جدل التنوير الفكري

تمس الحاجة في ظروف بلادنا الراهنة، المعقدة، والمنفتحة على خيارات عدة، الى تعزيز الاهتمام من جانب صحيفة حزبنا "طريق الشعب" بقضايا الفكر والحوار في الموضوعات التي ترتبط بأوضاع بلادنا ووجهة التطور الاجتماعي فيها.
وتأخذ صفحة (وجهات في النظر) على عاتقها بعضاً من هذه المهمة والمسؤولية، اذ فيها يجري تبادل الآراء وتفاعلها، ويتواصل النقاش بشأن القضايا العقدية في الوضع الراهن وآفاق تطوره.
ونظراً لأهمية مثل هذا الدور تسعى (وجهات في النظر) الى طرح طائفة من المحاور التي تتسم براهنيتها، وبينها: التحالفات، بناء الدولة، الاصلاح والتغيير، سياسة السوق المفتوحة، الفساد ...
وابتداء من العدد الحالي تطرح الصفحة موضوع التحالفات، آملة أن يساهم المختصون والمعنيون في النقاش وتبادل الرأي.
واذ تؤكد الصفحة، مجدداً، التزامها بمبدأ التعددية والاختلاف في الرأي في إطار القواعد الأخلاقية لمهنة الصحافة والكتابة، وأصول البحث العلمي، والتوجه التنويري التقدمي، فانها تتمسك، في الوقت ذاته، بحق هيئة التحرير في الرد، حيثما كان هذا ضرورياً، على المقالات المنشورة أو أفكار واردة فيها.
ومن نافل القول إن الجدل سيكون السمة الأساسية لهذه الصفحة التي تنتظر أن يمدها الكتاب باسهاماتهم، آملة ان تكون في حدود (1000) كلمة مطبوعة عبر البريد الألكتروني للصحيفة.
سنسعى، بالتعاون مع كتابنا وباحثينا وسائر المساهمين في (وجهات في النظر)، الى أن تكون هذه الصفحة محوراً من محاور الجدل الفكري، الساعي الى اضاءة الموضوعات الملحة والقضايا الراهنة..

**************************

 أجرت "طريق الشعب" حوارات ضافية مع الرفيق حميد مجيد موسى السكرتير السابق للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، حول قضية تحالفات الحزب ننشر في أدناه الجزء الأول من خلاصة ما طرحه الرفيق أبو داود في شأن الموضوع.
الأساس النظري لتحالفات

حينما يجري الحديث عن تحالفات الحزب الشيوعي العراقي، يتو جب أن توضع في الاعتبار الفترة الزمنية التي قامت فيها تلك التحالفات، والظروف الموضوعية وحتى الذاتية التي احاطت بقيامها.
فالتحالفات حاجة تفرضها الضرورة الموضوعية والسياسية، عندما يصعب على حزب ما تنفيذ الأهداف والاستراتيجيات التي يتبناها، بمعزل عن بقية القوى السياسية.
على هذا الأساس المنطقي، ولأننا نسترشد بالمنهج الماركسي، نرى عدم إمكان التفكير في تشكيل اي تحالف، من دون دراسة مسبقة لطبيعة المجتمع وتركيبته الطبقية والقوى المؤثرة فيه، ولمستوى التطور الاقتصادي -الاجتماعي في هذا المجتمع.
وبعد مثل هذه الدراسة ذات الطابع النظري العام، تتوجب دراسة الواقع السياسي، وبضمنه الأحزاب السياسية التي لا تتطابق تشكيلاتها بالضرورة مع التركيبة الطبقية. فأحياناً تسود شريحة معينة في بعض الأحزاب، بينما تنتسب اليها فئات أخرى من نفس الطبقة الاجتماعية أو حتى من طبقات أخرى، وهذا التنوع في التركيب لا يغير من حقيقة تمثيل الحزب المعين لتوجهات فكرية ومصالح طبقية محددة.
وان من واجب الحزب الشيوعي وهو يتوجه لعقد التحالفات، ان يعرف من هي الجهات التي يمكن التحالف معها، وعلى ماذا يتحالف، ولأي هدف يتحالف، ولأي مدى يتحالف.
لهذا نلاحظ في تجربة الحزب الشيوعي العراقي التاريخية، تنوعا غزيرا في التحالفات مع القوى العراقية الأخرى، ما بين تحالفات استراتيجية بعيدة المدى، وأخرى تهدف الى تحقيق هدف واحد في لحظة سياسية محددة.
وكلما عادت قيادة الحزب عند اتخاذ قرار عقد التحالف إلى قاعدة التنظيم الحزبي، ولم تنفرد في اتخاذه، كلما تضاءل احتمال وقوعها في الخطأ. وهذا ينسجم تماما مع البناء الديمقراطي للحزب الشيوعي العراقي. فالتشاور الواسع يوفر ميزة الاستماع إلى تنويعة من الاجتهادات والتصورات والمخاوف والشكوك والحساسيات، التي تستطيع بفضلها في آخر الأمر أن تبني الموقف النهائي السليم.
ونحن في كل تحالفاتنا، وحيثما كانت تسمح ظروف العمل السري، كنا غالبا ما نطرح القضية على الكادر الحزبي. وبهذا كان الكادر الحزبي يستشار في أمر عقد هذا التحالف او تلك الجبهة، وقد تعمقت هذه الممارسة بعد المؤتمر الوطني الخامس للحزب في العام 1993.
والحق أن الحزب الشيوعي العراقي لم يقدم على خطوة واحدة نحو إقامة علاقات ذات طبيعة تحالفية جبهوية، الا وقد تعرف كادره الحزبي على اسسها ومنطلقاتها، وعلى حيثيات المفاوضات ونتائجها الأخيرة.
فتوسيع قاعدة التشاور في الحزب حول عقد التحالفات والجبهات، حاجة أساسية لضمان نضج وتأثير هذه التحالفات. فنحن لا نعقدها لتأتي تحالفات شكلية، بل كي تكون فاعلة، تخدم القضية التي وجدت من اجلها.

البدايات.. قبل وأثناء ثورة 14 تموز

بدأت تحالفات الحزب الشيوعي تتطور بشكل واضح، وتأخذ شكلها السياسي الناضج، منذ انتفاضة كانون في العام 1948، ووثبة تشرين 1952، وانتخابات 1954، حيث دخل الحزب فيها من خلال رفاقه العاملين في قيادة منظمات ديمقراطية ، ولاحقا كانت مساهمة الحزب فاعلة في إقامة جبهة الاتحاد الوطني ، التي كانت الاساس لقيام ثورة 14 تموز عام 1958، على الرغم من أن هذه الجبهة لم تستمر خلال فترة تولي عبد الكريم قاسم الحكم بعد الثورة.
عندما تشكلت جبهة الاتحاد الوطني، التي كانت ضرورة تاريخية في ذلك الوقت، باعتبارها جزءاً من الحراك الشعبي الهادف إلى إسقاط الحكم الملكي الاستبدادي المرتبط بالإقطاع والاستعمار، فان اقامتها لم تكن بالأمر اليسير. فقد تطلب الامر من الحزب خاصة بذل جهود جبارة، لإيجاد لغة مشتركة وصياغات متفق عليها تضمن اهداف التحالف او الجبهة. وبسبب الصعوبات والحساسية والتنافس بين الاطراف المشتركة، لم يوضع برنامج للجبهة، بل فقط ما يبرر العمل المشترك لأسقاط النظام. ولكن ما هو البديل بعد اسقاط النظام؟ لم تحمل وثائق التحالف تصورا متكاملا حول البديل المنشود للنظام الملكي. نعم، كان الحديث يجري عن بناء نظام جمهوري، ولكن جمهوري من أي شكل؟ وبأي منهج اقتصادي؟ و.. و..
هذا النقص الكبير في الرؤية، كان أحد اهم الأسباب في تفتت الجبهة بعد سقوط النظام الملكي مباشرة.
وكانت لغياب الرؤى المتكاملة لدى قوى الجبهة، ولتفرقها، أسباب عديدة، أبرزها الجو السياسي المشحون بالتدخلات الاجنبية والمؤامرات، وما كان يبرز من اجتهادات خاصة بكل طرف، محكومة بمفاهيم ذلك الزمن، وبطرائق الحل التي كانت تستسهل الخصومة والاقصاء. فوقعت القوى السياسية دون استثناء في أخطاء في الممارسة وفي التنظير، وفي التعامل مع الوضع العام، وفي العلاقات ما بينها.
ويجدر الذكر هنا أن بعض القوى السياسية المساهمة في جبهة الاتحاد الوطني، كانت عندها حساسية ازاء مشاركة الحزب الشيوعي العراقي. فهي لم تكن راغبة في أن يدخل الحزب بكيانه السياسي في التحالف، متحججة بالحظر القانوني المفروض على الحزب آنذاك. لكنها أبدت الاستعداد للتعاون مع ممثلي اتحادي الطلبة والشبيبة، اللذين كانت تقودهما كوادر شيوعية.
وكانت هذه الحساسية والنظرة المتشككة ازاء الحزب الشيوعي، هي بذرة الصراع بين القوى السياسية، الذي تفجر بعد الثورة.
ولأن تحالف الجبهة لم يكن يمتلك تصورا متكاملا عن طبيعة نظام ما بعد الحكم الملكي، فقد انفرد عبد الكريم قاسم بالحكم بعد الثورة. نعم، فهو رغم وطنيته ونزاهته، انفرد في الممارسة العملية بالسلطة ولم يطرق باب الديمقراطية، بل إنه تضايق من الحريات المكتسبة التي كانت ضمن شعارات الثورة، وأخذ يحد من نشاط النقابات والاتحادات والجمعيات تدريجياً، وحصل ما حصل في ما يخص مسألة شرعية العمل الحزبي.
والحق أنه خلال فترة حكومة ثورة 14 تموز، كان الحزب الشيوعي راغبا في عقد تحالفات لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية لجماهير الشعب، ولتعزيز استقلال الوطن. وقد عمل على الاتصال بحزب البعث والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني، وحتى مع المنشقين عن الحزب الوطني الديمقراطي، الذين سموا حزبهم المنشق "الحزب الديمقراطي التقدمي". ولكن وللأسف تطورت الاحداث بما لا رغبة فيه، وحصل ما حصل من تنابز وخصام وقطيعة بين الأحزاب. وهو ما استفادت منه، كما ذكرنا، حكومة عبد الكريم قاسم، في تفرّدها وممارساتها القمعية، وانتهاجها سياسة "التوازن" (سياسة ضرب الاحزاب ببعضها)، التي اشاعت وحفزت الخلافات بين القوى السياسية ، فتدهور الوضع على كل الاصعدة، ومهد لوقوع الانقلاب الفاشي في 8 شباط عام 1963.

تحالف جبهة 19٧٣ ما له وما عليه

قبل انقلاب حزب البعث على حكم عبد الرحمن عارف في 17 تموز عام 1968، بادر البعثيون الى الاتصال بالحزب الشيوعي العراقي، طالبين التعاون في اسقاط حكومة عارف. لكن قيادة الحزب رفضت المشاركة، لا حباً بالحكومة القائمة آنذاك وإنما لعدم الثقة بالبعثيين.
وبعد نجاح الانقلاب المذكور، عاود قادة حزب البعث الاتصال بقيادة حزبنا الشيوعي، طالبين فتح صفحة جديدة من العلاقات بين الحزبين. لكن ما سبق ان حصل في انقلاب شباط الدموي عام 1963، كان لا يزال ماثلاً في الاذهان، حاضراً ولا يمكن تجاوزه بيسر وسهولة.
وإزاء إلحاح البعثيين على بناء تحالف مع الشيوعيين، طرحت الفكرة على المؤتمر الوطني الثاني للحزب في العام 1970، فكان الجو العام متحفظاً إزاء خطوة التحالف مع حزب البعث، الذي كان واضحاً مذذاك أنه حزب إجرامي، لا يؤمن ببناء الديمقراطية.
من جانب آخر ورغم أن قادة حزب البعث واصلوا محاولاتهم اقناع رفاقنا في قيادة الحزب بتشكيل تحالف جبهوي، إلا أن الاعتقالات والجرائم التي كانوا يقترفونها ضد الشيوعيين استمرت. ومن شواهد ذلك أننا خسرنا قبيل اعلان التحالف بأشهر قادة وكوادر مرموقين، اذكر منهم الرفاق عزيز حميد، جواد عطية، علي البرزنجي، شاكر محمود، كاظم الجاسم، محمد الدجيلي، محمد الخضري، ستار خضير.. وغيرهم.
كان حزب البعث يتعامل معنا بوجهين، الأول هو وجه القمع والطغيان وما يمثله من حملات عنف واضطهاد تعرضت لها منظمات حزبنا بعد المؤتمر الوطني الثاني.
أما الوجه الثاني فكان يتجلى في إغراءات بتحقيق سياسات اقتصادية واجتماعية تقدمية، منها تأميم النفط، والانفتاح على الحركات الثورية والمعسكر الاشتراكي، وعقد معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، واعادة المفصولين إلى الخدمة واحتساب مدة الفصل السياسي خدمة كاملة للأغراض الوظيفية كافة.
كما طرحت حينها وثيقة "ميثاق العمل الوطني"، التي استهلكت فترة طويلة من النقاش، والتي كانت في الواقع عملية اعداد وتهيئة لإقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية .
وامتد النقاش حول الميثاق أشهرا طويلة، وبالضبط منذ اعلان وثيقة ميثاق العمل الوطني في 15 تشرين الثاني سنة 1971، حتى اقامة الجبهة في ١٦ تموز سنة 1973.
وكانت موضوعة القيادة أبرز القضايا الخلافية، وكان حزب البعث يستند - من بين أمور أخرى - على ما تضمنته وثيقة التحالف في سوريا بين حزب البعث والحزب الشيوعي السوري، حيث قبل الاخير بقيادة حزب البعث السوري وبالكف عن النشاط في ميادين متنوعة. لكن الحزب الشيوعي العراقي لم يوافق على تلك الصيغة، وقبل بما يشير الى "الدور المتميز" الذي يلعبه البعث في قيادة السلطة.
لقد نظر حزبنا آنذاك في تجربة السنوات الطويلة الماضية من الصراع في سبيل الحرية والاستقلال والاستقرار والبناء والديمقراطية، وشخص الثمن الغالي الذي دفعته الحركة الوطنية نتيجة الصراعات الدموية التي حصلت بين أطرافها. وكان المزاج السائد لدى كوادر الحزب هو ايقاف مسلسل الصراعات هذا، ووضع حد لحمام الدم، وفتح باب التطور الطبيعي السلمي للبلد عبر البناء والاعمار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية. وكان هذا يحتاج الى جرأة في اتخاذ الموقف السياسي.
هكذا كان المزاج الدافع الى انهاء الصراعات الدموية، والى إيقاف القمع ضد الحزب والتضحيات الكبيرة التي قدمتها كوادر الحزب وأسرها، والى التسامي على الجراح من دون نسيانها، عنصرا حاضرا في التفكير عند تقرير مصير العلاقة مع القوى الأخرى. فكان ماثلا بالطبع في نقاشات الحزب حول فكرة التحالف مع البعث.
هذا بالإضافة إلى ما أشرنا اليه من تحقيق منجزات حقيقية ملموسة على اصعدة متعددة: إعادة المفصولين السياسيين، تحسن الوضع الاقتصادي والظروف المعيشية، ادخال تعديلات ايجابية على مشروع الاصلاح الزراعي لصالح الفلاحين، اعتماد تعديلات أخرى في مجال حقوق العمال وغيرها.
لكن هذه المنجزات جميعا لا تنفي ان سلوك من نفذها ينطوي على غش ونية سيئة مبيتة. ذلك أنه لم يتحرر من عقدة معاداة الشيوعية، ولم يتخلص من عقدة مجافاة الديمقراطية.
إضافة إلى تلك الظروف الداخلية، كان لتداخلات الظرف الخارجي تأثيرها ايضاً. فقد انتشر حينها وهم عالمي في شأن مستقبل حركات التحرر الوطني، وشاعت تنظيرات حول التوجه الاشتراكي والتطور اللارأسمالي، وحول آفاق تطور بلدان التحرر الوطني.. الخ. وكانت تلك الصياغات النظرية ذات تأثير لا يستهان به على قيادات الاحزاب الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي،
وكان لعلاقات الاتحاد السوفيتي مع بلدان التحرر الوطني والأنظمة القومية، وطرح منظريه فكرة أن هذه البلدان سائرة نحو الاشتراكية وفي طريقها إلى تجاوز الرأسمالية .. كان لها دور بحجم او بآخر في تحديد الموقف.
لقد كانت هذه العوامل الداخلية والخارجية حاضرة عند اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الذي التئم في نيسان ١٩٧٣ ، والذي كان اجتماعا عاصفا، تباينت فيه الآراء واختلفت، غير أن "الأغلبية الضعيفة" حسمت الأمر في النهاية لصالح الانخراط في التحالف.. وكان ما كان!
(
يمكن في هذا الخصوص مراجعة وثيقة تقييم التجربة، الصادرة عن المؤتمر الوطني الرابع للحزب، المنعقد في ١٠-١٥ تشرين الثاني ١٩٨٥).
تلك هي المقدمات التي دفعت الى التحالف. وأستطيع القول ان اغلب أعضاء قيادة الحزب كانوا يرغبون في العمل المشترك مع البعث بصرف النظر عن درجة الحذر. وكان هناك رفاق بقوا يعلقون آمالا على حسن نية الطرف الآخر، حتى آخر اللحظات قبل انفراط التحالف وقطع العلاقات مع البعثيين، غداة ايغال أجهزتهم القمعية في سفك دماء الشيوعيين وضرب تنظيمات الحزب .