الكتابة عن الشاعر عريان السيّد خلف ليست ذات خاصية ذاتية كذاتية الشاعر. فبلاغته الشعرية تدفع متلقي شعره إلى الحذر من الخوض دون بلاغة توازي بلاغة "الحسجة" فعلاقته بالحياة، تنطلق من علاقة الكُلْ، وهي الوطن، الذي يتسع له ما امتد به العمر، ويزيد من اتساعه ضمن حيوية الشعر، أي وطن الشعر. فالكثرة ممن استوطنوا الشعر على أنه الوطن، واستوطنهم الوطن على أنه قصيدة لا تنتهي. لذا نجده من بين أقرانه "مظفر النواب، شاكر السماوي، عزيز السماوي، زامل سعيد الفتاح، إسماعيل الكَاطع" وغيرهم. فهم صانعو صورة الوطن على هوى الشعر، فمتخيّلهم الشعري واسع، لذا نجدهم يلوّنون قصائدهم بحواشي وصوّر الوطن. فيذهبون بعيداً نحو آفاق ممتدة على جغرافية غير محدودة، هي الوطن. والسيّد خلف نحات ذو إزميل مرهف، ومشاعر دفاقة، وتصوّرات شعرية مباغتة للذهن دائماً. ينظر إلى ما حوّله، فيجد أن مفرداته وصوره تتدفق بتلقائية، هي في الحقيقة تلقائية البيئة والهم الاجتماعي والتاريخ الطويل المعبد بالويلات لوطن لا يعرف سوى حزن واقعة الطف، وسبايا سائرة دائماً عبر الصحراء. فهو ينظر إلى حراك الواقع، يُحصي كم من قوافل السبي استقبلت صحراء الوطن بلا حدود، فلو أعدنا النظر في الكتاب الذي صدر بعد 18/ تشرين 1964، وشمل كل جرائم عام 1963 لتأكد لنا طبيعة لسبي والقتل الجماعي. كما يأخذنا قطار الموت نحو استذكار أكبر مجزرة في التاريخ البشري، وهي القتل الجماعي لخيرة أبناء هذا الوطن . لقد تأسس الحزن في الوطن، ولم يفارقه قط. من هذا يستجمع السيّد خلف كل قواه الذاتية، ومخياله الثر من أجل أن يجعل البيت الشعري والصورة الشعرية على بريق آخّاذ وفريد. فجملته بتركيبتها الشعرية تطأ أرض الشعر لأول مرة، وتغازل القوافي بعفوية جامحة لأنها تغرق في الرؤى الناصعة. لذا وجدت في ما عرضته القناة العراقية من صورة له وهو يمتص دخان سيجارته بقوة استثنائية، كأنه يخرج كل ما فيها من طاقة النيكوتين، يرفع السيجارة عن فمه فيبدو مغلق الفم والأنف، لم يسرب خيطاً رفيعاً من الدخان الذي تسلل بإرادة الشاعر نحو رئتيه، يضع كفه على صدغه، يغمض عينيه، ثم يفتحهما. كما لو أن نداء ما طلب منه فعل هذا، أدار نظره صوب اليمين، في لحظة خرج جثمانه معلقاً على الأكف، مغادراً براد الموتى، نظر له بإمعان، شاهد نفسه محمولاً داخل نعشه. لقطة فريدة، تترك أثرها دائماً. ها هو "السيّد خلف" يبصر جثمانه مشيّعاً. ربما تذكر أنه محمول عبر الأزمنة، وعبر سنين العذاب الذي رافقه من زاوية إلى أخرى، من مشروع موت إلى آخر، يتنقل نزيلاً في أرقى فنادق ضمت خيرة أبناء الشعب العراقي، وهم يعانون الأمريّن. والسيّد خلف يصعد المنصة، ولا يهمه سوى قول الشعر، أياً كان حاضراً، فهو يخاطب الشعر ووجع الوطن. يُنشد ويتلوى ساعداه، ملوّحاً لنا، للأقربين والأبعدين، محدّقاً بعينيّ صقر، فاحصاً مديات تأثير شعره على الجميع، وحين يلقى ما يُحب، تزداد عبارته "حسجة" وبلاغة في النطق والتركيب.
يتغنى بوجود الجميع، يجمع أزاهير حدائق الوطن، يستدعي أوجاعه، ويضعها في طبق الشعر. فعبارة "تل الورد" نعت للسيّد خلف، لم يكن جزافاً، وإنما هو صيرورة إنسان اختلطت في شخصه كل الصفات الاستثنائية، فخلقت رهافته الفذة، التي لا تعرف غير الشعر المؤثر والحافر في كينونة الإنسان. إنه لم طلب الاذن بالخروج من حضرة الوجود، وإنما أبقى تعلقه الشعري خير الصلات مع وطنه ورفقته. وما احتفاء الشعب برحيله سوى الصوت الجماهيري المعبر عن احتفاء الذات العراقية بوطني كسيّد خلف. وحسبي أنها رسالة بليغة لعلاقة الناس بمبدعيهم الاستثنائيين.
إنه موقف وطني إزاء تاريخ شاعر وطني.
عريان السيّد خلف، لم يوظف جسده لتعميق طبيعة شعره، وإنما وظّف عينيه، عيني الشاعر الصقر، وهو يتفحص متلقيه، فيزداد بلاغة شعرية بوجه لا ينضح سوى عرق الشعر.

عرض مقالات: