مساء يوم الجمعة 2 – 2 – 2018 اجتمع عدد غير قليل من محبي الشعر والادب والغناء ،  خلال المحاضرة،  التي قدمها الدكتور سعدي الحديثي عن المكونات المعرفية للشعر والغناء البدوي،  كجزء من تراث الغناء العراقي وعلاقته بالعمليات الاجتماعية – التاريخية – الثقافية في العراق.  كان تفاعل مثقفين عراقيين في هولندا قيماً،  متحدين  مديات  الزمان الهولندي المليء بالبرد والمطر.  كانت القاعة ممتلئة بالتمام والكمال، لكنني حين نظرت الى وجوه الحاضرين الكرام ما وجدت بينهم – مع الاسف – وجها موسيقيا – غنائيا عراقيا من الكفاءات المتوفرة في البلاد المنخفضة ليناقشوا او يعقبوا او يتداخلوا في محاضرة من صلب اختصاصهم ومنهجهم لرفع مستوى معارفنا ومعلوماتنا و معارف جميع الحاضرين  تماما كما هي العادة في ترتيب محاضرة عن الفن التشكيلي لا يحضرها فنانون تشكيليون او في محاضرة عن المسرح لا يحضرها مسرحيون!

لا أدري هل هذه الظاهرة  طبيعية او مؤرقة ، ام لا هذه ولا تلك..؟  اجابني صاحبي على الفور مختصرا القول والحالة بما يلي:  صدقني ان اصحاب الغناء والموسيقى العراقية لا يحضرون محاضرة حتى لو كان المحاضر  زرياب او عثمان الموصلي او بتهوفن

اظن ان صاحبي لم يكن على صواب لان المسار الثقافي العراقي كان ولا يزال يتعلق نموه وتطوره بالمعارف والتجارب "الجمعية" اضافة الى التجارب والمعارف "الفردية"،  خاصة اذا كانت هذه التجارب حاملة ارثا ثقافيا متفردا ، كما هو الحال في معارف وتجارب الدكتور سعدي الحديثي المختص بكينونة ثقافية متميزة.  

يبدو على وفق قول صاحبي  ان اشكال التعلم الثقافي قد تغيرت وان المناقشات  الفئوية قد تبدلت . لم تعد هناك حاجة للتناظر او المحاكاة لأن الكثير من المعنيين بالغناء والموسيقى، في هذا الزمان، ربما يزعم ان مساره الغنائي – الموسيقي قد بلغ القمة ولم يتسع له الوقت لأية اضافة ثقافية ، لا من حيث الاضافة الى النشأة في القصيد البدوية والجذور الغنائية  الشعبية  ولا من حيث التجديد العلمي – العملي  في النظر الى عمق الفولكلور العراقي. 

يظل السؤال التالي،  تطورياً:  لماذا يتوقف المبدعون في موقف  منعزل عن الحضور الى لقاءات  في ندوات  جدل وتقييم لا ينتجان غير  زيادة اكيدة في مهارتهم هم بالذات..؟

وجدت من المناسب في هذه الندوة التي غاب عنها المختصون والمختصات بالغناء والموسيقى العراقية  ان اقول في مداخلةٍ ، أولاً وقبل آخرين ،  وقد جاءت  كما يلي:

سعدي الحديثي صديق عزيز تابعته مذ كان شابا يافعا يتطلع الى الذرى. كانت الذرى، التي يتطلع اليها صعبة المنال، لكنه استطاع بجهده ومثابرته ان يسهّل طريق الوصول اليها بإرادة نادرة المثال وبكفاح عنيد متواصل اعتمادا على وسائل العلم والمعرفة الاصيلة.. وجدته خلال ستين عاما مضت مكرسا وقته وجهده لتطوير ذاته الثقافية من اجل اكتشاف وتوفير المعارف القابعة في ادنى مراحل التطور الاجتماعي واعني بذلك المعارف المخزونة في باطن الصحراء العراقية وفي عادات قبائل البدو الرحل.

مثلما كرست ام كلثوم فنونها الغنائية – الموسيقية لكشف معاناة المرأة العربية، داعية الى كسر قيودها،  بصوتها الشجي المرتفع في كل العهود والحكومات والدول، كذلك فعل سعدي الحديثي بالكشف عن معاناة الشعب البدوي، داعيا الى كسر قيوده الخشنة مستخدما الوسيلة ذاتها في علوم الفن والموسيقى والغناء بمثابرة ارادية لم تنقطع منذ طفولته.

ليس للشعب البدوي ولا للبداوة "آثار" يمكن التنقيب عنها وفيها او بذل الجهود لتصنيفها وتحديد منطوقاتها العيانية. كما ليس للبدو والبداوة  اية معالم عمرانية او اية صروح حضارية مشيدة او مبنية او اية منتجات ابداعية اخرى كما لدى الشعوب المدنية – الحضارية الاخرى يمكن الركون اليها في التنقيب والبحث لمعرفة المعاناة والاشكالات في حياة البدو والبداوة، غير أن  سعدي الحديثي اجهد نفسه في استنطاق التكوينات اللسانية البدوية المبنية على تفكيك "كلمات" و"عبارات" و"صور شعرية" معقدة وصعبة استخلصها بأطروحة دكتوراه في جامعة بريطانية ، قبل حوالي 40 عاماً،  على اساس ان البدو هم بشر، مثل جميع البشر،  يتعلمون من التطور "الفردي" و"الاجتماعي"  من خلال  قدراتهم البشرية  على التعلم المعرفي والحياتي . اول المعرفة هو الحب المتبادل بين الرجل والمرأة   وقد وجد الدكتور سعدي الحديثي هذه المعرفة الفطرية في التكوينات اللسانية البدوية ، المباشرة والرمزية ، بل انه استطاع من خلال دراساته العلمية  التعرف  الى جذور الغناء في الثقافة العراقية ، سواء كان الغناء فرحا او حزنا ، مركزا على دراسة الفن الفولكلوري أي الاغنية الصحراوية ، الاغنية الفولكلورية،  التي فيها القليل مدوّن ومكتوب واكثر ما فيها غير مدون ولا مكتوب  وهي اغاني عرب البادية في العراق وسوريا والاردن وفلسطين والسعودية والخليج وربما في بلدان اخرى ، كما اوضح الدكتور هاشم نعمة في مداخلته بالندوة  عن وجود بعض جذور الفولكلور البدوي  في صحارى شرق  البلدان العربية شبيها لها في جذور الفولكلور في صحارى غرب البلدان العربية.

ركز سعدي الحديثي جهده خلال اكثر من اربعة عقود زمانية بمتابعة اصول وتفاصيل حكايات الاغنية البدوية "المكانية"  وتحليل مسموعاتها "الزمانية" وكشف دبكاتها "الجوبي"  للوصول الى الحقائق في معرفة ودراسة بعض مظاهر البداوة في الحياة الاجتماعية وفي العلاقة الثنائية بين الرجل البدوي والمرأة البدوية، مواصلا البحث في اعماق الغناء والموسيقى عن وسائل الحياة البدوية وتصانيفها المتعددة  في اعالي الفرات، بما فيها من ايجاب وسلب موحدة بهدف الارتقاء من حالة البداوة الى حالة الحضارة والتقدم.

كان ابن خلدون قد بحث عن وسائل الارتقاء البدوي بوسيلة "التاريخ" وبحث ابن رشد عن وسائل الارتقاء بوساطة "العلوم" وتمكن النمساوي غريغور  مندل من الوصول الى حالة الارتقاء بوساطة البحث في اصول "الوراثة" وقوانينها،  كما تمكن الانكليزي تشارلز دارون تحقيق ارادته وخططه واهدافه عن طريق اكتشاف قوانين التطور والبقاء للأصلح.

الباحث سعدي الحديثي استخدم وسائل وثقافة الغناء والموسيقى والجوبي لتحديد سبل ارتقاء البداوة وتحولها نحو الحضارة مستخدما "التاريخ" و"الوراثة" وقوانين "التطور" وكان  باحثا علميا فائق النشاط في الاستقصاء عن "العرضة" البدوية و"الملاحم" و"القصيد" ورقصات "الجوبي" باقتداء اهم وانفع الآليات المعرفية الحديثة  في عملية التطور الفردي والجماعي بحياة الصحراء الغربية العراقية.

كانت ليلة الثاني من شباط  2018 في مدينة لاهاي ليلة عراقية مميزة، ليلة ثقافية، فنية، غنائية، على مدى ثلاث ساعات من عمر النشاط الثقافي تكفلت به تنسيقية التيار الديمقراطي بالتعاون مع النادي الثقافي المندائي في هولندا.

عرض مقالات: