حوالي الساعة الثامنة صباحا كنت اقف قرب بوابة سجن الموقف في باب المعظم. لم استطع اخفاء شبه ابتسامة للمفارقة التي وجدت نفسي فيها.

كنت منذ انتفاضة تشرين 1952 هاربا، مطلوبا من الشرطة، العلنية و السرية، مرة بسبب حيازة منشور للحزب، الثانية بسبب مشاركتي في الأنتفاضة. و ها انذا اقف امام بوابة السجن الذي اهرب منه!

كنت غيرت قيافتي: دشداشة، جزية صفراء تخفي ملامحي ، معطف بني يلامس القدمين.

من سيكتشف الفتى الأنيق في هذا الصبي المهتلف؟ مع ذلك كنت اتلفت مخافة ان يلمحني" احدهم"...

اشتريت كومة خس، غطتني حتى العنق، من عربة مجاورة مبالغة في التخفي.

تكوم المواجهون على البوابة: نساء ورجال، افندية و معكَلين اطفال.

تعالى الصراخ: ما تفتحون باب الرحمة! ما يكفي ساجنين ولدنا فوكِاها تبهدلونا؟ جايين من تلفات الدنيا و نريد نلحكَ نرجع "

فتح السجان باب الرحمة. دخلوا يتدافعون. اندسست بينهم.

كان السجانة يمهرون اذرع المواجهين ليسمحوا لهم بالخروج عندما تنتهي المواجهة.

لست ادري، احدث ذلك صدفة ام تعمدته ؟سقطت كومة الخس ارضا بينما امد ذراعي ليجري مهره بختم السجن. انحنيت الم الخس. سقطت الجزية عن راسي فوق كومة الخس.مهرني السجان على عجل بينما و هن يدمدم: شجابك به الوقت؟" هل اقول له الحزب! رحت الملم خسي.

قصدت اخي السجين. كان حكم عليه بالسجن سنة واحدة بسبب مشاركته في مظاهرة انطلقت من كلية التحارة تهتف: يلله يا شباب نجدد الوثبة!" حيث كان يدرس( انا من ورطه مع انه اخي الأكبر!) و بسبب حيازته على كتاب عن الموا موا!"( الماو ماو) كما لفظها الشرطي الذي القى القبض عليه، اما م المحكمة العسكرية.

كان اخي يجلس على يطغ( بطانية بلغة السجن) حوله الأهل، امي، شقيقتي,,,

لم يخف اخي و الأهل دهشتهم لوجودي في السجن، انا المطارد.

هل اقول لهم ان الحزب كلفني بدخول السجن لاادري لماذا؟( لعله يستعجل سجني! ليخلص من لجاجتي! كنت لجوجا لحوحا منذ ذلك الوقت!)

قلت، و انا اعانق اخي دامع العينين ان الشوق برح بي لأخي! فصدقوأ!

سالت عن ابي زهير. استغرب اخي. اوضحت ان اهله في الكاظميىة حملوني رسالة له. سأل اخي. عاد .اشار الى بوابة في اقصى المبنى، عرفت انه الفرن.

دخلت الفرن. كا ثمة رجل ممتلئ اقرب الى الطول، يخط الشييب بضع خصل، بالكاد تخفي صلعة منتشرة.

سلمت. رد مقطبا.ت: ابو زهير؟ رد : نعم. كانه كان ينتطر قدومي. رددت اشارة التعرف. هز راسه. لم تفارقه التقطيبة. الا يعرف هذا الرجل الابتسام؟

اشار الى سلم يقود الى سطيحة تعلو الفرن. قال بلهجة آمرة: اصعد فوكِ!)

كنت افكر و انا ارقى السلم الحجري: ماذا ينتظرني فوكَ؟ هل هم بحاجة الى فران؟ انا حايج...لا اجيد الخبز!"

 كانت السطيحة( البيتونة) مرتبة، نظيفة. تهالكت على مندرهناك. و انا اردد بين الجد و الهزل: لعلهم سيخبزوني!"

...ثم تقاطر خلال وقت لم يطل: محي عبد الرحمن، تبعه حكمت كوتاني.

كان كل منا يحدق في الأخر، مدهوشا، مستغربا. علق ابوعطا( محي) بما عرف عنه من روح نكته: اجتماع رفاق!

كملت السبحة!

الهروب -3

كنت التقيت حكمت كوتاني و محي عبد الرحمن خلال عملي في ورشة القره غولي للنجارة الواقعة في زقاق خلف شارع الأمين، ضارب (كاغد سمباده-  ورق مزجج، اي منعم للخشب الذي سيجري تشبيعه ب( السبيرتو دملوك).

تقلبت بين اعمال رثة عديدة  في صيف عام  1952  ( كنت التحقت بالحزب  قبل ذلك بأشهر)، صبي في مكتب للطباعة على الآلة الكاتبة قرب بناية المحاكم، مساعد فراش! في مكتب التاجر- الملاك الموصلي صديق الجادر في شارع البنوك، سرعان ما هججني منه استادي الفراش خوفا على مركزه.

كنت مستعجلا لان استقل، انفصل عن اهلي و طبقتي و انضم الى صفوف العمال و الكادحين، اليس الحزب حزب العمال والفلاحين وسائر الكادحين؟

سيسال ألبعض: كيف سمح لك اهلك بذلك و انت في تلك السن؟

لم يكن بإمكان احد ان يقف في طريقي. جرب ذلك اهلي اكثر من مرة، ثم رفعوا الراية البيضاء!

كانت ورشة القرغولي ملتقى، خصوصا في الظهيرة، وقت الغداء، للناشطين الشيوعيين و النقابيين ( كان اصحابها، انفسهم من اصول تقدمية، يسارية ( حزب الشعب)

و هكذا التقيت حكمت و محي في ورشة النجارة ثم... فوق سطحية الفرن في سجن الموقف!

كنا نخفي توترنا بتبادل النكات و الاحاديث العابرة، منتظرين ان يهبط جبريل الشيوعي! ليبلغنا الرسالة: مهمتنا!

كان وقت المواجهة اوشك على الأنتهاء. " يلله رفاق ننزل ونروح لهلنا" قال محي بين الجد و المزاح مضيفا " يبين صادر علينا امر القاء قبض من الحزب!"

لم يطل انتظارنا كثيرا. اطل علينا رجل وسيم فارع، وسيع العينين بشكل ملفت ( سأعرف فيما بعد، في سحن بعقوبة انه الراحل عزيز الشيخ). قال بنبرة هادئة، و البسمة تفترش وجهه ( اي خلصنا من ابو وش العابس، عبالك مداين الله فلوس!) قلت، في داخلي، طبعا!

رفاق! قال الرفيق عزيز مضيفا: انتو هنا بضيافتنا لبضعة ايام. سيأتي السجان لأجراء التعداد، لا تدعوه يرى وجوهكم. واحد ينام. واحد يقرا جريدة، واحد يلزم كتاب!" منا الى ان يخرج المواجهين"

بانت سعاد! نحن اذن كمالة عدد!

ستصلكم الوجبات مع لحم زيادة، في اوقاتها" اكد مبتسما،

اضرب ابو الخل" قلت في نفسي" ستشبع اخيرا، و شنو؟ لحم! على حساب الحكومة!" كان اجري، بالكاد يقيم اودي. كنت ما ازال متدربا، احوك فوطه او فوطتين باليوم. يعني 100 فلس!. كنت و اكثر عمال النسيج اليدوي نتسقط اخبار العزيات و الفواتح لنحظى بماعون قيمة او باجة " مكاسير"، اما قضاء الحاجة، فبعد منتصف الليل"!

هاي شلو رح ندبرها؟" تساءل حكمت.

اقترب منه ابو عطا، همس في اذنه. دفعه حكمت و هو لا يكتم الضحكة قائلا: ما تجوز ابو عطا من شقاك الماصخ!"

اضاف الرفيق عزيز قبل ان يغيبه السلم: انتبهوا الى الختم على ذراعكم، حاذروا ان يزول! و الا ستقضون عمركم في السجن او او... تنقذكم الثورة!"

عقب ابو عطا بصوت خافت ممازحا حكمت: موت يا حكمت..." زجره هذا الأخير. " هو هذا وكت  شقا!"

ادرك ابو عطا الرفيق قبل ان يغيب مستفسرا: رفيق  شوكت رح تطلقون سراحنا؟"

رد الرفيق مازحا: من يصدر الحزب عفو عنكم!"

استدار أبو عطا الى الجدار و اخذ يشخر، متظاهرا بالنوم، حتى قبل ان يصل السجان!

تناول حكمت صحيفة فرشها على وجهه حتى كادت تغطيه..

اما انا فانزلت الجزية الصفراء بحيث كادت تغطي القسم الأكبر من وجهي تناولت كتابا كان في متناولي حشرته تحت الجزية...كان بالصدفة كتاب" الأقتصاد السياسي" لمكسيم ليونتيف...

 بغداد

     2018 -  2-   23