حصل الروائي عبد الكريم العبيدي على الكثير من الانتباه والتقريض حول روايتيه المبكرتين "ضياع في حفر الباطن" و" الذباب والزمرد" في الاعوام القليلة الماضية، وهذا ما يمنحنا ويمنح غيرنا مناسبة للتساؤل: لماذا حملت روايته الثالثة والاخيرة ذات العنوان الصادم "كم اكره القرن العشرين" الكثير من اللغط وعلامات الاستفهام سواء في حسن الاستجابة لها أو من عدمها؟

اعترف بان ثقتي بالرواية العراقية الجديدة واهنة وضعيفة، خصوصا بعد هطول الروايات الكثيرة من أدبائنا العراقيين في الداخل والخارج، ومنها من حظي احياناً بقدر ملموس من القراءة والمتابعة. ولكن كثيرا ما اشعر بالاحباط مما اقرأ من رواياتنا العراقية الجديدة ومن النادر انني احس بعدم ضياع الوقت في قراءة بعضها كما حصل معي مؤخرا في قراءة رواية العبيدي الثالثة، حتى وان استلمت نسختي منها في وقت مبكر من نزولها الى مشهدنا الثقافي العام، اذ آثرت الصمت والانتظار عسى ان تنجلي غيوم التقدير والرفض معاً، خصوصا ما ورد في مواقع التواصل الاجتماعي الذي لا يعتد به ازاء أي رأي نقدي آخر من النوع الحصيف حول هذه الرواية ذات الطابع الاشكالي المعلن.

لا أغالي ان قلت بانني أحببت سرود عبد الكريم الروائية في روايتيه الأوليتين المذكورتين، مع متابعتي الجادة له في مسيرته الاعلامية المعروفة في كتابة العمود او الريبورتاج الصحفي. "ولنتذكر في هذا الشأن شواغل وانهماكات ارنست همنغواي وغارسيا ماركيز في عملهما الصحفي" حينما اصبحا بعد حين من أكبر وأخطر الروائيين في العالم. وهذا ما يحسب للأديب والاعلامي عبد الكريم العبيدي، ان شئنا القول باهمية العمل الصحفي وفاعلية الاعلام في تأسيس المثابات الاولى للمبدعين في اماكن مختلفة، او عند اناس معينين.

وقبل التطرق الى رواية كم اكره القرن العشرين احسب ضمن هذه المقدمة الملزمة القول، بان السرد الابداعي المتمكن هو معيار اي رواية جمالية ودلالية جميلة في العراق أو الوطن العربي او العالم. فالسرد احيانا كالشعر اما ان تحبه لاول وهلة او ان تكرهه من اول قراءة. السرد الحقيقي – كما اظن ويظن الآخرون من صحبي- هو إلهام قبل كل شيء وانفعال، والانفعال يأتي بسيطا ومباشراً لا يحتاج اكراها وشدا من الاعصاب، بل لا يعتمد على المادة الخام في "المتن الحكائي" حتى وان كان هذا المتن من اتفه المتون طرا او تنطعاً، فالسارد الحقيقي او الروائي المبدع او الاشكالي او العليم كليا – سمّه ما شئت – يسعى الى "المبنى" الروائي وهو يطرق سرده ضمن إلهامه وانفعاله وموهبته من خلال المتن المذكور وصولا الى الجمال والخصوبة والاكتناز معا.

وفي غمره كل هذه الاستباقات والملاحظات حول رواية "كم اكره القرن العشرين" لعبد الكريم العبيدي فقد اختار هذا الروائي طريقا معقدا في البنية العامة لروايته او ما يعرف بمبناها ومحتواها، فشخصيات روايته الاساسية والفاعلة لا تتعدى عائلتين بصراويتين متناحرتين في احد الأحياء السكنية في البصرة القديمة. ولكن العبيدي يرتفع بهاتين العائلتين الى مصاف التقاطع والاختباص والعنعنات الشائعة بين اهل المحلة، وما يترتب عليها من مماحكات او ظلم يصل الى حد القتل او الثأر او الجريمة المنظمة، وحد التواصل والعمل مع السلطات الامنية الحكومية ليحيلنا الى المسكوت عنه والمحرم في هذا النزاع واين؟ ربما ضمن اجواء ما يعرف بحربي الخليج الاولى والثانية خلال العقدين الاخيرين من القرن العشرين وما رافقهما من اهوال ومصائب وويلات.

ثمة أسئلة كثيرة ومعقدة تفصح عنها هذه الرواية في شخصياتها المتفردة والمعدودة في محمولات العائلتين المذكورتين، من خلال النزاعات الطائفية والعرقية ذات العجائب الديموغرافية المعلنة بين "البلوش والعرب" العراقيين، عبر المتفرد والغرائبي لهذه الشخصيات في المبنى والمعنى في تشكيل هذه الرواية المعقدة او شبه الاشكالية. والرواية بمبناها العام قد تلقي اضواءا على تكوين مرجعيات الروائي والمصادر التي نهل منها، وعلى جوانب من سيرته الذاتية، وحياته المهنية، ومواقفه الشخصية، خصوصا وان روايته لا توحي بسيرة ذاتية ولا سيرة ادبية، بل بذكريات على هامش المسيرتين، وانثيالات وقبسات طغى فيهما السردي.

تبتدأ رواية "كم اكره القرن العشرين" باستهلال سردي واقعي مكين، هو اشبه بالروايات البوليسية ذات النكهة المحملة بالحبكة الاثيرة والاسرار الطرية غير المكتشفة. واول هذا الابتداء هو رنين الهاتف الخلوي للروائي العليم "قبل ان يصبح عليما بشكل كلي" من خلال رقم غريب ولعدة مرات. ثم يعزز الرنين برسالة تعريضية من اجل الرد، فاذا بروائينا شبه العليم يسافر الى اربيل ليلتقي بالدكتورة ميا العراقية المغتربة مع زوجها، ليكتشف خلال سبعة ايام من اقامته معهما عائلة بلوشية مغتربة من اهالي البصرة، بعد ان ضاعت جزافا في غمرة التاريخ، وفي هذا اللقاء الاحتفالي تُسرِب الطبيبة ميا اسرارا دفينة عن شقيقها مولود الذي وافاه الاجل في مدينة روتردام الهولندية، مع رسالة اشبه بالوصية ومبلغ مالي مغرٍ ووعد بدعوة خاصة لزيارة هولندا، فضلا عن رزمة اوراق ودفاتر مليئة بهذيانات واستذكارات ووقائع للشقيق المذكور. وكان على روائينا شبه المعلن او شبه الضليل ان يمضي سنة مربكة، شديدة القسوة ليفك الطلاسم والاسرار، وما اودع مولود في جعبته، ليبتدأ بالتدوين السردي لسطور الاتفاقية مع اخت البطل الغائب.. بل كان على روائينا المعلن "في ما بعد" ان يبتدع طرقا وخطى ومؤثرات ليحكي روايته المنصفة المحايدة، بعيدا عن الافتراءات والدوافع الذاتية والانحيازات الخاصة. ولهذا وجدنا ان رواية "كم اكره القرن العشرين" تقيم بنيتها المعمارية من خلال خطاطة مركزة بفصول ومشاهد متعددة، جاء فيها التالي:

- موجز اتفاقية هاولير "اربيل".

- الصندوق الاسود الاول.

- الصندوق الاسود الثاني.

- شماريخ – الدفتر الاول: السياحة في العدم.

- شماريخ الدفتر الثاني – كاسيت (سلي ريبو).

- كاسيت سلي ريبو A

- كاسيت سلي ريبو B

- شماريخ – الدفتر الثالث – سيمفونية الاصبع الوسطى.

- متناذرة مويا

- وصايا مولو

ومع ذلك، فقد جاء هذا التراتب الاعماري الاشكالي المعقد في رواية "كم اكره القرن العشرين" مدروسا وبعيدا كل البعد عن السريالية او ادب اللامعقول. ففي الوهلة الاولى تبدو هذه الرواية صعبة عصية، ولكنك ان امعنت النظر فيها تكشفت لك اسرارها، وتبدت لك حيواتها وخصبها واكتنازها. فهي رواية تغلب عليها الصنعة او ما يعرف بـ "التقنيات الروائية الجديدة او ما يصطلح عليه بـ الميتا – رواية" خصوصا وانها رواية ذات معمار متعدد، مركبة تركيبا هرمونيا دقيقا في اللغة والاستعارة والكنائيات، ولذا تتطلب قراءة جديرة بمحمولاتها السردية الطويلة.

وعبد الكريم العبيدي لا يبخل على القارئ الملهم في هذه الرواية بتسليم رموزها ومفاتيحها وعلاماتها خصوصا في شماريخه المتعددة ذات الكلمة والمعنى، او ما يحضر او ما يحب في المصطلح ومعناه. فهو لا يترك في هذه الرواية قارئه من دون شفرات او موجهات تنسل او تتهادى معه في عملية القراءة، سواء اجاد السرد في اللغة او موجهاتها، او ما يحتمل من لغتها الاستعارية المرافقة، كالكناية والرموز والمجاز ولكنه لا يبالغ في ذلك فيكشف للقارئ اسرار عمله السردي، بل منعطفات على الطريق ويتركه، من اجل متعة الاكتشاف والتأمل والتأويل.

احسب ان في هذه الرواية ايضاً، شجن تراجيدي موصول حول الملغز والعجيب حول النسيج الاجتماعي والديموغرافي في العراق الذي يصل حد ذرف الدموع والاحزان، ومنه:

- الاقلية البلوشية في العراق، من حيث الاصل والفصل، وما عانت هذه الاقلية من كوارث ودماء من اجل اندماجها في هذا الوطن.

- "الشراكوه" من اهل الجنوب العراقي، والنظرة الدونية لهم من قبل البغداديين واهل المحافظات الغربية.

- اليهود العراقيون، وهم يرحّلون ظلما وعدوانا من هذا الوطن، بفعل قرارات جائرة صدرت من اقطاب الحكم الملكي المباد.

- صحوة المسؤول الامني المرعب في تجليات وطنيته الحقة وفي حالة الاعتزاز بأهله واصدقائه وخلانه.

ثمة الكثير قد يقال حول رواية "كم اكره القرن العشرين" في احداثها ومراميها ومشتبكاتها المتعددة. فالرواية باختصار شديد تعبر عن معاناة وشجون وآلام "مولود" الشخصية المحورية فيها، منذ ان كان هاربا من الجيش ومدة تعقب خصمه "صارم الزنبور" للانقضاض عليه، من اجل تصفيته او اعدامه لاسباب شخصية وعائلية وحزبية معروفة في ذلك الزمن.

والرواية تفصح عن مسارات هذا الجندي الهارب، في حله وترحاله، او سلامته في ظل حياة مؤلمة مليئة بالصعاب والكوارث كنا  قد عشنا طرفا من نسيجها العجيب ضمن زمن مضى وانقضى، وما زلنا نعاني من افرازاتها ونتائجها حتى اليوم. والرواية ايضا تجنح من خلال بطلها "مولود" الشهيد، الذي لم يكن شهيدا ذات يوم وانما فرض لعبة القدر المأساوية لنفسه ضد السلطة الدكتاتورية الغاشمة، وعلى خلاف معلن وصريح لمرامي عائلته من اجل تأكيد الانتقام والثأر البطولي شبه المشروع لعزته وكرامة هذه العائلة، ليستقر في الاخير كأي لاجئ مجبر في ديار الغربة الهولندية، ثم يموت هناك نسيا منسيا، الا من تركة كيسه الاسود الفاجع وما حمله من ذخائر ومقتنيات تحمل تلك الوقائع والاحداث التي نهضت بها رواية العبيدي الاخيرة.