ـ من ؟
اختلط سؤال الشيخ الفضي الذي كان يسير قربي مع اصوات الملايين السائرة كالموج، لم يسمعني ولم اسمعه، لكني كنت ارى شفتيه ترددان كلمات لم استطع سماعها.. وصلنا قريبا من منخفض ارضي صغير، توقفنا قربه، قال بعد أن ساد الهدوء:
ـ هل تستطيع أن تتخيل ما حدث هنا؟
وأشار بكفه "التي رأيت في أحد أصابعها خاتما لم ارَ مثله من قبل" ناحية المنخفض.
ـ إذا كنت تعني معركة "الطف" أعتقد أنها كانت في مكان آخر، يسمى اليوم ـ مخيم الحسين ـ .. وليس هنا.. هذه أرض جرداء لا معلم فيها يشير الى ماتقول..!
لكني رأيت دموعه وقد انسابت بسرعة وبدأت تتساقط على خديه بغزارة وهي تحفر ما يشبه الأخاديد على وجهه المحاط بلحية بيضاء، ثم تتجمع بغزارة قريبا من حدود لحيته.. قبل أن يمسحها بكفه التي فيها الخاتم الذي كان يشع في الظلمة، لم أكن اعرفه من قبل، لكني احسسته قريبا مني كثيرا خاصة وانا كنت أسير بطريق منعزلة بدأت أولى خيوط الليل ترسم عتمتها عليه، حينما فوجئت بوجوده يسير قريبا مني، كان ساهما ، لم يتحدث لكنه اكتفى بالسلام. لم يسبقني ولم اسبقه.. استغربت صمته.. واستغربت أكثر من التعب الذي ازالته حركة توحد خطانا.. كان يضع قدمه بثقة على الارض بقوة مما جعلني احاول أن اقلده.. طريقة سيره ابهرتني ونسيت التعب وقراري الاستراحة في أحد المواكب التي كان يلح علينا القائمون عليها بالدخول الى الخيم التي نصبت على طول الطريق الى كربلاء.
كان يبدو في الستين من عمره بقامة ممتلئة ووجه صبوح محاط بلحية بيضاء وهو يستقبل بوجهه القباب والاضواء التي كانت تبدو لنا من بعيد كنجوم بألوان مشعة، وبقي صامتا حتى وصلنا الى حدود المكان صمت طويلا قبل أن يسألني بغتة:
ـ كم عمرك؟
ـ سابلغ الاربعين قريبا.
قال لهذا انا معك وأنت معي!
ـ لم افهم؟!
قال سأحدثك عما جرى هنا تماما.. ولكن ليس الآن!
استغربت من الأمر وسألته
ـ لماذا ليس الآن ايها الشيخ الطيب ؟
ـ ستفهم بعد أن تعبر حدود هذا المكان ...!
واضاف ...
ـ أيها الاربعيني.. ستبلغ الاربعين بعد حين.. وستشم رائحة الحرب الاربعينية، ستطأ بقدميك المكان الذي مرت به قافلة الحسين، قريبا من هذا المكان، لو ترى ما أراه، لبقيت جالسا هنا.. ولنمت هنا، ولهذا سنفترق الآن يا صاحبي الاربعيني...
كنت اهم بأن أسأله ماذا يرى؟.. لكني وجدت نفسي وحيدا وسط الشارع وحولي طوفان من الملايين وهي تهتف بهدير يضج ويزلزل الارض.
ــ يا حسين.. يا حسين
تلفت في كل مكان! لم أجد له أثراً... وبقيت اجاباته واحاديثه عما يجري وما جرى في المكان الذي وصلنا اليه وهو قريب من مدخل كربلاء.. وعن ما يمكن أن يشرحه لي فيما بعد! ومن يكون؟ ولِمَ لمْ يخبرني قبل أن يختفي؟ ثم أين اختفى؟ وهل كنت أحلم؟ هل هي ضغوط التعب في المسير المتواصل من بغداد الى كربلاء ؟ لفتني الحيرة، ولم ينقذني من هواجسي وارتعاش جسدي وخوفي, سوى الهدير المتواصل للملايين وكلها تصرخ...
ــ "يحســـــــــــــــين".

عرض مقالات: