تاريخ القصة القصيرة جداً قصير جدا، إذ انه لا يزيد على السبعين عاماً. فقد بدأت الاقلام المبدعة تكتب نماذج منها في السبعينيات من القرن الماضي في سوريا والعراق، ثم انتشرت على نطاق واسع في السنوات العشرة الماضية، خاصة بعد انتشار الانترنت، ولاقت رواجاً في الكتابة والقراءة من قبل الكتاب والقراء العرب في اغلب اقطار الوطن العربي، فبدأت صفحات التواصل الاجتماعي ودور النشر العربية تنشر المجاميع القصصية لهذا النوع السردي الابداعي، ويتلقاها القراء بتمعن زائد وذائقة قصصية حسنة.
في دراسة سابقة لي نشرت في صحيفة "طريق الشعب" بعنوان "القصة القصيرة جدا" في التراث العربي... "البخلاء" أنموذجا، قدمت فيها نصاً من نصوص القصة القصيرة جداً في تراثنا العربي القديم، وهو نص قصصي من كتاب البخلاء للجاحظ، وفي هذه الدراسة سأقدم نصاً قصصياً قصيراً جداً من تراثنا العربي القريب في النصف الاول من القرن العشرين سبق ولادتها على ايدي السورين والعراقيين في السبعينيات من القرن الماضي، وهي كتابتها من خلال الذائقة الابداعية لاحد أدبائنا الكبار في المهجر، وهو الكاتب اللبناني جبران خليل جبران "1883 – 1931".
من المفيد ان نذكر ان جبران صاغ ما كان يؤمن به من افكار ورؤى وتصورات عن الكون والمجتمع والعلاقات بين اعضاء المجتمع بهذه القصص القصيرة، والقصيرة جدا، وفي رواياته.
وقد حفلت اغلب مجاميع جبران القصصية بأكثر من نص من هذا النوع السردي، و مجموعته التي كتبها باللغة الانكليزية وصدرت عام 1932 بعد موته، ضمت اكثر من خمسين نصا من هذا النوع، وقد صدرت تحت عنوان "التائه"، والنص الذي سنضعه تحت مبضع الدراسة والفحص يحمل العنوان ذاته ، لنتلمس اشتراطات ومقومات القصة القصيرة جداً التي انتجها قلمه المبدع.
ولا اريد هنا ان اتحدث عن الريادة في كتابة القصة القصيرة جداً، كما اشار الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي الى ذلك في كتابه "رحلة مع القصة العراقية وقال بريادة القاص نوئيل رسام الذي كتب ثلاث قصص من هذا النوع ونشرها عام 1930، وهو الذي اطلق على نصوصه هذه التسمية ذاتها لاول مرة كما يؤكد حمودي.
او عن "الريادة الرديفة" كما سماها بردى، لعبد المجيد لطفي الذي نشر سبع قصص في مجموعته القصصية "اصداء الزمن" عام 1938، وقد اشار الى ذلك الاستاذ هيثم بهنام بردى في كتابه "القصة القصيرة جداً - الريادة العراقية لان هذا السطور غير معنية بمسألة الريادة الان.
***

نموذج الدراسة:

اخترنا هذا النص لكونه النص الاول في المجموعة، ومنه تتولد النصوص الخمسين فيها كما في الف ليلة وليلة، إذ يبدأ كتاب "التائه" بحكاية التائه الذي يلتقيه الراوي ويضيّفه في بيته، وينهي جبران قصصه باللقاء مع تائه آخر، الا اننا نستشف منه انه هو التائه الاول نفسه.
يقول الراوي: "ولكن انت يا صديقي، تعرف اتم المعرفة ان هذه ليست شيئا سوى آثار اقدام لتائه".
والعبارة بالمعنى نفسه نلتقي بها في القصة الاولى، اذ يقول الراوي:"وهذه الحكايات اثر من غبار طريقه، وبعض من نتاج المشقة التي كابدها وتحملها".
نعم هي: "اثر من غبار طريقه"، و"اثار اقدام لتائه"، المعنى نفسه الا ان العبارة تختلف في الفاظها.
وهكذا يغلق القاص جبران خليل جبران كتابه بعد اكثر من خمسين قصة قصها التائه ، وهو الاسلوب نفسه الذي اتبعه مدون الليالي، إذ يبدأ بشهريار وشهرزاد التي تحكي له الحكايات لتنتهي بهما.
"
التائه لقيته على مفترق الطرق، وكان رجلأ معدمأ لا يملك سوى ثوبه وعكازه، تعلو محياه مسحة الم عميق. وحيا كل منا الآخر‘ وقلت له: "تعال الى منزلي وكن ضيفي".
قبل الدعوة.
واستقبلتنا زوجتي مع اولادي على عتبة الببت، فابتسم لهم ورحبوا من جانبهم بمقدمه.
ثم جسلنا جميعآ الى المائدة، وكنا في غبطة من لقاء هذا الرجل الذي يكتنفه الغموض، ويهيمن الصمت في سريرته.
واجتمعنا بعد العشاء حول النار، ورحت اسأله عن جولاته.
وقص علينا اكثر من قصة في تلك الليلة، وفي اليوم الذي تلاها، غير أن ما ارويه الآن، إنما هو زبدة ماكابد في ايامه من مرارة، وان كان هو نفسه اثناء سرده لطيفاً، قريباً من القلب. وهذه الحكايات اثر من غبار طريقه، وبعض من نتاج المشقة التي كابدها وتحملها٠
وعندما تركنا، بعد ثلاثة ايام، لم نشعر ان ضيفآ رحل عنا، بل واحدآ منا لا يزال خارج المنزل في الحديقة، ولما يدخل".
من خلال المقومات والاشتراطات للـ "ق. ق. ج". الحديثة يمكن ان نفحص هذا النص القصصي لمعرفة مدى تطابقه مع هذه المقومات والاشتراطات التي تعارف عليها النقاد والدارسين للقصة القصيرة جداً التي تكتب في زمننا الحاضر، او على الاقل على بعضها.
ومن اهم هذه المقومات والاشتراطات هي:
-
حجم النص:
ان اغلب قصص المجموعة تقع ما بين ثلاثة اسطر وخمسة عشر سطراً، سوى نص "الملك" يقع في حوالي خمسين سطراً.
يقع نصنا المدروس بحجم نصف صفحة، وهذا الحجم من ضمن مقومات واشتراطات الق. ق. ج. إذ لا يستغرق القارئ في قراءته سوى بضع دقائق، الا انها تحمل من المعاني والدلالات ما هو اكثر مما نراه من حجم صغير او كبير.

- الايجاز والحذف:

حيث تظهر جلياً قدرة جبران الابداعية على ايراد هذه الحكاية بهذا القدر من الايجاز الابداعي غير المخل بها، وغير المسهب بابتذال، والمبني على الحذف الابداعي لبعض عناصر اللغة، ولبعض الافكار، دون ان تخل بالمعاني والدلالات والافكار التي يرغب النص في توصيلها الى المتلقي، إذ ان الكاتب غير معني بالتفاصيل الدقيقة والشروحات الاخرى الزائدة عن حاجة السرد في القصة القصيرة جداً، الا انها مكملة له لو كان هذا النص كتب بأسلوب القصة القصيرة، او الرواية.

- الشخوص:

تنوعت شخوص نصوص هذه المجموعة بين شخوص بشرية مثل نص "التائه"، وشخوص حيوانية مثل نص "الضفادع"، وشخوص نباتية مثل نص "التراب الاحمر"، وشخوص من الاشياء الجامدة مثل نص "النهر".
في هذا النص توجد شخصية رئيسة واحدة، وهي الراوي لأحداث القصة، مع مجموعة من الناس "عائلته" غائبين عن الفعل المباشر في المشهد السردي التفاعلي بصورة او اخرى، بحيث يبقون بعيدين عن فعل شخصية القصة، الا انهم في ميدان القصة.
اما الشخص المركزي للقصة، الذي تدور حوله الاحداث، وهو التائه، فقد ظل مختبئا خلف ما يرويه الراوي، الا انه قريب منا ومنه.

- مجالات اللغة:

على الرغم من ان اللغة ليست وسيطاً محايداً يمكنه ان يقف في حكاية القصة بلا فاعلية، الا انها تعكس نظاما كاملا وكامنا من خلف الالفاظ، ومجالاتها تبقى كثيرة في هذا الفن، واهم شيء في مجال اللغة هو الاقتصاد، أي: التركيز، والايحائية، والرمزية، دون ان تختل معادلة استخدامها.
هذا الايجاز هو الذي يعطي اللغة متانة وقوة، ويترك المتلقي يشبع ذائقته السردية من جماليات هذه النصوص.

- الروح السردي، او القصصي:

وهو اهم شيء في الفنون السردية، إذ يجعل من الخبر الصحفي، او المتداول على السنة الناس، نصا قصصياً ابداعياً.
ان سريان هذا الروح النابض بالحياة في كل مفاصل القصة يمنحها زخماً قوياً في ذائقة المتلقي السردية، وهو الذي يحول الخبر الصحفي الى ابداع سردي/ قصصي.
وان ادراك هذا الشرط يتم من خلال ذائقة المتلقي والناقد على السواء، ويحدد له المدى الذي يصل اليه، فيما اذا كان في النص روح سردي نابض، ام لا.

- الزمان والمكان:

ويتم تحديدهما بصورة مباشرة او غير مباشرة.
ان القصة تحفل بالأفعال التي تضم في ذاتها الزمان والمكان وتغييراتهما، وتبدلاتهما "لقى، استقبل، اجتمع، قص، ترك... الخ"، وهي كفيلة بأن تمنح الزمان والمكان فسحة ليعملا سوية، ويظهرا دورهما المؤثر في احداث القصة.
من هذه الافعال يمكن تلمس الحركات السردية التي تحتويها القصة، وهي كثيرة ومتنوعة وذات اثر زمني ومكاني.

- المفارقة:

وهي بنى تعبيرية، وتصويرية، متنوعة، وعديدة، على المستويين الدلالي والتركيبي.
والمفارقة، منها اللفظية، ومنها السياقية، وهي اسلوب تقني لمنح القارئ المتعة الادبية الابداعية.
والقصة ليست طرفة مضحكة، على الرغم من انها تنطوي على هذه الامر في الكثير من الاحيان، وانما هي بنية قصصية تختلف عن هذه البنى من خلال السرد الفني الذي تلبس ثوبه، وفي الوقت نفسه تأخذ منه.
المفارقة في القصة القصيرة جداً، هي العلامة الفارقة بين الكتابة العادية والكتابة السردية، وتمثلها لمقومات واشتراطات وقوانين هذا الفن السردي.
وهي في هذا النص بنيت على التحول الذي حصل بين قرب التائه المكاني من العائلة وبعده عنها "ضيف لفترة قصيرة" وتركه لهم بعد ثلاثة ايام.
إذ يقول في نهاية القصة "وعندما تركنا، بعد ثلاثة ايام، لم نشعر ان ضيفا رحل عنا، بل واحدا منا لا يزال خارج المنزل في الحديقة، ولما يدخل".
هذه النهاية تثير الدهشة، وتمنح المتلقي دفعة من الانفعال العاطفي والعقلي.
***
وهكذا يبقى التراث الادبي العربي في الماضي البعيد، أو في الماضي القريب، حافلا بالأنواع الادبية المتعددة، خاصة في القصة القصيرة جداً.

عرض مقالات: