مرة اخرى وعام جديد أبى إلا ان يفتتح مواسمه بأخبار محزنة.

    ففي فجر السادس والعشرين من شباط (الشهر المشؤوم)/ 2018 غادرنا في رحلته الأبدية المفكر وعالم الاجتماع والشخصية السياسية والأكاديمية المرموقة الدكتور فالح عبد الجبار إثر "جلطة قلبية". هكذا إذن رحل بُغتة وهو في اوج نضجه الفكري وعطائه المعرفي يخوض معاركه من اجل التغيير والحداثة. لذا فان هذا الرحيل المبكر يشكل خسارة كبيرة للثقافة الوطنية والديمقراطية العراقية ولنا نحن اصدقاءه وقراءه وأحبته الكثر.

    ظل د.فالح عبد الجبار منذ عدة عقود يخوض معاركه الفكرية والبحثية دون كلل ولم يتعب من التفكير والاجتهاد في كل الميادين والمواضيع التي اشتغل عليها. وقد أدرك د.فالح، ومنذ وقت طويل، " أن الثقافة بُعدٌ من أبعاد السلطة، وأن للمثقف، بوصفه حاملاً ومنتجاً للمعرفة، دوراً يلعبه في عملية التغيير، لكنه أدرك، في الوقت نفسه، أن النضال الثقافي وحده لن يحقق التغيير" وهكذا افتتح الفقيد مسيرته الثقافية والفكرية والنضالية الوطنية في احضان الحزب الشيوعي العراقي.

    لقد عرفنا نحن في مجلة (الثقافة الجديدة) الراحل الكبير د.فالح عبد الجبار، سواء في عمله في تحرير المجلة أو في كتاباته الثرّة التي كانت ينشرها في المجلة وفي أماكن اخرى، مفكرا أصيلا يعرف صنعته جيدا فلا يرتكن الى "المسلمات" والأجوبة الجاهزة، بل كان على الدوام - كمفكر وباحث وعالم اجتماع مرموق - يعيش قلق الأفكار ويطرح الأسئلة باحثا عن المزيد من المعرفة. وكانت لعادة البحث الدائمة عند د.فالح لاكتشاف مناطق جديدة من المعرفة، في مختلف الحقول التي مرّ عليها، ودفاعه عن الفكر الحر النقدي بعيدا عن الوصفات الجاهزة، أن قدم مساهمات نظرية جدية في الفكر والسياسة وعلم الاجتماع .. الخ. وقد ظلت تلك الأطروحات تثير المزيد من الحوار والنقد الاختلاف أيضا، لجديتها وأهميتها، لهذا يتعين وضعها في إطارها الصحيح. وبرحيله ينكس البحث العلمي الاصيل قامته، وبفقده نودع وبغصة عميقة في قلوبنا احد النجوم الكبيرة التي تلألأت لعقود في سماء السياسة والفكر والعلوم الاجتماعية، نودع مفكرا أصيلا وعالما كبيرا وباحثا جادا كان يمتلك الكثير من عمق المعرفة وجدية الأدوات المنهجية والتحليلية.

    ان حياة الدكتور فالح، على امتدادها الواسع، كانت حافلة بالعطاء في العديد من ميادين المعرفة المختلفة، درسا كبيرا لأجيال عديدة من اصدقائه وأحبته وتلامذته، وعزاؤنا ان الفقيد الكبير ترك لهؤلاء، وغيرهم أيضا، إرثا طيبا من المنجز البحثي والمعرفي، ومن المواقف الأصيلة والذكريات الطيبة والسلوك الإنساني الرفيع والروح الشفيفة سيظل يتحدث عنه، ويذكر به، ويبقيه حياً دائم الحضور بيننا.  فقد كان باحثا ماهرا يعرف صنعته جيدا بما قدمه من إبداع أصيل ومنجز بحثي مهم، سيظل محفورا في الذاكرة الجمعية. ورغم رحيله المبكر والمفاجئ سيظل فالح يشاركننا جلساتنا وصخبنا وأحلامنا وآمالنا واختلافاتنا حول الطرق الجديدة غير المطروقة ... فالاختلاف كالحراثة في الأرض، تجرحها سكة المحراث ولكنها تمنحها العافية والغلال.

فالح....نحن أحبتك ورفاقك وأصدقاءك، في رحيلك الأبدي نضع باقة وردة حمراء على مكتبك، وفي هذه اللحظات نودعك وداع المحبين الخلّص ونضع على قبرك باقة ورد ندية مثلك، نقية كنقاء قلبك العليل، لن نراك بعد اليوم جسدا، لكنك ستعيش معنا في كل لقاء وفي مختلف المواقع، أو في جلسات سمر، تحولها كعادتك الى مساحة حوار فسيح حول قضية جادة، مثيرا جدالا لا ينتهي حتى حول أبسط التفاصيل.

لن ننساك يا " أبا خالد " لأنّ الورد يظلّ يعبق برائحة الحياة ولا يشيخ.

وما عسانا ان نقول الآن سوى: فالح.. لقد خسر معك الموت لعبة المفاجأة.. ولكنك باق أنت بين أجمل مثقفي العراق الديمقراطي لا عراق الحروب والقيامات ومتاريس المتحاربين والمتحاصصين في ان.

(الثقافة الجديدة) وهي تودع د.فالح عبد الجبار، تعزي زوجته الرفيقة د. فاطمة المحسن وأبناءه وأسرته و جميع اهله ورفاقه وقرائه ومحبيه مثلما تعزي نفسها بهذا المصاب الكبير، راجية للجميع الصبر والسلوان.

الذكر الطيب دوما للفقيد الكبير د.فالح عبد الجبار !

وداعاً أبا خالد ! فبعدك لن يكتمل النصاب.

(الثقافة الجديدة)

26/2/2018