استهلال

في نص طالب كاظم المعنوّن "تراتيل أوروك/ وملحمة جلجامش" نقف ليس على مجاورة جزئية، بقدر ما هي كليَّة. بمعنى اتبع الكاتب صيغة إعادة نص الملحمة وفق كتابة معيّنة، هي جنس الرواية. لذا يمكننا القول؛ أنه ككاتب قدم نصاً آخر خارج دائرة النص الأول، مستفيداً من حيثياته النصية، باعتباره نصاً ملحمياً، له خاصيته الذاتية والموضوعية. فخروجه عن النص لم يكن ينطل من طبيعته الأجناسية فقط، بل تعداها إلى ما يحتويه المعنى العام، ونعني به السياق الفكري الذي انبنت عليه الملحمة في الأصل وفق مواقع الصراع المركزية والفرعية. وبذلك نكون أمام صياغة جديدة للملحمة. حيث تصرف الكاتب بوحدات النص وفق منظور قرائي يستند على بنية فكرية ذاتية. لكنه أيضاً كان محدداً كثيراً بطبيعة النص وسياقاته، أي علاقاته الداخلية.

مدارات النص /

تواصل النص في مساره وفق ما أتت عليه الملحمة من حراك ملحمي، ينص على نشاط مدني ضمن حاضرة أوروك. فهو اهتم بالتفاصيل التي تتناسب مع المبنى الروائي، مستفيداً من الوحدات التي تحكي عن مضمون انحصر بين ثيمتين أساسيتين، وهما " واقع حال رعايا أوروك، طبعة الملك جلجامش السلطوية ، تحكم المعبد وسلطته المطلقة" هذه الموضوعات وجدت لها متسعا في نص الرواية، حيث عالجها بالتناوب السردي، ووضع لها أُسساً  قربها من نص الملحمة من جهة، وجعلها بعيدة عنها نسبياً، خلال محاولته تتبع العلة والمعلول في مثلاً" العلاقة بين جلجامش والمعبد ، العلاقة بين عشتار وجلجامش، العلاقة بين جلجامش وأنكيدو، العلاقة بين أنكيدو والمعبد ، طبيعة أنكيدو باعتباره وافدا معرفيا ،تفعيل وجود الصياد ودوره في النص الجديد ، رحلتا جلجامش في قتل خمبابا والحصول على الخلود الإلهي". يقابل هذا نوع من التفاصيل التي تطلبها النص الروائي بخصوص بناء الشخصيات، والتوفر إزاء هذا على التفاصيل كالصياغات النفسية " الدايلوك"، حيث وضع بعض النماذج ضمن دائرة نص آخر يتطلب التفصيل وإجراء صيغة جديدة لمسار الشخصية داخل النص.

نعتقد أن الكاتب وفق هذه العيّنات في تحويل النص من نص ملحمي شعري إلى نص ملحمي نثري "روائي"، استطاع أن يقدم نصاً يمتلك وحدات سردية قادرة على الامساك بصيرورة الملحمة، ثم تحويلها إلى مسار قدم خلاله نوعا من البنية الفكرية التي أنتجتها القراءة للنص الملحمي، ووفق رؤى ذاتية خالصة؛ أي خلصه من صيغة المجاورة الحرفية، في كون نصه الجديد أعاد ترتيب ما ورد في النص الأول. إذ نجده قد اتَّبع أسلوباً جديداً، أي تقديم الملحمة ببنية فكرية معاصرة نسبياً. فالنص الأول حمّال أوجه، يُتيح للقرّاء ــ الكُتّاب إعادة صياغتها، أو قلبه بالكامل. بمعنى النص يوفر فرصة الاجتهاد، فهو درس دائم الاستقبال والاجتهاد. ونرى أن " طالب كاظم" آمن بهذه الحقيقة، ووفر لنفسه فرصة القراءة الجديدة، مالئاً فراغات حصل عليها من مراجع أغنت تجربته، سواء في قراءة النص أو لملء فراغاته في ما خص المعنى. فالنص الأول ذي إشارات مقتضبة يمكن استغلالها لغرض تحديد رؤى جديدة ذات مساس بواقع معاصر.

البنية الأساسية للنص المجاور

لا شك أن الكاتب وضع صياغته وفق خصائص نص جديد مختلف في البنية، لذا تطلب صياغة تعتمد على فصول كانت قد واكبت بناء الملحمة على الواح، فقسمها إلى أربعة عشر لوحاً. كما وأشر عناوين رئيسة وفرعية لهذه الألواح تنص على نمو الأحداث وتحريك بنيتها المركزية. لذا فهو لم يخالف نص الملحمة في هذا. غير أنه وظف مخياله السردي في رواية ما وجده مناسباً لنمو حدثه الروائي، ولم يغادر سياق النص الأول في هذا. فقط كان لمخيلته دور في ملء فراغات يجدها بحاجة للتفصيل، كما في منعطف فرعي "زيوسدرا" وعلاقته بالشيخ "نميركار" وتوافق رؤيتيهما إزاء ما يجري في حاضرة أوروك، وهو نوع من ملء الفراغ، حيث أسهب في وصف كل الأشياء ومنها جماليات المدينة، وما يراه بحاجة إلى الوصف الدقيق. كما وأن له موقفاً واضحاً، فهو نحات وذو رؤى منفتحة، وعلاقته بالشاب "نميركار" فسحت المجال لمداولة ما لم تتداوله الملحمة، فقد استطاع الكاتب أن يوّسع دائرة رؤيته عبر التذكر، والتشخيص المبكر، لاسيّما قوله" لقد تغيرت حيتانا كثيراً بعد ظهور أنكيدو ذلك الند المعجزة "هذا السبق في السرد في النص أحال إلى ظهور نمط من المعارضة الخفية لسياسة جلجامش وبمساندة مجمع المعبد " الآلهة". من هذا نجد المخالفة التي يجدر بها أن تنمو في النص الجديد وتتبلوّر أنساقها. خاصة أن رؤية الشابين لظهور أنكيدو، نظرة فيها عمق فكري خلال فهم وجوده في الحاضرة، والذي نعته بـ "الند، المعجزة" وهذا يكفي لتطوير النهج الجديد، لكن الحذر من التمدد في صياغة تداركاً للتأويل حال دون ذلك كما نرى. لكننا نقف خلال ما قُدِمَ  من رؤى تخص الصراع وأسبابه، والشروع في الكشف عن موجبات الصراع المعلن من رعايا أوروك وهم يتذرعون إلى الإله "شمش وأورورو" في خلق ند لجلجامش، قادر على ايقاف تمادي الملك في اضطهاد الرعايا وتخريب بنية الحاضرة، في وقت تتعرض إلى هجمات من الدول والحواضر المجاور. فهو كمعلم يعبث بمصير أوروك ولا أحد يتصدى لسياسته. هذا النمط من الكشف، صحيح قد توفرت له الملحمة، لكنه بالمقارنة بما ورد في النص من الجدية، لا توجد نسبة مقارنة بين الإشارة البسيطة عن مظلمة شعب بكامله، وبين تفاصيل مهمة وخلق ركائز تُعارض سياسة الملك. لقد تعمد الكاتب أن، يُداخل بين ما هو في الملحمة، وبين ما هو في نصه، لخلق نسيج موّحد لا فراغ أو فجوة تتخلله. وقد لخص هذا النمط من التفكير في " منذ تلك الليلة القصية، لم يعد نيمركار كما عهدناه، يجدف بقدسية الآلهة، حانقاً ومتمرداً. لم يكن يتورع عن النيل بسخريته الماجنة تلك، من قدسية الآلهة حين يتهمها بالعجز، طالما هي لم تنقذهم من تسلط الطغاة ". كما وأن اللوّح الثاني ؛ احتوى على تفاصيل خصت سياسة الملك جلجامش وصيغة الدكتاتورية في حكمه، بشكل واسع ليُقاس بما ورد في الملحمة. إن الكاتب ترك لمخياله السردي أن لا يغور في ما هو واقعي متخيّل، وفي هذا استطاع أن يوّسع من دائرة الدلالة، سواء في نص واصف شخصية الملك، أو رؤى فكرية تخص آلهة المعبد وطقوسه، وطبيعة تذمر رعايا أوروك. هذه المرتكزات جعلها السارد في صدارة نصه، وهو صوغ نص مجاور لـنص آخر. وبمثل هذه التفاصيل صيغت شخصية "عشتار" فهي بوصف النص "آلهة عابثة ظلت صامتة، بينما رسمت على شفتيها القرمزيتين ابتسامة ساخرة، وهي تنصت إلى ثرثرة الآلهة، وهم ينسجون فخهم البائس للإيقاع بالإله الفاني والجسد الجميل المفعم بالفحولة، حلمها اللذيذ ومغامرتها المقبلة".

 ثم أنه لم يغفل عن صورة التباين بين إلاهين مهمين في مجلس المعبد" آنليل، آنو"، آنو الذي أوعز لـ" اورورو" لخلق جلجامش، ثم دعوته لها لخلق الند له، فهو إله يقف في صف رعايا أوروك، بينما آنليل لم يتورع عن ابداء موقفه المضاد لكل هذه الصياغات. فالن الجدي تضمن صياغات جديدة لهذا الصراع المركزي، الذي يكشف عن الكثير من النتائج، وأهمها الحكم على أنكيدو بالموت وعلاقة ذلك بقتل " خمبابا"، ولم يخل هذا الموقف من تدخل الإلهة" عشتار" في ذلك، لأن خمبابا هو آخر قلاع سلطة الأنوثة.

في مواقف أنكيدو الكثير من الاجتراحات، بسبب طبيعة شخصيته المعرفية، وأسباب خلق الآلهة له كند لجلجامش. الكاتب وضعه ضمن دائرة التغيير، سواء بتأثير ما ورد في الملحمة من أسباب، أو سمعه من رواة كالرعاة. المهم أنه عُبئ بموقف قوي فكرياً، فهو القائل "لن أغفر أبداً إن لم أنقذ اولئك الناس "او" سأذهب إلى أوروك، وسأصرخ هناك؛ أنا الأقوى، أجل أنا الذي سأبدل المصائر، أنا أنكيدو".

إن مجموع هذه الثيمات، وضعت النص ضمن مصاف النص المصاغ.

من كل هذا التقديم، نجد أن كاتب النص تمكن من وضع صياغة جديدة لملحمة خالدة، عبر قراءة ذكية وموضوعية، استطاع خلالها أن يضعنا أمام نص مجاور فيه الكثير من الاجتهادات الذاتية والموضوعية، بمعنى ابتكار مسار جديد إلى حد ما لنص موروث.

عرض مقالات: