ما إن وطأت قدماي شارع المتنبي الذي يسميه بعضهم شريان الثقافة العراقية, حتى لفتت نظري تجمعات صغيرة لشباب فارعي الطول يتمركزون في أماكن محددة, إنهم يرتدون بدلات سوداء مع أربطة عنق قريبة إلى اللون نفسه ويحملون أجهزة اتصالات خاصة فيما تبرز من جهة خاصراتهم  نتوآت تشي بوضوح على إنها أسلحة شخصية, خَمَنتُ إنهم رجال أمن مما دفعني أن أهمسَ لنفسي مازحاً: عَجيب أمور غَريب قضيه!

في بداية الفرع, في الركن تماماً كان هناك ثلاثة منهم  يتهامسون, مررتُ إلى جانبهم, لم يأبه لي أحد منهم, دلفتُ إلى الباب التي تقع إلى اليسار, فاجأني سلمٌ يغرق في عتمةٍ شبه تامةٍ, ارتقيته, انتقلتُ إلى سلمٍ آخر, ثم انتقلت إلى سلمٍ آخر أفضى بي إلى باحةٍ مُنارةٍ تَعلوها يافطةٌ تحملُ اسم دار النشر, القيتُ التحية, إتنان كانا واقفين رجلٌ أسمر وشاب نحيل, ردا التحية, على الفور تحدثتُ قائلاً:

- جئتٌ مهنئاً بفوز العراق بالجائزة الأولى للرواية العربية.

في الحقيقة كان الموضوعُ ذو صلةٍ فالروايات السابقة للكاتب الفائز بالجائزة صدرت عن الدار نفسها التي أتواجد فيها الآن, ِشكراني بلطف, اشتريت رواية الكاتب التي سبق وأن قرأت عنها دراسة باللغة الإنجليزية لكاتبة تونسية  بعنوان "الحرب والإحتلال  في الرواية العراقية", كان بودي أن أباركَ لها حُسن  اختيارها هذه الرواية أنموذجا. خرجت مُودعاُ الرجل الأسمر والشاب النحيل, في طريق العودة مررتُ بالشباب الثلاثة, كانوا في المكان نفسه يتداولون أموراً تخصهم ولم يأبهوا لمروري أيضاً.

كان الشارعُ يعج بالمارة, لم تكن هناك أية أرصفة بل كانت أمواجٌ من العناوين التي تحملها الأغلفة ذات الألوان غير المنسجمة مع بعضها والتي كانت تغطي كامل المساحة, أعترض طريقي شاب في بداية الثلاثينات يرتدي "تي شيرت" أحمر, إنه يقف متأبطاً رزمة كبيرة من الصحف بعناوين حمراء صارخة  يوزعها على المارين بشيء من البهجة, سألته بضعة أسئلة فأجاب دون تردد عنها, اقتنيت نسختين وتوجهت إلى بناية المحكمة العسكرية العثمانية, كانت الطوابير تترى داخلةَ, رجال الشرطة يقومون بواجباتهم في تفتيش المارة,إنهم يمررون أكفهم بعفوية على مناطق الظهر والبطن باحثين عن أبعد الاحتمالات في العثور على أسلحة مخبأة أو أحزمة ناسفة, عندما جاء دور الشخص الماثل أمامي منعه الشرطي بسبب ارتدائه "الشحاطة", حاولت الاعتراض قائلاً بصوت مسموع: ربما لا يمتلك هذا المواطن ثمناً لشراء الحذاء أو إن مرضا ألمَ بقدمه , لكنهم لم يأبهوا لي, إنهم يمتثلون لأمر الضابط الذي يقف على مسافة  قريبة منهم.

تنفرج ساحة المحكمة العسكرية العثمانية عن باحة واسعة تصطف إلى جوانبها بسطات وجنابر صانعي التحف والحرفيين المختصين بالرسم والكتابة على الهدايا التذكارية ويشكل هذا النشاط عامل جذب للشباب والشابات في مقتبل العمر وتلبي معارض الصور رغبات المهتمين بالتاريخ وهناك أيضا تنتشر بسطات الكتب وجنابرها المتنوعة, ويتصدر الباحة من جانبها الشمالي مسرح صيفي يزخر بالاستعدادات لعروض باتت وشيكة مثل الأعمال المسرحية الصامتة "البانتومايم", مسرحيات الفصل الواحد أو أغاني شبابية إذا اقتضى الأمر, غير إن زخات المطر غير المتوقعة فاجأت الجميع, اختفى الممثلون عن خشبة المسرح وكأنهم لم يكونوا, وسارع اصحاب الجنابر والبسطات بحركات رشيقة لسحب رقائق النايلون الشفافة التي يصاحبها أزيز خافت لاحتكاك بعضها البعض  ليقوموا بعد ذلك بفرشها على الكتب والبضائع لحمايتها من البلل وسط ضحكات الشباب والشابات الصادحة.

دلفت إلى باب القاعة الأقرب اتقاء  لزخات المطر, كان الحضورُ مُقنعاً والموضوعُ يدور حول السلم الأهلي, رجل قانون بارز يتحدث بنبرة عالية عن أهمية السلم الأهلي وحماية  حقوق جميع  أفراد المجتمع, إنه ينتقل من الدين إلى السياسة ثم إلى علم الاجتماع, بعد ذلك تحدث ممثل حقوق الإنسان عن أهمية حماية حقوق المتظاهرين , لقد كان هادئاً وبسيطاُ, تذكرت إني شاهدته على شاشة التلفاز مسانداً متظاهري البصرة وساحة التحرير, في ختام محاضرته استعار قولاً مأثوراً كثيراً ما كنت أسمعه "يجب علينا أن نتعلم التظاهر قبل أن نتعلم المشي" لكن الذي لفت نظري ووخزني قيام أحد الأشخاص بتوزيع الأوراق على الحاضرين لتسجيل أسمائهم وهنا همست لنفسي... أتمنى أن لا تكون هذه خطوة صغيرة في مسلسل قَضم الحريات المدنية, خرجت من القاعة مع انحناءة صغيرة احتراما للمحاضرين.

ارتقيت السلم الحجري إلى الطابق العلوي, دلفتُ إحدى القاعات واتخذت مجلساً, كان الحضور شحيحاً,  المحاضر يتحدث عن تجربة غنية لروائي عراقي رحل قبل زمن قريب, خلاصة ما توصل إليه المحاضر "لا يُعد الأدب إبداعاً إذا لم يكن قادراً على إثارة الأسئلة" ثم تحدثت سيدة عن صلة قرابة أسرية تجمعها بالروائي الراحل مسلطةَ الضوء على الجوانب ألإنسانية والروح العصامية التي أغنته لتأليف الروايات, ثم تحدث محاضر آخر عن الروائي بعمومية أفقدته المجسات النقدية المطلوبة , لم أشعر إن هناك إيفاء لحق هذا الروائي الذي قرأت رواياته أجيال كاملة من عشاق الرواية.

نَزلتُ لتحتويني الباحة الواسعة مجدداً, تجمعات العسكر وشباب وشابات يافعون, تتوسطها سيدة ثلاثينية ترتدي فستاناُ طويلاَ أسود مما يضفي عليها هالة من الاحترام, إنها تقوم بإجراء مقابلة لصالح إحدى القنوات الفضائية مع ضابط رفيع المستوى , كانت تقف ثابتة في مكانها كنخلة , تطرح الأسئلة والضابط يجيب بتؤدة , فيما راحت عشرات العيون تحصي وتتابع كل نأمة  صوت وحركة موحية تعطي المقابلة سماتها الخاصة.

هاأنذا أقف خارج أسوار المحكمة العسكرية العثمانية بجدرانها المتينة وقاعاتها الواسعة, يتلقفني الشارع مجدداً, تقودني خطاي نحو مقهى "الشابندر" وسط الشارع, اللافتة الأعلى تعلن عن اسم المقهى وتحتها كلمات تعلن عن الانتماء "مقهى الشهداء", أمام البوابة يتكتل جمع بشري متراص بوابل من شباب البدلات السوداء وشباب آخرين يبهزون برؤوسهم  إلى الأعلى ليحصلوا على مشهد يتحدثون  عنه لاحقا,شباب البدلات السوداء والقامات الفارعة ينهمكون بالتواصل عبر أجهزتهم الخاصة ويتداولون التوجيهات, أعلى البناية المقابلة كان هناك قناصون بأسلحة أوتوماتيكية يمسحون بنظراتهم هامات رواد الشارع وحركاتهم المتوقعة, بعضهم  ينحني لتناول كتابا وبعضهم يتقرفص منهمكاً في تقليب كتاب أو مجلة وبعضهم الأخر يساوم طمعاً في الحصول على سعر أدنى مستخدماً لغة الجسد للإمعان في التأثير على البائع, ربما كانت هناك ابتسامة تلوح على شفتي أحد القناصين, لكنها بالتأكيد غير مفضوحة بسبب بعد المسافة.

شعرت بشيء يجذبني نحو البوابة, اندمجت بالجمع الواقف, أحدهم يقول إن الرئيس يجلس في المقهى, آخر يكلم أحد أفراد الحماية راجياً منه الدخول فلا يسُمح له.

- أخي آنه عراقي وأريد مقابلة الرئيس

وصلته الإجابة على الفور بلكنة كردية هادئة

- راح يطلع للشارع وكلمه

تمرُ الدقائق ثقيلة, تنفرج البوابة, ينفض وابل البدلات السوداء, يخرج الرئيس تصاحبه زوجته, يسود الهدوء, يتكلم الرجل الذي أراد مخاطبة الرئيس, يَرّد عليه الرئيس بابتسامة ويوصل طلبه إلى أحد أفراد الحماية, يقف الرئيس أمام بسطة كتب وينتقي عنوانين, ينفعل البائع صائحا:

- سيادة الرئيس اعدلوا وسنضعكم على رؤوسنا

يشكره الرئيس مبتسماً

كنت على مقربة من الرئيس, تكلمت معه, لا أدري كيف ترتبت الأفكار وخرجت الكلمات من فمي لكني قلت بوضوح, السيد الرئيس نريد الأمل ولا نريدCOPY  , انتبه إلي وَشّدَ على يدي مبتسما, لقد شعرت إنه فَهمَ الرسالة.... إننا  نريد ما يردُ كرامة الإنسان ويوفر حاجاته الأساسية ولا نريد استنساخ تجربة سابقة لم توفر ما يصبو إليه طالب المدرسة وعامل البناء وربة المنزل, كانت ابتسامته الهادئة مشجعة لي, غَبطتهُ على صبره وسعة أُفقه, ما اكتفيت بذلك بل  صحت بأعلى صوتي أربع مرات...نريد الأمل ولا نريد COPY , وكأني أُشارك في تظاهرة  في مدينة العمارة, يبدو ذلك قريبا  وكأنه يحدث الآن, التفاصيل الصغيرة تنثال ندية تمنحني ألقا لم تتمكن منه السنون..... إنه ما حدث في بداية السبعينات أمام "مكوى ومصبغة بولص"  وسط شارع دجلة, كانت التظاهرة مستعرة, لم يطفئها نثيث المطر الناعم, في فترة السكون القصيرة انطلق صوتي هاتفا "الحرية للمنظمات الديمقراطية.. الطلبة.. العمال.... الشباب.... النساء, كانت الاستجابة قوية, لكن الشعار لم يكن متفقاً عليه في هذه التظاهرة  التي كانت  ملغومة بعناصر الأمن وهنا أصدر أحدهم أمره بحزم...  ُضموه .....ُضموه, بادرت الأيدي بدسي بين جموع المتظاهرين الذين تعالت هتافاتهم حتى وصلت إلى أسماع رواد مقهى "أبو سعدون" على بعد مئات الأمتار.