في الليلة الظلماء يُفتقد غرامشي، وما أكثر ليالينا الظلماء الموحشة نحن، المنذورين، للعيش في طاحونة الحروب والآلام. يلمع أنطونيو غرامشي في الذاكرة كخشبة نجاة، ومرشداً، ومواسياً نفسياً، ورائياً، مع أن حياته كانت سلسلة لا متناهية من التحديات والعذابات. لكن عقله الذكي انتصر، على رغم تشاؤمه، وذلك بفضل إرادته المتفائلة.
ومن بين مختلف المثقفين والمنظرين اليساريين، يبرز الشيوعي الإيطالي والبرلماني والمناضل كنموذج لما يتعين أن يعيشه الإنسان التواق إلى النبل وغير المبالي بالإغراءات، والعاضّ على جرحه، والممسك بجمرته حتى لو أحرقت عظام كفه. نعم تلك صورة مثالية، ربما يكون تحققها متعذراً أو ذا حظ قليل، ولكن لا بأس فلتختبر الندرة تجربتها من إمكانية التحقق والتبلور، أو عدمه.
يعني استحضار غرامشي الآن، إنعاشاً لمقولته الخالدة في الانحياز للإرادة المقاتلة، وقهر المطارق التي تدق في العقل محرضة إياه على مزيد من القلق والقليل من المبادرة لحل المشكلات. العقل، وبخاصة الفلسفي الذي كان يقصده غرامشي في عبارته التي صارت مثلاً وعبرة، لا يؤول إلى حلول “منطقية” للمشكلات التي تؤرقه.
وإذا كان العقل منشغلاً بالقضايا الوجودية، والأسئلة المتصلة بالكينونة والعدم، فإن تشاؤمه يتضاعف، وهذا ما واجه غرامشي وهو يعيد ترسيم الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلاده، والعالم أيضاً. إنه يتوق إلى زمن ينهي، ببطء، هيمنة السلطة على المجتمع استناداً إلى كفاءتها المالية، أو أصولها الرأسمالية. عقل غرامشي، وهو يفكك هذه المعضلة، كان يقود إلى موانع شاهقة، تكاد تكون مستحيلة.
بيْد أن تفجير العقل إلى حدوده القصوى ألهم غرامشي إلى القطع مع ماركس، وفي ما بعد التخلي عن ستالين، وقبلهما الاحتكاك الخشن مع أفكار لينين (في الثورة المسلحة بالضربة القاضية)، ليخلص إلى أن الثقافة، وليس الاقتصاد وحسب، يمكن أن تشكل أداة هيمنة مبتكرة ونظيفة (أي بلا استغلال رأسمالي متوحش). لذا يمكن للثقافة أن تصنع الفارق في التحول، من خلال المثقفين الذي وصفهم بالعضويين، تمييزاً لهم عن المثقفين التقليديين المتقاعسين المدافعين عن الموروث البالي والمتطلعين دائماً إلى مصالحهم الذاتية الضيقة.
الثقافة العضوية
هؤلاء المثقفون العضويون يمكن أن يشكلوا الرباط المتين الذي شبهه بـ”الأسمنت” الذي يشبّك البنية الاجتماعية بالبنية الفوقية، ما ينتج “كتلة تاريخية”، بمعنى حشد كل القوى الاجتماعية الباحثة عن التغيير في مرحلة تاريخية معينة، تحت هيمنة الحزب الماركسي، من أجل تغيير النظام الرأسمالي القائم. واستخدم مفهوم “الكتلة التاريخية” في معانٍ شتى، حتى أنه أخرج عن سياقه الذي قصده غرامشي، وراح يُعتقد أنه محض تشكيل جبهة وطنية أو تحالف سياسي، مع أحزاب ربما تكون برجوازية، وهو أبعد من مظان غرامشي وتطلعاته. كما استخدم مفهوم “الكتلة التاريخية” من قبل محمد عابد الجابري في كتاباته عن القبيلة والغنيمة والعقيدة، حيث يتبنى المفكر المغربي هذا المفهوم للخروج من أزمة الحكم في العالم العربي، من خلال جمع كل القوى الاجتماعية الباحثة عن التغيير في مرحلة تاريخية معينة، منشئاً مقارنة بين حال الأمة العربية الحالية، وما كانت عليه إيطاليا الرأسمالية مطلع القرن الـ20، حيث التفاوت القهار بين شمالها وجنوبها.
غرامشي، المولود في جزيرة ساردينيا الإيطالية، ذات الاقتصاد الضعيف المستلب، أراد أن ينصف الطبقات المعذبة في جنوب بلاده، فكان ذلك دافعاً أساساً لانخراطه في الحزب الشيوعي الإيطالي، وتصدره المشهد السياسي المعارض الذي قاده، بعد انتخابه في البرلمان، إلى السجن بأوامر من الحكم العسكري المستبد لموسوليني الذي لم يرأف بأمراض غرامشي وتصلب شرايينه، وتركه يموت ببطء في معتقله الذي قضى فيه 10 أعوام خرج بعدها جثة، بعدما أصيب بنزف دماغي، وهو في الـ46. عذاب غرامشي ملهم أيضاً، لقد كان أول من منح للأفكار حيوية جبارة، واهباً الثقافة قوة لم يسبق لها أن نالتها في التاريخ. صار لها المقدرة على الهيمنة الاجتماعية. والهيمنة في الفكر الغرامشي تقوم على القبول الذي يؤسس لحال تشاركية واعية وطوعية للمحكومين في الهيمنة عليهم، وهذه الحال تقودها قيادة سياسية هدفها تعميم أفكار الطبقة الحاكمة، بصورة رضائية قائمة على توازن القوة والأفكار.
ويعد مفهوم “الهيمنة على الثقافة” من أكثر المفاهيم الجدلية التي صاغها غرامشي في كتابه الأشهر “دفاتر السجن” الذي يقال إن المفكر الإيطالي كتبه بلغة “مواربة” لضمان ألا يعترض عليه الرقيب العسكري أو يصادره، حيث إنه كان يكتب على كراسات ويهربها إلى الخارج، وهذا ما يقتضي النظر إليه بحسن نية من قبل ناقدي غرامشي الذين عابوا عليه تواطؤه مع السلطة الموسولينية وممالأته لها. وقد تأثر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في فكرة الهيمنة الغرامشية، لكنه طوّر من هوامشها ووضعها في سياق خلاق عندما قدم تصوره لنقد الخطاب الكولونيالي وتفكيكه، كما تجلى في كتابه “الاستشراق”. بيد أن أثر ميشيل فوكو كان أبعد مدى من سعيد لا سيما في تصورات المفكر الفرنسي للخطاب والسلطة والمعرفة.
لقد آمن غرامشي، وهذا ما يجعل استدعاءه ملحاً الآن، بقوة المجتمع المدني الذي يضم إلى المثقفين العضويين، النشطاء وقادة الفكر والنقابيين ومروحة واسعة من الفاعلين الاجتماعيين. وهذا المجتمع هو أحد مكونيْ الدولة، إذ إن الأول يمثل المجتمع السياسي بأدواته الحكومية والتنفيذية والبيروقراطية. لم يدعُ غرامشي إلى القطيعة المطلقة بين المجتمعين، وراح يسعى إلى تجسير الهوة بينهما في خطوة لتمكين المجتمع الأول من الهيمنة بعيداً من مبدأ حرق المسافات الذي كان يتبناه لينين الداعي إلى المقاومة المسلحة التي تنقلب على النظام وتنسفه وتجتثه من جذوره.
المعايير المحلية التي كانت تحكم آليات النضال في إيطاليا تختلف عن روسيا، وهذا سر آخر من أسرار غرامشي الذي طور الماركسية وطوّعها لتكون بنت البيئة التي تستهدفها، مع ما يتطلب ذلك من تعديلات جوهرية على النظرية والممارسة. التغيير، خصوصاً في العالم العربي، مسيرة صعبة مزروعة بالألغام والأشواك، لكنها ليست مستحيلة.
مضى موسوليني إلى النسيان والغبار، وظل غرامشي يشع بأفكاره التي تصلح كمنهجيات عمل. في إحدى رسائل السجن الموجهة إلى والدته، يقول غرامشي “بطبيعة الحال، لا أطير فرحاً، لكني أيضاً لست كئيباً ويائساً، أنا أحس بالهدوء والسكينة كما يجب أن يكون عليه شخص يتمتع بضمير حي، وينظر إلى الحياة من دون أوهام.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“اندبندنت عربية” – 13 تشرين الأول 2024