في البداية اقول: ان عظمة الحزب الشيوعي العراقي تعود، بالأساس، الى كونه مخترع نظام التحالفات السياسية في بلادنا على وفق تجارب، نقدية، نظرية، منيرة ومستنيرة، في ضوء منبع الحكمة، التي قالها مؤسسه (يوسف سلمان يوسف) بملخصِ كلماتٍ سبعٍ، مفاد سياقها، اللساني والفعلي: (قووا تنظيم حزبكم .. قووا تنظيم الحركة الوطنية).

تخصّص هذا القول كقضية أساسية، يومية، في حوار السرد التحالفي، الدائم، في مداخل حوارات قيادة الحزب و قواعده، بجميع خواص السرديات الموصوفة في  تمييز التحالفات السياسية – الوطنية،  التي سيطرت على متواليات النضال الوطني،  على نحو مضطرد،  منذ تأسيس الحزب الشيوعي العراقي  بضوابط مخصوصة بالعمل الوطني الجامع .

لكن ما هو مُجرّب في (نظام التحالفات) الحزبية و السياسية والانتخابية البرلمانية، منذ أربعينيات القرن العشرين، حتى اللحظة الراهنة، هو اختفاء مثل هذه الرؤية الاخلاقية، الفريدة، لدى احزاب وقوى سياسية اخرى، إذ لا يوجد مثل هذا النبع التحالفي الحكيم،  لدى أي حزب عراقي آخر . لا يوجد اي حزب في بلادنا يريد او يؤمن بضرورة ازدهار و نمو دور الحزب الشيوعي في الحركة الوطنية العراقية المجيدة . لا يرغب اي حزب وطني آخر ان يعم الخير الاخلاقي و السياسي و الإعلامي و الثقافي ، فيما يتعلق بالقوافل القيادية المؤهلة داخل صفوف الحزب الشيوعي  للنهوض بالوحدة الوطنية - المدنية ، التي  كانت و ما زالت المثل الاعلى  في النضال الشيوعي ، المضني، من اجل تحقيق جماعية عمل و فعالية  تعددية الأحزاب و التجمعات والشخصيات  ، الهادفة ، الى وحدة وطنية متجمعة بمواقف سياسية وطنية من اجل قضايا الحرية و الديمقراطية في بلادنا و مجتمعنا.

استثناءً، هنا ، أنني  لا انكر ، طبعاً،  وجود شخصيات او اشخاص وطنيين في أحزاب أخرى،  كانوا و ما زالوا،  يرون ان وجود الحزب الشيوعي شرط ضروري و كاف لأي تحالف وطني.

ملاحظات أولية

الملاحظ - مع الأسف - ان الصفة الأنانية ، النفعية،  الانعزالية،  هي الصفة المبتذلة الغالبة ، لدى الكثير من القوى السياسية القائمة على تكتيك إضعاف، وليس على  تقوية  نفوذ الحزب الشيوعي العراقي ، على مدى ٨٥ عاما من ولادته في المجتمع العراقي ، موزوناً بالتضحيات الجسام على أعواد المشانق و في ساحات السجون  و في تطبيق نظريات الاغتيال السياسي في الشارع  العراقي و في سراديب التعذيب الوحشي في (قصر النهاية) و (الأمن العام) و غيرهما من الأمكنة بمختلف الأزمنة   .

اليوم، ايضاً،  لا يمكن نسيان احدى الحقائق المتصلة بالتحالف السياسي - الوطني بين الحزب الشيوعي و القوى السياسية الوطنية الأخرى . الفهم المألوف في قيادات الحزب الشيوعي العراقي عن التحالف الوطني هو اعتباره، اولا و قبل كل شيء، ميثاقاً   وطنياً - اجتماعياً ، يقوم على الصدق و الفضيلة و على شرف العهد و الكلمة . التزم الحزب الشيوعي بهذه المبادئ من اجل ان يكون (التحالف) حراً في حقيقته و جوهره في جميع الظروف، الصعبة، المعقدة و المنفتحة، التي مرت بها بلادنا في مختلف مراحل العهد الملكي و الجمهوري ، منذ بداية التأسيس في ٣١ آذار عام ١٩٣٤ حتى اليوم .

مثلاً،  لم ينس الحزب الشيوعي وصية قائده ( فهد)  بتقوية حزب آخر إذ لم يتردد ، مثلا، في تزويد حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي  بآلة طباعة  جديدة لطبع جريدته عام ١٩٥٦ حين كان ذاك  الحزب ( فقيراً) يوم كانت دعواته ، كلها، مشحونة بعبارات  الوطنية و الاشتراكية . كما أضفى الحزب الشيوعي طابعاً تعاونياً آخر على هذه الواقعة حين قام بتدريب مجموعة من البعثيين على أمور الفن الطباعي السري وبالتفاصيل  الضرورية. غير ان البعثيين انفصلوا في شباط عام ١٩٦٣ انفصالاً، تاماً، عن الأخلاق التقليدية حين ردّوا جميل الحزب الشيوعي بقتل وإعدام سلام عادل و رفاقه وهو نفسه كان قد أمر بالهدية الطباعية و التدريب الطباعي . تمّ إعدامه، بطريقة وحشية مريعة، وإعدام  عشرات من قادة الحزب الشيوعي و آلاف من أعضائه. برهن قادة حزب البعث بما فعلوه من جرائم بحق الشيوعية و الشيوعيين، على ميزتهم الشرّانية و نظامهم الهمجي ، العدواني،  على الانسانية .

الأخلاقية التحالفية

لقد خُلق الحزب الشيوعي العراقي بالطبعة الأخلاقية الانسانية السامية. كما لا يمكن إنكار وقوع الحزب بحالات تاريخية في عديد من الأخطاء السياسية ربما اساءت الى افلاطونيته الشيوعية و الإنسانية   وقد اكتشفها بنفسه اعتماداً على كفاءته الذاتية و على  فضيلته في الإصغاء لأصوات الوطنيين الآخرين و انتقاداتهم  .

في هذا الزمان ذاتِه ، نجد تجارب المتحالفين مع الشيوعيين أنهم لا ينهجون نهجاً متساوياً مع النهج الشيوعي، انما يريدون من أصول التحالف ان تتوجه نحو إضعاف فعّاليات الحزب الشيوعي ، بمعنى انهم يتحالفون معه من اجل فرض سياسة و مواقف  تقوم على مواثيق تكتيكية اساسها فرض ( ميثاق خضوع ) الحزب الشيوعي و تبعيته الى مصالحهم و أوامرهم وسياساتهم ، خاصة اذا كان هذا التحالف او ذاك يتم مع حزب حاكم او متسلط . كما الحال في تحالف جبهة عام ١٩٧٣

الوضع الجديد

هناك شعوب تصبر على الضيم و الظلم وهناك شعوب لا تصبر، تثور ولا تستسلم . لا احد يدري متى يتحرك الشعب العراقي بمستوى تحركه في ثوراته السابقة في عام١٩٢٠ و عام ١٩٥٨ . لكن كل شيء في العراق الحالي يشير الى حقيقة واحدة هي ان  الحركة الثورية الشعبية تزداد و تتسع ، تدريجياً،  في أنحاء العراق ، كافة،  بسبب سواء الأوضاع الحكومية ، كافة .  من الواضح ان هذا السوء ناتج من نواتج سوء إدارة الدولة حيث سيطرة الفاسدين و الفاسقين على جزء كبير منها، مما يعني اول ما يعني،  ان حكام العراق الحاليين لن يستمر بقاؤهم على عرش السلطة زماناً أطول ، إذ سيأتي يوم ينفد فيه صبر الشعب العراقي و سيكف عن كلامه في نصح الحاكمين . لن يعزّ على الشعب، آنذاك، اي اُسلوب من الكلام و الأفعال ، بما في ذلك كلام الثورة  و افعالها ، حين يطول سقم الناس الفقراء و حين تصم أذان السلطان الحاكم، مهما كان تفكيره و مهما كانت عقيدته و مهما كانت ديانته و مذهبه ، بل حتى لو كان المنشغلين بالدِّين و المذهب او من فئة المنشغلين بنهب المال العام و التزيّن بالقصور  الفخمة او بالفروسية المزيفة بعد ان  تغيب عنه صفات الثقة و المؤتمن والإيمان .

علامات ثورية مختلفة

خلال المائة عاماً الماضية برهن الشعب العراقي أنه من نوعٍ تزيده سياط الجلادين صبراً مهما كان السلطان قوياً او قاسياً. فقد اصبحت علامات ثورة شعبية  و غضب شعبي عارم تلوح ، حالياً،  في الآفاق بعد  انتشار المفاسد  المالية و الإدارية في اعلى هيكل الدولة و في أدناه ،حيث صار كل إنسان عراقي ، حاكماً او محكوماً، يحسّ ناراً ثورية خفية بغضبٍ معلن ، يومياً،  يمكن ان تلتهب في اي لحظة .  هذه النار الخفية لن تخدم العقلانية في العملية   السياسية و لن تخدم الأهداف الشعبية إلاّ بعقلٍ قياديٍ سليم،  لا يضم ولا يعتمد على الجهلة و عميان السياسة،  بل ينبغي ان تكون قاعدته و جميع قياساته تحت قيادة ثورية ، علمية و حكيمة.

 الوضع السياسي في العراق الحالي، ليس مكوناً من نسبٍ حزبي - سياسي واحد،  إذ  وُجدت و توجد و ستوجد كثرة من الأحزاب الوطنية و المجاميع الشعبية التنظيمية و قوى مدنية،  تتحرك و تتغير مواقفها بسبب انعدام القيادة التحالفية ومن دون انضباط قواها المتحركة، مما يدفعها باتجاهات متعارضة  تفسح المجال وسيعاً امام المنافقين السياسيين .

النفاق  و الاختلال و اليأس

بعض خطط ومخططات  المنافقين السياسيين لا تخلو من محاولة جر البلد الى حالة اليأس الكبير بوسيلة تكبير الطاعة الى الألوهية البشرية باللهجة الألوهية السماوية. هذا البعض و من يقف خلفهم من اعداء الشعب العراقي خصوصاً، يحاولون عن طريق تحالفهم، العلني و السري، مع اسيادهم ومع وكلائهم في الداخل السياسي العراقي تحقيق اختلال، كبير و دائم، في العملية السياسية و في النظام السياسي ، كله ، بهدف انتصار الشر على الخير و انتصار الاشرار على الاخيار . هذا الواقع المنظور يجعل مهمات الوطنيين الحقيقيين و الديمقراطيين الحقيقيين و جميع دعاة الدولة المدنية في إطارٍ تنفيذيٍ عسيرٍ جداً ، خصوصاً اذا ما عرفنا ان الحاجة الماسة الاولى هي ضرورة و أهمية وجود تحالف وطني - شعبي - ديمقراطي ، كما الحاجة الى التخلص من عقبات الشيخوخة السياسية المبنية على النموذج السماوي - الميتافيزيقي بالتحول الكامل الى النموذج  الدستوري الأرضي - الواقعي ، حيث بإمكان القوانين التقدمية، وحدها، أن تغدو  قادرة في القضاء على فساد المفسدين و على استبداديي الطبقة السياسية الحاكمة ، حين  تحل  روح المواطنة و المساواة و سيادة القانون تحت سلطة نظام ديمقراطي - شعبي يؤمن بـالسلطة الفكرو- قراطية .

القوة التحالفية الأساسية

في مقدمة الوطنيين و الديمقراطيين و المدنيين ،الساعين الى بناء دولة مدنية تؤمّن لجميع المواطنين العراقيين مطامحهم في الحرية السياسية و الحرية التعبدية و في التشريع العقلاني للعدالة الاجتماعية و السلم الاجتماعي ، يقف الشيوعيون العراقيون عندما وضعوا و يضعون  وظيفتهم النضالية اليومية في هذا الطريق وحين اعتمدوا  و يعتمدون ، دائما، على الفضيلة السياسية في علاقاتهم مع القوى الوطنية الأخرى في سعيهم التحالفي  بين القوى الوطنية جمعاء.

المفترض في الرجل السياسي أن يكون وافر العلم والمعرفة، وافر المواهب والمبادرات، خصب الخيال. ليس فقط شديد الحساسية إزاء النظام الاجتماعي و ممارساته المتطورة و المتحررة من الظواهر التقييدية و من ضروب التقييدات المصاغة باسم الله و الدين، كما هو الحال المرئي في بلادنا، بما تتضمنه من ضوابط قمعية – إرهابية ذات طبيعة استقرائية دينية – عشائرية  وهي استقراءات سلفية في غالب الأحوال. 

طريق الاستقراء الديني – السلفي – العشائري في كثير من انحاء البيئة العراقية ، بما فيها البيئة السياسية ،  يضع امام جميع الوطنيين المجربين بالساحة العراقية  مهمات خاصة ،  صريحة  وضمنية،  في الخطاب التحالفي الجديد . لذا  فأن الشيوعية وأنصارها الديمقراطيين و المدنيين   صاغت ،  بُعيد عام 2003 َ، وما زالت  تصوغ التنبيهات إلى  عوائق و نتائج تعيق تطور العملية السياسية و  تطور الدولة و مؤسساتها ، مثلما تضع قضايا التحالف السياسي – الوطني بمستوى الادراك العلمي و العملي.  كما أشرت و ما زالت تؤشر بخطوط حمراء تحت سقفٍ ضاغطٍ من التأويل المتحقق من خطاب ديني – عشائري والمحقق لجميع العناصر ، التي تعيق وحدة البلد و وحدة الشعب و وحدة قواهما الوطنية و الديمقراطية و المدنية بسبب انتشار البنية الشمولية الكبرى في الدولة و المجتمع، الموروثة عن النظام السابق.

ضرورة التحالف

صحيح جداً القول الواجب : أن من اهم واجبات الانسان السياسي ، الذكي و الأمين،  هو ان لا يكون مهملاً لقضية التحالف الوطني او نسيان تجاربها العراقية بمختلف المراحل التاريخية. لا بد من الإشارة ، هنا ،  الى ان الحزب الشيوعي العراقي هو الأكثر و الاغزر و الاغنى في تجارب التحالف الوطني،  مثلما هو الاقدر على استحضار تنظيم و قيادة الانتفاضات الشعبية في العراق كافة في أعوام 1948 – 1949 و في انتفاضتي تشرين في عامي 1952 و 1956 و في انتفاضات عمال كركوك عام 1946 و عمال الميناء 1952 و عمال شركة نفط البصرة عام 1953 وفي انتفاضة أهالي قضاء الحي عام 1956 .. كما ان اغلب الانتفاضات الطلابية في عموم العراق كانت قياداتها شيوعية او انها ذات اتصال تشاركي – حواري مع قوى سياسية او حزبية أخرى .

هذا الواقع العمومي يجعل الحزب الشيوعي مدعواً الى (الحكمة القصوى) و (التعمق الأقصى) عند دراسة ما يحضره ، الآن ، داخل واقعية التحالف الوطني،  المطلوب في المرحلة الحالية،  المتميزة بوجود لغة تخاطب ليست طبيعية و ليست صريحة من القوى المرشحة للتحالف معها،  اعني تلك القوى الخاضعة لضروب التأويل الديني – العشائري بالرغم من ان منطوق عملها ومفاهيمها و قدراتها مبنية على المصالح الطبقية الرأسمالية – الاستغلالية الجديدة  مما جعلها لا تصرح بخشيتها من نمو الاتساق الشيوعي – الجماهيري . إن شئنا  الدقة،  فان هذه الطبقة الجديدة في المجتمع العراقي لا يربطها أي دال و دلالة مع الشيوعية و مع العدالة الاجتماعية.

انشقاقات متتالية

في الواقع الظرفي المجتمعي السياسي ، الحالي ، لا يكون التحالف حقيقياً إلاّ اذا كانت أهدافه الطبقية و السياسية مدروسة بعمق من قبل قيادة و قواعد الحزب الشيوعي،  حيث التحالف – أي تحالف – لا يمكن ان يبتعد او يتخلص من ظروف تنامي بذور انشقاقات متتالية في الأرض السياسية العراقية.  مثلاً :  تحالف بسيط بين الحزب الشيوعي و تكتل القائمة العراقية في انتخابات عام 2010 حيث كانت القائمة المذكورة لا تضم ابيضاضاً كاملاً تجاه الشيوعية،  كما الشيء الحادث نفسه في تحالف مدني ضم بعض القوى الداعية الى دولة مدنية في انتخابات عام 2014 ، لكنها لا ترضى فِعلَ إنجازٍ مدنيٍ يكون صانعه  الحزب الشيوعي.  لذلك سرعان ما حدث المتوقع بتمرد نائبين فائزين  ، محاولين ، انهاء هذا التحالف الانتخابي  رغم قيامهما بدور وطني صارخ تحت قبة البرلمان .

ينبغي على  الحزب الشيوعي عدم نسيان او تناسي   او اغفال   حقيقة ان كل سيجارة صائرة الى رماد ، حيث تواجه جميع القوى السياسية العراقية انقسامات متكررة ، مثالها الأقوى حزب الاتحاد الوطني في كردستان العراق وانقسام تنظيم المجلس الأعلى العراقي و انقسامات عديدة داخل الكتل القومية – الإسلامية في رباعية الموصل – تكريت – الانبار – ديالى إضافة الى انقسامات بغدادية بسبب ما يحيط بها ، جميعاً،  من روح النفاق السياسي و الصراع الطبقي و التنافس الرأسمالي – البرجوازي المستتر وراء خطابات من تراكيب و جمل و عبارات مصاغة بلهجات  دينية او قومية او عشائرية.   كما ان بعضها او اغلبها تتضمن بنيوية ميليشياوية او مستندة الى كائنات مسلحة في اسم يصح عليه القول : ( العصابات المسلحة  خارج نطاق الدولة)   . 

ــــــــــــــــــــــــــ

بصـــرة لاهــاي فــي 5 – 7 – 2019

عرض مقالات: