقزز والتمرد عليه. وفي التعبير "الذين يرطنون" ترميز للدلالة على المثقفين من المناضلين الشيوعيين.
أقسى ما تمخضت عنه الأحداث المشهد الأخير، وخواتيم الشبيبي متقنة النسج والتركيب.اذ كثّف ثيمة نصّه بزوال كل ما هو طبيعي وأحاله إلى لا شيء. فما أن تُغَّيب "دُرّة" وجراؤها حتى تنثلم لغة الطبيعة وغريزة البراءة بمشهد دموي غاية في البشاعة. إنّه العقابُ الذي يذكرنا بمصير ملّاح صموئيل كولريدج في رائعته – قصيدة الملاح القديم - الذي اطلق سهمه فاردى طائر القطرس حتى حلّت لعنة الكون كليةً.
يبرز من بين ما يتكرر من تعابير ملغومة تعبير "البادي أظلم" على لسان المسلحين القوميين والترميز هنا واضح " البادئ يحملُ الخطأ كلّه" محاولة لتبرير ما تلي من فعل القتل ابتداءً. لكن شتّان بين من يأكل لحم اخيه ومن يدافع عن حقوق شعبه المنهوبة.

لجاجة القول

ليس سهلاً أن تلف وتدور بعبارة بعينها على أن الأمر سيختلف تماما حين تتلوى عجينة الطين بين أصابع الشبيب فتخرج من مشغله تلهث مطواعة في معانٍ تتلاقح والحدث، أوردُ مثالاً بسيطا وربما اتبعه بآخر يؤكد فن اقناع القارئ فتلذُّ له وظيفة السرد :" لحيتي التي دأبتْ.. الف رحمة على روح اللي صنع الراديون.. شوفوا دأبت هذي شلون تخبّل.. لحيتي التي دأبت حمدية على حلاقتها لي منذ ان كانت زغباً والى أن صار شعرها كثّاً خشناً مثل لحى الرجال، لم تعد طبعاً تنتبه الى نموها فلا تحلقها. صحيح انها كانت تحلقها لي كل بضعة ايام، إلا انها الآن لا تلتفت اليها ابدا. هل تصدقون، أخوان، أنّ لحيتي منذ تلك الأيام والى يومنا هذا الذي اجلس فيه معكم، نشرب عرق، لم تُحلَق قطّ.".
هنا يجيء على ذكر اللحية والإشارة لها اثنتي عشرة مرة ! على أن التعبير ينقلنا إلى معانٍ تخييلية تسجيلية لإخراج يجسّم المتخيّل السردي بدلالات ناكئة للذاكرة.
في موقع آخر ".. وأنا أمسك بكفها بكلتي كفيَ وارخي الكفوف الثلاثة على بضاضة فخذها. أخوان لا استطيع أن أحكي عن ذلك الأمر.. الخجلُ يمنعني. كل ما اقدر أن أقوله هو أني بعد دقيقة، تقريباً.. دقيقة واحدة لا أكثر.. صرتُ يتراءى لي.. لا.. لا..لا يتراءى لي.. حقيقة حقيقة وواقعاً أني أحس ببلل في لباسي الداخلي..".. تكرار باستطراد ممسرح لا تشعر معه أنّك تقرأ بل تتفاعل وتشارك الوصف وانتقالاته وربما ينالك شيءٌ من حالة البلل.
وكما لا يفوت على القارئ ما رمز اليه مدونا يوم – 14 تموز /2018 – ختام كتابته لروايته.

السخرية

في رصدٍ مثير ينقل الروائي مشهدا للشيوعين رهن الاعتقال اذ انفجر المداهمون "يضحكون لما سمعوا الأغاني في هذا المبنى والقصائد التي يلقيها الشعراء من على البراميل ورأوا اللوحات واستمعوا للممثلين.. كلها كلها تعد الفقراء وتبشرهم بغد تملؤه السعادة والهناء والكرامة" يسترسل السارد توصيفاته التخييلية على خلفية هذا الصراع ليغور في النفس البشرية كما يفعل دستويفسكي في "الأبله".
ومن المشاهد الساخرة اعتراض المسلحين لذبابة وتفتيشها عند أكثر من نقطة عبورٍ للمبنى.
وبالمثل يتواصل اسلوب السخرية بوصف تملّق الذين يخافون خزرات المسلحين فينهون صلاتهم على عجَل فلا يلحقون الاعتذار من الملائكة التي تراقب صلاتهم، فهم لا يكتفون بالقاء التحية على المسلحين ويتملقونهم في الدعاء لهم.
وعن تعذيب الشيوعيين، يورد سخريته المقرعة في تباهي القوميين بعد احتلالهم لمقر الشيوعيين، ليكتفوا بتعذيبهم، وحين لا يشفى غليلهم يتساءلون" اذن شوفوا لنا آية حتى تهدأ نفوسنا".

خاتمة

لعل روايته تذكّر المتابع برواية – مذكرات أعمى- للقاص المغربي "حميد ركاطة" وبطلها الأعمى. من ثم الروائي المغربي عبد الكريم جويطي في – المغاربة – ببطلها الضريركشخصية محورية وحكاياته المتشابكة لكن بفارق كبير اسلوبا وتناولا وفلسفةً.
لقد حرص الروائي في تفاعله الملذ ان ثبّت على غلاف الرواية من تصميمه بنقش رموز اسمه على غلافها الأول وكذا عنوان الرواية على غلافها الأخير وفق طريقة – بريل – في الكتابة.
للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير حلم الكتابة عن لا شيء.. فهل حقق الشبيب مثل هذا التواصل؟ اعتقد انه نجح في ما أمُلَ مثلما أبدع في شفاء غليله من شتمه للطاغية صاحب السيجارة العجيبة الغريبة عبر تعريته وسلوكيات أتباعه .. انها لعنة قبض الريح التي جسّرت ما هو روائي إلى اللاروائي، والمتشييئ إلى اللاشيء المُقلِق الوجودي.

عرض مقالات: