شهدت العقود الأخيرة ما يمكن وصفه بثلاث مدارس أو مقاربات من التفكير الإستراتيجي الأمريكي، يمكن استخلاصها من متابعة عينات من الإنتاج الفكري والبحثي الذي صدر في العقود الاخيرة وخاصة العقود الثلاثة الاخيرة عن أبرز مفكريها، ونستطيع من خلال تفحصها ولو بلمحة سريعة توقع المسار الأكثر ترجيحاً في توجه إدارة (جورج دبليو بوش)، أما المدارس الثلاث فيمكن حصرها على النحو التالي:

1ـ المدرسة التقليدية المحافظة.

2ـ المدرسة التدخلية الحازمة (الاحادية الجانب).

3ـ المدرسة التدخلية المتدرجة (الانتقائية) بالشراكة.

المدرسة التقليدية المحافظة 

(Traditional Conservatives) 

تجدر الملاحظة الى امكانية اعتبار المدرسة التدخلية الانتقائية والمدرسة الواقعية مساراً واحداً في حقل الممارسة. وأبرز مفكري المدرسة الاولى وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر Henry Kissinger،

ويمكن مطالعة آرائه بالعودة الى كتابيه: "الدبلوماسية"، و"هل تحتاج اميركا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية القرن الواحد والعشرين". أما المفكر الآخر فهو (ريتشارد هاس)، ويمكن العودة الى كتابه: "الفرصة، لحظة اميركية لتعديل مسار التاريخ".

والجدير بالذكر ان كتابات هاس في السنوات الاخيرة تلقى صدى واسعاً، وقد شغل منصب رئيس المركز البحثي السياسي بمجلس العلاقات الخارجية، وصاحب مقولة "عالم بلا اقطاب".

ورغم التفاوت النسبي في مقاربات كل من (كيسنجر) و (هاس) لما يجب ان تكون عليه السياسة الخارجية الاميركية، إلا انهما يشتركان في نظرة، مفادها ان الخطر الاساسي الذي يواجه اميركا هو عدم استقرار وتوازن العلاقات بين القوى الرئيسية في العالم، ويعتبران أن دور التحالفات والشراكة اساسي بينها. ويركز (هاس) على ضرورة تطوير شراكة عالمية بين أمريكا، أوروبا، الصين، اليابان، والهند بصورة اساسية. كما يجب على واشنطن اعتماد القوة العسكرية والدبلوماسية معا، والسعي لإقامة توازن دولي مستقر.

ومن المفيد الاشارة هنا الى انه ووفقا لما يرد في المدرسة الواقعية فإن الحرب بين الدول والتغيرات في النظام الدولي تحدث بسبب النمو غير المتوازي في القوة بين الدول.

فالواقعيون منذ القدم وإلى الأبد يعزون حركة العلاقات الدولية إلى الحقيقة التي تقول أن توزيع القوة في النظام الدولي يتحول على مرّ الزمن وهذا التحول أدى الى حدوث تغيرات جذرية في العلاقات بين الدول وأخيرا غيّر من طبيعة النسق الدولي نفسه.

المدرسة التدخلية الحازمة 

(Assertive Interventionalists)

ينتمي أبرز مفكري المدرسة التدخلية الحازمة عموما الى ما اتفق على تسميته بالمحافظين الجدد، الذين وقعوا على (وثيقة القرن الاميركي الجديد)، لكن ليس كل الاسماء التي لمعت في الاعلام الاميركي مثل بيرل، وولفوفيتز، وفيث، وكاغان، وولسي، وكروثهامر، وكريستول و ليدين... الخ.

وينسب إليهم تقديم وجهات نظر متماسكة ومعبرة مثلما قدم كل من (والتر راسل ميد) في كتابه: "القوة، الإرهاب، السلام، والحرب: خطر محدق باستراتيجية اميركا في العالم"، أو (نيال فرغسون) في كتابه: "ثمن الامبراطورية الاميركية "، أو (روبرت ليبير): "العصر الاميركي: القوة الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين" 2005.

ويتقاطع هؤلاء، في نظرتهم، الى أن التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته "حزام الفوضى الجنوبي" من الكرة الأرضية والإرهاب، ولا يعلقون أهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، ويؤمنون بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة بحسب رغبتها، ولا يقيمون وزناً فعلياً لدور الامم المتحدة، او حتى لحلف الناتو، اذا لم يتفقا مع ما يرونه "المصلحة الامريكية الخاصة".

ويعتبرون أن استخدام القوة العسكرية الامريكية والعقوبات الاقتصادية "وسائل مشروعة" دائماً للاستخدام بصورة منفردة؛ وبهدف القضاء على التهديدات، وترويج الافكار والنماذج الديموقراطية، ويدعون الولايات المتحدة للعب دور قيادي مع حلف الراغبين وبصورة انتقائية بحسب الطلب في مواجهة كل حالة معينة، ولا يكترثون لمن يعتقد بحدود او ضوابط للقوة العسكرية والاقتصادية الاميركية، ويمكن وصفهم فعلا في ضوء التجربة الميدانية خلال عهد بوش الإبن ـ الذي نفذ رؤيتهم ـ عمليا بـ "حلف المكابرين"  Alliance of Arroganse .

وفوق ذلك كله فان هذه المدرسة (المحافظين الجدد) تعمل بواسطة معتقدات شبة آيديولوجية تملي عليها استراتجيات عامة في السياسة الخارجية.

المدرسة التدخلية المتدرجة 

(Progressive Multilateralist)

ويمكن وصفها ايضا بالمدرسة الليبرالية المثالية، ويعد زبيغنيو بريجينسكي  Brzezinski  Zbigniew أبرز مفكريها، ونجد افكارها مبثوثة في كتابين من كتبه العديدة هما: "رقعة الشطرنج الكبرى: تفوق اميركا ومستلزماتها الجيوستراتيجية"، و"الاختيار: هيمنة عالمية ام قيادة"، و(جوزف ناي) في كتابه: "القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية".

تتقاطع نظرة هذه المدرسة مع مدرسة المحافظين الجدد في تحديد الخطر المهدِد للولايات المتحدة باعتباره قوس الازمات او قوس الفوضى الجنوبي، بالاضافة الى الإرهاب، لكن تختلف في سبل المواجهة. اذ تعول المدرسة الليبرالية المثالية على اهمية التحالفات والشراكات الدولية، وعلى استخدام القوة الناعمة والدبلوماسية في السياسة الخارجية الاميركية، لبناء اجماع استراتيجي وتحالفات ضرورية والنظر الى ان قيادة امريكا للتحالفات الدولية يجب ان تكون مستندة الى قناعة الآخرين الطوعية بها، ويعترف اصحاب هذه المدرسة بمحدودية القوة الاميركية.

ويحذر بريجينسكي من التركيز أو التضخيم لخطر ما يسمى بالإرهاب أو اعتماد المقاربة العسكرية الاحادية للتعامل معه، لأنه سيقود في نهاية المطاف الى عزلة الولايات المتحدة، ويدعو الى التمييز بين التدخل الاستباقي والتدخل الوقائي المدعوم بالشراكة والتحالف. كما يطالب بأن تلعب أوروبا دوراً اكبر وتتحمل مسؤولية اضافية في احتواء أو ادارة الازمات الأمنية العالمية.

ويركّز بريجينسكي على منطقة أوراسيا (Eurasia)  كميدان رئيسي لتوجه أمريكا الجيوستراتيجي، ويفرق بين التأثير على تلك المنطقة وبين السيطرة عليها، ويعتبر ان سياسة ادارة بوش قاصرة عن تحقيق ذلك، وانها ستكون المسرح الفعلي لمستقبل التوجه السياسي العالمي، ويحذر من أن عدم الحكمة في ادارة المسرح سيؤدي الى ان تتحول أوروبا تدريجا عن الولايات المتحدة وتدخل في نزاع سياسي مع روسيا.

كما دعابريجينسكي  الى تشجيع التوسع لحلف الناتو والاتحاد الاوروبي شرقا لضم أوكرانيا وبقية دول البلقان، مع اتباع سياسة توازن بين الحزم والتعاون مع روسيا، ويخشى من تنامي منافسة قطبية تستند الى تعزيز الصين لدورها الاقليمي والعالمي مقابل تنامي المخاوف اليابانية في محيطها الحيوي، ويعتبر أنه من الحكمة اعتماد استراتيجية تأخذ في الاعتبار مصالح الصين المشروعة وتخفيف أي اندفاعات محتملة لها نحو طموحات امبريالية.

من جانبهم، ينتقد البعض تركيز بريجينسكي المفرط على أوراسيا اكثر من الشرق الأوسط وعلى دعوته الصريحة للتساهل مع كل من الصين وفرنسا والمانيا، مقابل تصميمه على احتواء وضم الدول التي انسلخت عن "الامبراطورية السوفياتية" سابقاً.

وبالمقابل، تتلخص مقاربة (جوزيف ناي) في أن الولايات المتحدة اعتمدت بصورة مفرطة على القوة العسكرية ويجب عليها اعتماد القوة الناعمة الى جانبها، ويعتبر ان عولمة الاقتصاد والافراط في استخدام القوة الخشنة أحدثا ردود فعل سياسية واجتماعية تحمل الولايات المتحدة المسؤولية، وتشكل أحد أهم أسباب الغضب والعداء على مستوى عالمي ضدها.

وهنا لابد من بعض الملاحظات حول مفهوم القوة واشكالها. فمن المعروف ان مفهوم القوة يعد من أكثر المفاهيم جدلا العلاقات الدولية. يعرف Hansهانز مورغانثاو Hans Morganthaw القوة بأنّها: "السيطرة على أفعال وتفكير الآخرين".

من جانبه يرى جوزيف ناي Joseph Ney ان القوة تعني: "قدرة طرف معين على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على مخرجات توافق إرادته".

ويفرق المختصون بين بعدين مترابطين ومتباينين في آن واحد للقوة:

القوة الكامنة :(Potential Power) تمثل القدرات الوطنية لدولة ما، وهو المفهوم التقليدي للقوة؛

القوة الفعلية :(Effective Power) تمثل القوة المستخدمة الناتجة عن عملية تحويل القوة الأولى.

انطلاقا من هذا التفريق، هناك من يؤكد على أن التأثير الناتج عن القوة لا يكون نتيجة للموارد وحدها، ولكن نتيجة لطريقة توظيف الموارد أيضا، حيث أن الاستخدام المناسب والذكي للقوة يمكِن أن يفسر بأن توسيع التأثير يجب أن لا يعتمد فقط على الاعتراف بأن القوة هي موجودة، وإنما على التوقع بأنها ستستخدم أيضا.

ومن جهة اخرى يتم التمييز بين أشكال القوة فهناك القوة اللينة وهناك القوة الصلبة (الآمرة).

تعني القوة اللينة Soft Power القدرة على الحصول على ما تريده من خلال الجذب لا من خلال التعنيف أو الإغراء. وبهذا المعنى تكون القوة اللينة قائمة أساسا على القدرة على تشكيل أفضليات الآخرين.

اما القوة الصلبة (الآمرة) Hard Command Power فتعني القدرة على جعل الآخرين يغيرون مواقفهم ويّتبعون مسارا محددا للحركة، وهي تقوم على الإغراء (الجزرة) أو التهديد (العصا).

وتقتضي النظرة الشاملة لمساهمات التفكير الاستراتيجي الاميركي عدم تجاهل الاصوات التي تصدر من حين لآخر، والتي تتقاطع مع بعض جوانب في تفكير المدرستين الليبرالية المثالية والمحافظة، والتي تدعو الى عزلة جديدة للولايات المتحدة والتحول الى الداخل، والسعي لاقامة توازنات اقليمية تخفف من حاجتها للتدخل الخارجي المكلف.

عرض مقالات: