بعد ان انحسرت سلطة الرجل المريض، ووصلت طلائع القوات البريطانية الى البصرة، تحركت القيادات الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية والكوفة، وحصلت لقاءات ميدانية لمواجهة المحتل.
وهكذا وفي العقد الثاني من القرن العشرين "خطت الحركة الوطنية خطوات محسوسة نحو توحدها وبلورة أهدافها وتوجهها نحو التنظيم". (1)
ويتحدث عزيز سباهي في الجزء الأول من كتابه "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" عن المنظمات السرية التي نشطت في تلك الفترة، والتي تمثل باكورة النشاط السياسي المنظم في العراق. حيث يؤكد انه "تكونت منظمات سرية نشيطة وأقامت لها فروعا في المدن الرئيسة منها: -حرس الاستقلال – وكان من أعضائها محمود رامز وعلي البازركان وعارف حكمت وآخرون، وانضم اليها يوسف السويدي ومحمد جعفر ابو التمن ومحمد ال صدر(2)
ويضيف سباهي "وكان في رأس ما حققه الوطنيون آنذاك لتسهيل نضالاتهم وجذب الجماهير الشعبية اليها هو نجاحهم في تجاوز الحساسيات المذهبية والطائفية " (3)
ويذكر الدكتور كمال مظهر احمد في كتابه – ثورة العشرين في الاستشراق السوفيتي – نقلا عن المستشرق السوفيتي ف، أ ، كركو – كرياجين في كتابه "حركة التحرر الوطني في المشرق العربي، بلاد ما بين النهرين" قوله "ان عراقيين من بغداد والبصرة اشتركوا في مؤتمر ارضروم الذي عقده الوطنيون الأتراك ايام نضالهم بقيادة مصطفى كمال" .
وقد ثبت في الكثير من المصادر ان أبناء المراجع الدينية الكبار، كانت لهم علاقات وثيقة مع البلاشفة، وكان كراس "البلشفية والإسلام" من ضمن تلك المصادر التي تحدثت عن الدور البارز الذي لعبه أولئك الأبناء في علاقاتهم غير المباشرة مع البلاشفة.
يقول حنا بطاطو في الجزء الثاني من كتابه المعروف "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية":
"وردت الإشارة الأولى الى البلشفية في -ملخص الاستخبارات – الذي كانت تحتفظ به الشرطة السياسية البريطانية في العراق في مدخل مؤرخ في 17 كانون الثاني 1920. وكانت هذه الإشارة عبارة عن ملاحظة قصيرة كتبها الضابط المختص حول – تزايد الحديث البلشفي في بغداد –" (4)
كما ان بغداد كانت قد شهدت – حالها حال الكثير من عواصم الدول الإسلامية الواقعة تحت نير الاستعمار البريطاني – وصول كراس يحمل عنوان "البلشفية والإسلام" تم تداوله في بغداد، وكان المنشور البلشفي يمثل – واحدا من أبكر محاولات خلق شيء من التعاطف مع الثورة البلشفية في صفوف الشعوب الإسلامية – " (5)
وكان للأحداث السياسية المهمة جدا والتطور الكبير في تركيا، حيث انه "في العام 1908م شقت حكومة دستورية طريقها الى الحياة في تركيا ملتهبة كمشعل في مقبرة" (6)
ذلك الحدث الخطير أرعب الدول الاستعمارية، حيث "فجرت حكومات بريطانيا وفرنسا وروسيا الاستبدادية الحرب العالمية في العام 1914م "(7)
ان تداعيات تلك الحرب الامبريالية، وما خلفته من تشرذم وتقاسم نفوذ واحتلال وانتداب أجنبي، كانت عوامل موضوعية حركت الشعوب العربية وخاصة في مصر وسوريا والعراق، للمطالبة بالاستقلال عن النفوذ البريطاني والفرنسي.
ولهذا فان ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا من جهة، وللأفكار التي طرحتها تلك الثورة والتي كانت تخاطب المسلمين في الشرق المضطهد والمستعمر والمحتل، كان لها فعل كبير وتأثير خطير، كما كان لحكومة الاتحاد والترقي في تركيا من جهة أخرى فعل واضح وتأثير ظاهر في الثورات التي شهدتها منطقة البحر المتوسط خاصة، وكان النداء الذي وجهته حكومة البلاشفة في روسيا الى شعوب الشرق المسلمة يؤكد انه قد "بزغ فجر الحرية الإنسانية في الأفق الروسي مع لينين كشمس مشرقة تعطي ضوءها وبهاءها ليوم السعادة الإنسانية هذا"(8)
وجاء في النداء الثوري الذي وجهته قيادة البلاشفة في روسيا الى شعوب الشرق المسلمة بشكل خاص، "أيها المسلمون، أنصتوا الى هذه الصرخة، استجيبوا لنداء الحرية والمساواة والإخاء هذا الذي يوجهه لكم الأخ لينين والحكومة السوفيتية" (9)
إضافة الى ان بروز "جمعية تخليص الشرق الإسلامي" التي تم تشكيل هيكلها التنظيمي في تركيا عام 1919م وكانت تحظى برعاية خاصة من كمال اتاتورك وبالدعم من قبل البلاشفة.
وقد "كان التوافق بين البلشفية والإسلام أحد الموضوعات الأساسية التي دافعت الجمعية عنها"(10)
وفي العام 1920 كانت الجمعية تنشط تحت مسمى "الجمعية العراقية العربية" واستمر تأثيرها في الأوساط الاجتماعية المتقدمة في بغداد والنجف وكربلاء والموصل وتكريت والسماوة.
ويؤكد بطاطو ان تلك الجمعية "كانت لها حصتها في تكوين شعور عام مناهض للمحتلين الانكليز وصل ذروته في الانتفاضة العراقية خلال الفترة حزيران – يونيو – تشرين أول –أكتوبر-1920، وبقيت الجمعية ناشطة حتى العام 1922م" بعد ان اتخذت لها اسما يتوافق مع بيئة عملها ونشاطها في العراق "الجمعية العراقية العربية" .
وقد "كانت سياسة الانكليز إزاء الحركة الوطنية في العراق، سياسة قسوة وتشريد، وفتك وتدمير، دون رحمة ولا شفقة" (11)
وعلى هذا الأساس فقد كان للمراجع الدينية في كربلاء والنجف والكاظمية والكوفة، وأبناء العشائر في منطقة الفرات، مواقف سجلتها كتب التاريخ بمداد من الفخر والاعتداد بالوطنية والروح الفراتية الحماسية. وبهذا الصدد يقول أمين سعيد في كتابه (الثورة العربية الكبرى):
"للفرات مقام خاص في العراق، نشأ عن وضعه الجغرافي والقومي والديني، وتشمل كلمة الفرات المنطقة الممتدة من حدود دير الزور حتى خليج البصرة"(12)
وقد كان لأبناء العلماء الشيعة المجتهدين، دور نشيط وبارز في العمل السياسي، حيث كان "السيد محمد الصدر ابن المجتهد الأكبر السيد حسن الصدر، والشيخ محمد الخالصي ابن المجتهد الأكبر الشيخ مهدي الخالصي، من أكثر علماء العشرينات السياسيين، وكان من شديدي النشاط أيضا مرزا محمد رضا، ابن مرزا محمد تقي الشيرازي، اكبر مجتهدي عصره" (13)
واللافت ان الأبناء كانوا أكثر حرصا من الآباء في الحركة والنشاط والتواصل مع "ممثلي السلطة البلشفية من العراقيين، ويبدو هذا الأمر مؤكدا بوضوح على الأقل في حالة ميرزا محمد رضا "(14).
كما ان ميرزا محمد رضا كان قد "عبر عن اهتمامه بالأفكار البلشفية منذ وقت مبكر يعود الى آذار 1920م ، وناقش وقتها علنا، وفي النجف محتويات كتاب عربي عنوانه – مبادئ البلشفية – يتركز موضوعه على التوافق بين البلشفية والإسلام، حيث أصبح "رئيسا للحركة العراقية للتحرر من البريطانيين، وعاملا من اجل القضية البلشفية في كربلاء" (15).
وإضافة الى الاهتمام الذي كانت توليه الحركة العراقية للتحرر من البريطانيين، للبلشفية وأفكارها في المساواة والعدل الاجتماعي، فقد كانت هناك مراسلات مع الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، كانت في حقيقتها تؤكد على " إيجاد شيء من التنسيق بين جهود الكماليين وجهود حركة الاستقلال العراقية" (16).
ولذلك فعندما اندلعت الثورة في 30 حزيران 1920، أقدمت السلطات البريطانية على نفي ميرزا محمد الى إيران. ثم أقدمت على نفي الشيخ محمد الخالصي والسيد محمد الصدر الى إيران حيث انضم الاثنان إلى ميرزا محمد في المنفى. وفي طهران تشكلت
جمعية بين النهرين او جمعية بلاد ما بين النهرين وكان الهدف الرئيسي لها هو تحرير العراق من الاحتلال البريطاني.
في حين يذكر الشيخ الخالصي الابن، في العام 1958م وفي مقابلة صحفية، ان الجمعية التي تشكلت في طهران هي "التنظيم الأعلى لممثلي العراق في طهران"، كان ذلك في العام 1922م، وكان للجمعية صحيفة ناطقة باسمها "لواء بين النهرين" (17).
وعندما تهيأت مستلزمات الثورة، وبان الاستعداد في القبائل العراقية، ونشطت الحركة التي تدعو للتخلص من براثن الاستعمار والاحتلال، فقد عقد "اجتماع تمهيدي في دار السيد نور الياسري حضره لفيف من رؤساء المشخاب والشامية والرميثة وغيرها".
وكان ذلك أثناء زيارة النصف من شعبان في العام 1338هجري الموافق 1920.
وقد ترأس هذا الاجتماع الكبير للسادة والمشايخ والوجهاء، الشيخ محمد رضا، نجل الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي.
ثم عقد اجتماع آخر على جانب كبير من السرية في دار الإمام الشيخ محمد تقي الحائري، والذي كان يوصف بأنه زعيم روحي كبير، صادق العزيمة، نافذ الكلمة، واسع النفوذ.
وكان الاجتماع برئاسة الشيخ الحائري نفسه وحضرته السادات والمشايخ "العلامة الشيخ عبد الكريم الجزائري، والزعيم البغدادي الحاج محمد جعفر ابو التمن، السيد نور السيد عزيز، السيد علوان السيد عباس، السيد هادي آل زوين، والشيخ شعلان ابو الجون، والشيخ غثيث الحرجان من قبيلة الظوالم في الرميثة، والشيخ عبد الواحد آل سكر رئيس قبيلة آل فتلة، والشيخ شعلان الجبر" (19).
وبعد ان اشتد النقاش والمداولات حول الثورة ضد المحتل، كان الحائري مترددا بعض الشيء حيث قال "ان الحمل لثقيل، وأخشى ان لا تكون للعشائر قابلية المحاربة، مع الجيوش المحتلة" (20).
لكن الحاضرين جميعا وخاصة زعماء القوم، أكدوا قدرتهم على هذا العمل الخطير وان الثورة لابد منها، رغم أنهم لا يرغبون بالحرب وويلاتها، لكن الأوطان تحتاج الى تضحيات.
وبعد نقاش مرير، خرج المجتمعون وهم مصممون على إعلان الثورة في القريب العاجل.
وعقد اجتماع لاحق في الحضرة الحسينية في 16 شعبان 1338هجري، حيث تعهد الزعماء والمشايخ ومن وقف معهم، على "أنهم لا يدخرون وسعا في تحقيق آمال البلاد الوطنية، وأنهم سيلفظون آخر نفس في سبيل إنقاذ بلادهم من الحكم الأجنبي" (21).
ومن الجدير بالذكر ان هناك إشارات وتلميحات من مصادر مختلفة تؤكد على حق تقرير المصير، وهو ما شجع رجال العراق على التمسك بالاستقلال التام.
ويذكر عزيز سباهي في الجزء الأول من كتابه "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي":
"ان توالي البيانات والتصريحات التي تتحدث عن الرغبة في منح شعوب المنطقة حقها في تقرير مصائرها بحرية – بيان الجنرال مود عند احتلال بغداد، والبيان الانكلو –فرنسي الصادر في تشرين أول 1918، وإعلان الرئيس الأمريكي ولسن، مبادئه الأربعة عشر، وإعلان البلاشفة حق تقرير المصير غير المشروط لشعوب القوقاز القريبة من الحدود العراقية، شجعت الدوائر الوطنية للحديث عن الاستقلال والوعي بضرورته وضرورة العمل من اجله" (22).
ان تلك الأفكار والبيانات، التي جاءت من مصادر متباينة في توجهاتها ونواياها، إضافة لما أفرزته حكومة تركيا بقيادة كمال أتاتورك، من مبادئ ومناهج جديدة، في صيف العام 1919م، مع ما قدمته الثورة البلشفية في روسيا، من تعهدات لشعوب الشرق المسلم، من انها تسعى لدفع الشعوب لتقرير مصيرها بنفسها وحصولها على استقلالها بعيدا عن السيطرة الاستعمارية.
ان هذه كلها كانت وسائل إضافية دفعت المتصدين للثورة من رجال العراق، خاصة في المدن المقدسة المعروفة ومنطقة الفرات، دفعتهم للاستعداد واخذ المبادرة والعمل المبكر للوقوف بوجه الاحتلال البريطاني، مهما كلف ذلك من تضحيات، كما ذكر ذلك السادة والمشايخ عند اجتماعهم مع الشيخ الحائري..
وكان الزعماء قد أكدوا "ان فيهم الكفاية التامة لهذا العمل الخطير، وان الثورة امر لابد منه وإن كانوا هم لا يريدون الحرب ولا يرغبون فيها" (24).
ثم فرض الانتداب البريطاني على العراق بموجب قرار-سان ريمو – في 3آيار 1920، مما أجج الحركة الوطنية النامية والداعية للثورة وأعطاها زخما اكبر.
فكانت انطلاقة الثورة في 30 من حزيران 1920، حيث انطلقت شرارتها في مدينة الرميثة ثم شملت منطقة الفرات باكملها / من الناصرية صعودا الى منطقة خان ضاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3،2،1/ عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج1/ عزيز سباهي.
4، 5 ، 9،8،7،6 عن كتاب حنا بطاطو / تاريخ الشيوعيين والحزب الشيوعي في العراق / ترجمة عفيف الرزاز .
10، 11 عن كتاب "الثورة العراقية الكبرى" عبد الرزاق الحسني.
14،13،12/ عن كتاب حنا بطاطو الجزء الثاني
15، 16، 17، 18 ،19 / عن كتاب "الثورة العراقية الكبرى" عبد الرزاق الحسني.
20 / عزيز سباهي: عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي / الجزء الاول.
21، 22، 23 / عبد الرزاق الحسني: الثورة العراقية الكبرى.