لعل أهم ما أحدثته المئوية الثانية لميلاد ماركس هو اعادة الاعتبار لـ "السيرة". وهذا لا يعني، بالطبع، تجاهل ما صدر من كتب كثيرة حول فكر ماركس ومؤلفاته وتأثيراته ... لكن سيرة حياة ماركس تبقى علامة مميزة ارتباطاً بهذه الذكرى، التي كانت، أيضاً، حافزاً لاعادة اصدار سير قديمة.

وتكفينا الاشارة، في هذا السياق، الى عناوين أبرز السير عن حياة كارل ماركس في العقد الأخير حسب، وقد ألفها باحثون وأخصائيون في الماركسية مرموقون:

- (ماركس) للبريطاني تيريل كارفر – 2018

- (ماركس والماركسية) للبريطاني غريغوري كليز – 2018

- (عالم نكسبه: حياة وأعمال ماركس) للسويدي سفين-إريك ليدمان – 2018

- (كارل ماركس: العظمة والوهم) للبريطاني غاريث ستيدمان جونز – 2016

- (كارل ماركس: حياة في القرن التاسع عشر) للأميركي جوناثان سبيربر – 2013

- (كارل ماركس: سيرة حياة فكرية) للألماني رولف هوسفيلد – 2012

ولعل من المفيد التذكير بسير أخرى هامة صدرت قبل ذلك، ونشير، من بينها، الى:

- (كارل ماركس: سيرة حياة) للبريطاني ديفيد ماكليلان – 1995، وكان قد أصدر (كارل ماركس: حياته وفكره) عام 1975

- (ماركس: مقدمة وجيزة جداً) للأسترالي بيتر سنغر – 1980

- ولا يفوتنا، بالطبع، أن نذكّر بسيرة الحياة الكلاسيكية المميزة التي كتبها القائد الشيوعي الألماني البارز فرانز مهرنغ عام 1918 تحت عنوان (كارل ماركس: قصة حياته)، وقد أهداها الى رفيقته، القائدة البارزة في الحركة النسائية العالمية، كلارا زيتكين.

         *          *          *

عندما تحدث انجلز مودعاً صديقه الحميم ماركس يوم 14 آذار 1883، حيث دفن في مقبرة هايغيت بلندن، قال: " إنها خسارة لا تعوض أصابت كلاً من الطبقة العاملة المناضلة في أوروبا وأميركا، وعلم التاريخ، برحيل هذا الانسان. إن الثغرة التي نجمت عن رحيل هذه الروح العظيمة ستبرز بجلاء قريباً... كان ماركس قبل كل شيء ثورياً. وكانت مهمته الأولى في الحياة المساهمة بطريقة أو بأخرى في الاطاحة بمجتمع رأس المال، وبمؤسسات الدولة التي جلبها معه، وكذلك الكفاح من أجل تحرير البروليتاريا الحديثة الذي كان أول من جعلها تعي موقعها وحاجاتها وشروط تحررها ... ونتيجة لذلك كان ماركس أفضل المكروهين وأكثر المشهّر بهم في عصره، اذ قامت حكومات مطلقة وجمهورية، على حد سواء، بترحيله عن أراضيها، وتنافس البرجوازيون من المحافظين، أو من أقصى الديمقراطيين، بالتشهير به والاساءة لشخصه. لقد أزاحوا ماركس كما تزاح خيوط العنكبوت. لكن لم يعر ماركس اهتماماً بذلك، ولم يرد الا عندما دعته الضرورة الى الرد. ومات محبوباً، ممجداً، ونعاه الملايين من العمال الثوريين- من مناجم سيبيريا الى كاليفورنيا وفي سائر أنحاء أوروبا وأميركا ... ومن المهم القول إنه برغم خصومه العديدين فبالكاد كان هناك عدو شخصي واحد له ... سيخلد اسمه على مر العصور وكذلك أعماله !" ..

إبعاد الميثولوجيا

والحال إنها ليست مهمة يسيرة أن يكتب المرء سيرة حياة شخص يوصف بأنه المفكر الأعظم للألفية. ويمسي الأمر أصعب عندما يكون الموضوع هو ماركس الانسان، الذي تصاعد الهجوم عليه منذ أن رحل. ومع ذلك فقد أفلح الكاتب والصحفي البريطاني المرموق فرانسيس وين في موضوعه، اذ كتب سيرة جذابة وأمينة لمؤسس الاشتراكية العلمية الحديثة، حملت عنوان (كارل ماركس)، وصدرت عام 1999 عن منشورات (فورث إستيت) بلندن، وهي النسخة الانجليزية التي نعتمدها في مقالنا هذا. وكان أفضل عرض لهذا الكتاب الهام ما كتبه الكاتب البريطاني بيتر مورغان ونشره في شتاء العام ذاته في مجلة (الاشتراكية الدولية).  

وفي مقدمته يقول وين إنه كان متحمساً لتأليف كتاب عن ماركس وليس عن الماركسية. ويضيف إنه "آن الأوان لابعاد الميثولوجيا، والسعي الى اعادة اكتشاف ماركس الانسان". وبالتالي فان ما يعزز مصداقيته أنه كان قادراً على الامساك بالروح المقاتلة التي تحدث عنها انجلز، وجسد مكانة ماركس الفكرية. وقدم وين تفاصيل عن حياة ماركس، اذ اطلع على الكم الهائل من الرسائل بين ماركس وانجلز وأصدقائه وحلفائه السياسيين الآخرين الكثر. وأزال وين الكثير من الأساطير التي شوهت أفكار ماركس ليمنحها راهنية فتكون مرشداً لأولئك الذين يكافحون من أجل تغيير العالم.

وتتمثل نقطة القوة الأعظم في كتاب وين، وما يجتذب القاريء مباشرة، في أنه يظهر الجانب الانساني من شخصية ماركس. وعبر السنوات جرت المبالغة في هذا الشيء، حيث لم يدرك كثير من الناس أنه خلف المنظّر العظيم كان هناك، أيضاً، منظم ومجادل متقد، وانسان راعٍ لعائلته ومخلص لأصدقائه.

وعلى الرغم من أن وين يستذكر الأزمنة الصعبة، وهي كثيرة، فانه يتحدث، أيضاً، عن الأزمنة الجميلة. فنحن نقرأ عن علاقة حب ماركس مع حبيبة صباه (وزوجته لاحقاً) جيني ويستفالن، ومشاكساته أيام الدراسة، وصخبه  في عمر الشباب، وأيام الآحاد التي كان يقضيها مع العائلة والأصدقاء في منطقة هامستيد هيث بلندن ... وهناك الكثير مما يكشف عن شخصية ماركس في المواقف المختلفة.

ويضيء وين، أيضاً، التجارب التي ساعدت على تغذية عبقرية ماركس. فقد عاش حياة استثنائية في أزمنة استثنائية، اذ شهد ثورات 1848، وموجة الاضرابات في عامي 1868-1879، وكومونة باريس عام 1871. وأسهم وحرر صحفاً راديكالية، وكان كاتب كراسات ومحرضاً ومنظماً. وكان شخصية رئيسية بالنسبة لجمعيات الشغيلة الأولى، التي تأسست لدعم الحركة العمالية المتصاعدة في مختلف أنحاء أوروبا، وكان طيلة الوقت كاتباً غزير الانتاج.

لقد شكلت أعماله ما يزيد على 50 مجلداً، وغيرت أفكاره الطريقة التي نرى بها العالم، والطريقة التي نغيره بها. وكان ماركس ثورياً ليس فقط في ما كتبه، وانما في ما فعله أيضاً. وتشكل اضاءة هذا الجانب من حياة ماركس نقاط قوة في كتاب وين.

وعندما اجتاحت ثورات 1848 أوروبا كان ماركس وانجلز قد أكملا، للتو، كراستهما العظيمة (البيان الشيوعي). غير أنه في الوقت الذي ظهرت فيه كانت الثورة قد انتشرت في أنحاء اوروبا – في بالميرو في كانون الثاني، وفي باريس في شباط، وفي برلين وفيينا وبودابست وبراغ وميلان في نهاية آذار. وقد أقيمت المتاريس واستولى العمال على الشوارع، بل وكانوا في الحكومة في باريس. كان النشاط المفعم بالحيوية والحماس في كل مكان، وكان يبدو أن النظام القديم ينهار تحت ثقل الانتفاضات الشعبية.

وكان الوضع مختلفاً في المانيا بالمقارنة مع جيرانها الغربيين، فقد كانت ماتزال بلداً متخلفاً، اذ كان يتحكم بها الانتاج الزراعي، ولم تتطور المدن الألمانية، الا بشكل محدود، منذ القرن التاسع عشر. وكانت البنى السياسية الألمانية متخلفة والبلاد مقسمة الى 39 ولاية، وكانت الحاجة الى الوحدة الألمانية ذات أهمية مركزية بالنسبة لكل الديمقراطيين التقدميين.

وأدرك ثوريان شابان ألمانيان هذا الأمر بينما كانا ينتظران الانتفاضة. اذ أسرع ماركس وانجلز عائدين الى موطنهما في الراينلاند ليشاركا في الكفاح. وبحلول أيار وصلا الى كولونيا، وأسسا الجريدة الراديكالية اليومية راينيش تسايتونغ (الجريدة الرينانية الجديدة). وخلال وقت قصير وزعت خمسة آلاف نسخة يومياً، وهو توزيع هائل بمقاييس تلك الأيام. وكان هدفها نشر الثورة ومناقشة وضع الاتجاه الثوري للجناح الأكثر يسارية.

ولكن تخلف المجتمع الألماني وتردد البرجوازية الألمانية جعلها تساوم النظام القديم بدل أن توحد نفسها مع العناصر الراديكالية التي أرادت أن تمضي بالحركة الى أمام. وكانت النتيجة أنه بحلول نهاية عام 1848 انحدرت الموجة الثورية التي اكتسحت ألمانيا وألحقت بها الهزيمة، واستمر النظام القديم على الحياة. واتخذ النظام، من ثم، عقوبات ضد أولئك الذين وقفوا ضده. وفي بداية عام 1849 أحيل ماركس وانجلز الى محكمة لاهانتهما المدعي العام. وفي مناشدة للضمير السياسي للمحلفين أوضح ماركس قائلا: "أفضل متابعة أحداث العالم العظمى، وتحليل اتجاه التاريخ، بدل أن أشغل نفسي بالزعماء المحليين والبوليس واتهامات القضاة. ومهما اعتبر هؤلاء السادة أنفسهم عظاماً حسب ما يتخيلون، فانهم لا شيء في المعارك العملاقة لعصرنا. أعتبر أننا نقدم تضحية حقيقية عندما نقرر أن ندخل في معركة مع الخصوم. ولكن مهمة الصحافة، أولاً، أن تتقدم نيابة عن المضطهَدين ... إن المهمة الأولى للصحافة، اليوم، هي تقويض كل أسس الوضع السياسي القائم".

وقررت الحكومة أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع ماركس "المتهور" أن تطرده خارج البلاد. وفي 16 أيار 1849 وجهت السلطات اتهاماً لنصف محرري (الجريدة الرينانية الجديدة)، وقررت تهجير النصف الآخر. وطبع العدد الأخير من الجريدة بالحبر الأحمر من باب التحدي، وفيه أعلن المحررون أن "كلمتهم الأخيرة في كل مكان وعلى الدوام ستكون: تحرير الطبقة العاملة". وبجوقة موسيقية وراية حمراء خرج ماركس ورفاقه الصحفيون من المبنى، ومن هناك هرب ماركس الى باريس، ومن ثم الى لندن، حيث قضى بقية حياته منفياً.

وكشف دور ماركس في الثورة التي اجتاحت أوروبا عام 1848 وتحليله لما حدث في كتابه القيم (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) عظمته الحقيقية، كما كشف دور صديقه ورفيقه انجلز.

عشرة أيام هزت العالم !

رغم أن هذه العبارة هي عنوان كتاب جون ريد الشهير عن الثورة الروسية، الا أن فرنسيس وين يستخدمها لوصف اللقاء الأول بين ماركس وانجلز في باريس، الذي استمر، هو الآخر، عشرة أيام.

وقال انجلز بعد ما يقرب من 40 عاما إنه "عندما زرت ماركس في باريس صيف عام 1844، بات اتفاقنا الكامل في سائر الميادين النظرية جلياً، وابتدأ عملنا المشترك منذ ذلك الوقت". وقبل حدوث ذلك اللقاء كان انجلز منظّراً سياسياً. وفي البداية كان ماركس مرتاباً بانجلز القادم من برلين، والذي تصور ماركس بأنه مايزال متأثراً، الى حد كبير، بالفلسفة المثالية الألمانية. ولكن سرعان ما تبدد هذا الارتياب بعد أن قرأ ماركس مقالات انجلز حول الاقتصاد السياسي التي كتبها لصحيفة ألمانية. وأشار ماركس الى أنها كانت دليلاً على عبقرية انجلز.

وكان انجلز قد انتقل الى مانشستر عام 1942 ليعمل في مصنع العائلة. وفي ذلك الوقت كانت مانشستر مركز الاضراب العام الذي حدث عام 1842، ومدينة تزدحم بالتشارتيين والمحرضين الصناعيين. ويظل الكتاب الذي ألفه انجلز في تلك الفترة، وهو (ظروف الطبقة العاملة في انجلترا)، حتى في أيامنا، احدى الدراسات الهامة للرأسمالية الصناعية.

وكان انجلز متحمسا لتمييز نفسه عن عبقرية ماركس منذ البداية. وقد قبل أن تكون مهمته دعم ماركس بدون أية شكوى، ولكن وين على حق في الاعتراف بأن المساهمة التي قدمها انجلز الى ماركس، لا في اطار الدعم المالي والمعنوي حسب، وانما، أيضاً، من الناحية الفكرية كانت عظيمة. فقد كان انجلز مساهماً فعالاً في (البيان الشيوعي). وكانت (عصبة الشيوعيين)، وهي تجمع للراديكاليين والعمال الشيوعيين الثوريين، قد قررت عام 1847 اعداد (البيان الشيوعي)، وكتب انجلز مسودته وأرسلها الى ماركس.

كان ماركس متحمساً لأن يكون (البيان الشيوعي) تعبيراً منفتحاً عن غايات ومقاصد الشيوعيين. وكان يريد أن يقطع الصلة بالتقليد التآمري الذي كان يهيمن على الجماعات الراديكالية في ذلك الوقت. وأراد أن يعرف لماذا يتعين على الثوريين أن يخفوا آراءهم وغاياتهم. وعندما التقى الرجلان في نهاية تشرين الثاني 1847 في أوستند في الطريق الى لندن للمشاركة في المؤتمر الثاني للمنظمة الشيوعية، كان انجلز قد راجع مسودته الأصلية. ولكن حتى عندئذ أدرك، هو وماركس، أنه كان عليهما خوض صراع عنيد لجعلها مقبولة من المندوبين.

وهناك الكثير الى جانب ذلك مما أسهم فيه انجلز وقدمه الى ماركس. فبعد حل (عصبة الشيوعيين) عام 1852 كلف ماركس بكتابة سلسلة مقالات للصحيفة الأسبوعية (نيويورك تريبيون)، وكانت صحيفة مؤثرة واسعة الانتشار، وأسهم انجلز في ذلك.

وفي سنوات لاحقة لم يتحكم ماركس بانفعاله ازاء الأحداث في العاصمة الفرنسية يوم 18 آذار 1871، حيث أقام العمال كومونة باريس. وبين الـ 92 من الكومونيين الذين انتخبوا بالاقتراع الشعبي يوم 28 آذار كان 17 عضواً في جمعية الشغيلة الأممية (الأممية الأولى)، وهي الجماعة التي تشكلت في أيلول 1864 لدعم قضية تمرد العمال، والتي كان ماركس أحد أبرز قادتها. إن الدور الرئيسي الذي لعبه ماركس في الجمعية يعصف باحدى الأساطير الشعبية المنسوجة حوله، من أنه كان مثقفاً مهتماً بدراسة الكتب ليس الا. والحق أن دوره، كما يظهر فرانسيس وين، كشف، بوضوح، عن التوافق بين قضاياه السياسية الثورية ونشاطه الثوري.

لقد كتب ماركس، نفسه، حول كومونة باريس للمجلس العام للجمعية في مؤلفه الاستثنائي (الحرب الأهلية في فرنسا)، ولكن ذلك لم يظهر الا بعد أن أغرقت الكومونة بالدماء. فلماذا التأخر ؟ بالنسبة لبعض كتاب السيرة يعود السبب الى تردد ماركس الشخصي. ولكن التأخر يعود، الى حد كبير، كما يظهر وين، الى أسباب يمكن وصفها بالروتينية. ففي ذلك الوقت كان ماركس يعاني من التهاب القصبات ومتاعب في الكبد، مما منعه من الكتابة. وعندما ظهر كتاب (الحرب الأهلية في فرنسا) كان تحليلاً بارعاً لما حققته الكومونة، مؤكداً، للمرة الأولى، الشكل الذي يمكن أن تتخذه سلطة العمال. كان الكتاب نجاحاً مذهلاً، فقد كانت الطبعتان الأولى والثانية (3 آلاف نسخة في كل طبعة) قد نفدتا خلال أسبوعين. وعندما عرف بأن ماركس هو المؤلف، سرعان ما أصبح شهيراً، وكذلك الجمعية التي باتت، في حينه، موضوع مطاردة ساحرات.

وفي الساعات الأولى من يوم 16 آب عام 1867 أنهى ماركس مراجعة وتصحيح بروفات عمله الأعظم (رأس المال). وفي رسالة الى انجلز أثنى على التضحية التي أقدم عليها صديقه: "بدون تضحيتك الذاتية من أجلي لم يكن بوسعي أن أنجز العمل المطلوب بثلاثة مجلدات. أعانقك بكثير من الامتنان .. وأحييك، صديقي العزيز، الجدير بالتقدير والاحترام".

وبينما كان ماركس يكمل الصفحات الأخيرة كان يعاني من آلام. فخلال سنوات كان يواجه طائفة من الأمراض الجسدية، وبشكل خاص الجمرة التي غالبا ما كانت تصيبه. غير أنه في شتاء 1866-1867 لم يعد ذلك يحبط عزمه على انهاء عمله العظيم. وكما يوضح وين فقد "كتب الصفحات القليلة الأخيرة من الجزء الأول وهو واقف عند منضدته، اذ كان يصعب عليه الجلوس بسبب انتشار دمامل في أردافه ...". وقد قال أخيراً: "في كل الأحوال يراودني أمل في أن تتذكر البرجوازية دماملي في لحظات احتضارها .. أيَّ فئة من الأوغاد هؤلاء البرجوازيون !".

كتاب مضيء

وعلى الرغم من المشاكل أنتج ماركس كتاباً ذا تأثير عظيم، وصفه انجلز لاحقاً بأنه "انجيل الطبقة العاملة". وقد استهل وين دفاعاً رائعاً عن (رأس المال). فهو يهاجم الفيلسوف كار بوبر الذي يدعي أن قوانين ماركس الاقتصادية ليست سوى تنبؤات تاريخية. والحق، كما يقول وين، فانه "من السهل أن نخضع تأكيدات ماركس الاقتصادية الى التجربة بدراسة ما حدث في الممارسة خلال القرن الماضي أو نحوه. وتنبأ بأنه ما أن تنضج الرأسمالية فاننا نرى حالات ركود دورية، واعتماداً متزايداً على التكنولوجيا، ونمواً للشركات الكبرى الاحتكارية، التي تنشر مخالبها الشائكة في مختلف أنحاء العالم بحثاً عن أسواق جديدة تستغلها. ولو أن شيئاً من هذا لم يحدث فقد نرغم على القول بأن كلام الصبي القديم كان كلاماً فارغاً". كما دافع عن ماركس أمام أولئك الذين يزعمون أنه، بسبب أن العمال ليسوا أكثر فقراً منذ الأيام الأولى للرأسمالية، فان هذا يدحض النظرية بمعنى ما. ويجادل وين بأن "ما تنبأ به ماركس هو أنه في ظل الرأسمالية سيكون هناك انحدار نسبي – وليس مطلقاً – في الأجور". وأخيراً فانه يهاجم الفيسلوف البولندي ليزيك كولاكوفسكي الذي يزعم أن "نظرية ماركس في القيمة لا تلبي متطلبات الفرضية العلمية".

في نهاية (رأس المال) يقول ماركس إنه "اذا كانت النقود تولد وعلى خدها لطخة دم، فان رأس المال يولد وهو يقطر دماً وقذارة، من جميع مسامه، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه".

ويؤكد ماركس أن العمل، وحده، هو الذي يخلق القيمة. ومعلوم أن ملكية وسائل الانتاج في ظل النظام الراسمالي تتحكم بها مجموعة قليلة، بينما لا تملك الأغلبية الساحقة من البشر غير خيار بيع عملها.

ورأس المال، بالنسبة لماركس، علاقة اجتماعية محددة. فالمصنع ملكية خاصة، وعلى العامل أن يعمل فيه دون أن يكون له رأي بوجود هذا المصنع وملكيته وكيفية تشغيله. فالعمال يخلقون القيمة ويقوم الرأسماليون بتدويرها لخلق المزيد من القيمة أو الأرباح.

والرأسمالية ليست نظاماً أبدياً، وليست أسلوب الانتاج الوحيد الذي يدير به الناس مجتمعاتهم، بل هي نظام سائر الى زوال، بسبب تناقضاته الداخلية الجوهرية، ذلك أنه نظام لانتاج المزيد من المال، وليس لتلبية الحاجات الاجتماعية. وهذا هو السبب الذي يؤدي الى أزمات الرأسمالية الدورية.

إن تراكم الثروة في طرف واحد هو، في الوقت ذاته، تراكم للبؤس وعذاب العمل والعبودية الجهل والتوحش والانحطاط الأخلاقي في الطرف المقابل، كما يقول ماركس.

لقد مضى ما يزيد على 150 عاماً منذ صدور (رأس المال)، وقد أثبت التاريخ أن ماركس كان على حق. فالرأسمالية عاجزة عن تحقيق غايتها الخاصة المتمثلة بجني المزيد من الأرباح، وفي الوقت نفسه انقاذ البشرية من هيمنة البؤس والانحطاط.

ولعل أزمة الركود العظيم في عام 2008 هي دليل آخر، وليس الأخير، على استمرار الأزمات في ظل نظام رأس المال، وقد باتت تتخذ طابعاً عالمياً شاملاً في عصرنا الراهن.

إن الرأسمالية، كما بين ماركس بوضوح، تخلق، بنفسها، حفاري قبرها، أي البروليتاريا،  فـ"الأسلحة التي استخدمتها البرجوازية للقضاء على الاقطاع ترتد اليوم الى صدر البرجوازية نفسها. ولكن البرجوازية لم تصنع فقط الأسلحة التي ستقتلها، بل خلقت الناس الذين يستخدمون هذه الأسلحة، وهم العمال العصريون أو البروليتاريون" كما أورد (البيان الشيوعي) قبل 170 عاما.

واليوم، بعد 150 عاما من صدور (رأس المال) يتعاظم صراع العمل ورأس المال، وتعصف أزمات عميقة بالنظام الذي سيرغمه التاريخ على أن يخلي مكانه لنظام اجتماعي عادل.

إن كتاب فرانسيس وين حول سيرة حياة ماركس يسهم في اضاءة الحقائق الساطعة عن ماركس الانسان، ويحمل مشعلاً لاضاءة الطريق المفضي الى زوال عالم راس المال.

إنه كتاب ما أن يشرع المرء بقراءته لابد أن يكمله، ويمنح الانتهاء من قراءة كتاب فرانسيس وين القاريء رغبة مباشرة في أن يعرف المزيد. وسيكون الكثير من قراء هذا الكتاب متعطشين لمعرفة المزيد حول حياة كارل ماركس وأفكاره الثورية. وسيرغبون بقراءة (رأس المال) للمرة الأولى أو اعادة قراءته. ويرغبون في أن يتذكروا ما كتب عن كومونة باريس في (الحرب الأهلية في فرنسا). وقبل كل شيء، وبالنسبة لكثيرين، ستكون هناك رغبة حارقة في اقتفاء خطوات هذا الثوري العظيم، وانجاز المهمة الجليلة التي طرحها على نفسه، مهمة الاطاحة بسلطة رأس المال.

قصة رأس المال

لفرانسيس وين انجاز مميز آخر هو كتابه الموسوم (رأسمال ماركس) الصادر عام 2006، وهو من أهم الدراسات المقدمة حول كتاب ماركس الأعظم (رأس المال).

وبتفصيل مفعم بالحياة يروي فرانسيس وين قصة (رأس المال)، وكفاح ماركس المضني الذي امتد عشرين عاماً لانجاز رائعته غير الكاملة. وقد نشر الجزء الأول من (رأس المال)، الذي ولد في شقة صغيرة ذات غرفتين في حي سوهو بلندن، ووسط نزاعات سياسية وتراجيديا شخصية، نشر عام 1867، ولم يحصل في حينه على الثناء الذي يستحقه. ولكن بعد رحيل ماركس تعاظم تأثير الكتاب على المفكرين والثوريين من برناردشو حتى لينين، مغيراً اتجاه  القرن العشرين. ويظهر كتاب وين الآسر (رأس المال)، البعيد عن أن يكون بحثاً اقتصادياً جافاً، مثل رواية قوطية يستعبد أبطالها الغول الذي خلقوه: الرأسمالية. وجادل وين مؤكداً أن الحاجة ستظل تمس لقراءة واستيعاب (رأس المال)، مادامت الرأسمالية باقية.

ونشير الى أن كتاب وين هذا ترجمه الى العربية الباحث السوري ثائر ديب وصدر عن دار مكتبة العبيكان عام 2007 (نود أن ننوه الى أن هناك ترجمة أخرى جيدة الى العربية قام بها الصديق الراحل، الباحث والمترجم العراقي سعدي عبد اللطيف، وكتب الدكتور حسين الهنداوي مقدمة لها، غير أنها لم تر النور، لكنها منشورة على مواقع الانترنت).

وأما عن الصعوبة التي تواجه من يقرأ ماركس، و(رأس المال) على وجه التحديد، فيقول فرانسيس وين إن (رأس المال) عمل فذ، نسيج وحده، بكل ما في الكلمة من معنى، فليس ثمة ما يشبهه، وربما كان هذا هو السبب وراء ما حصده، على الدوام، من اهمال أو اساءة تفسير عند صدوره خصوصاً.

ويلاحظ وين أنه لو قيض لماركس أن يعيش سنوات أخرى لتعرض الى اتهامات مروعة. فقد اعتبره كاتب أميركي منتمياً الى طائفة شيطانية سرية جزئياً على أساس لحيته الغزيرة !

ووراء الهجوم الشنيع الذي ظل يتعرض له ماركس منذ صدور (البيان الشيوعي) عام 1848 وحتى يومنا، وهو ما رد عليه فرانسيس وين، على نحو بليغ، عبر اضاءته الجوانب الانسانية العميقة لماركس، وراء هذا الهجوم تقف أسباب عديدة، في مقدمتها، بالطبع، التهديد الذي شكله ويشكله لعالم رأس المال ووجوده. وترتبط بهذا طائفة من الأساطير، أو الخرافات بالأحرى، مازال سدنة رأس المال يروجون لها بمختلف السبل والوسائل. 

يختتم فرانسيس وين كتابه بالقول إنه "بينما كل ماهو صلب سيذوب الى هواء، لن يفقد تصوير رأس المال المفعم بالحيوية للقوى التي تحكم حياتنا – عدم الأستقرار، الاغتراب والاستغلال الناجم عنها - رنينه أبداً، أو قوته" ... وكما استنتجت مقالة مجلة (نيويوركر) عام 1997: "ستظل كتبه تستحق القراءة مادامت الرأسمالية باقية على قيد الحياة". وبعيداً عن أنه دفن تحت أنقاض جدار برلين، فأن ماركس يظهر، الآن أيضاً، بأهميته الحقيقية. وما زال بمستطاعه أن يصبح أكثر المفكرين نفوذاً وتأثيراً في القرن الحادي والعشرين.

و.. يطيب لنا أن نختتم هذه الحلقة (وهي الأخيرة) بقول ماركس الشهير:"لا أحسب أن أحداً قط كتب عن النقود، وجيوبه خاوية

الى هذا الحد !" ..

عرض مقالات: