أولاً: لماذا نهتم بطرح موضوع الشعبوية الآن؟

برز في أميركا وأوروبا منذ سنوات الاهتمام بالشعبوية، خصوصاً بعد انتخاب ترامب، وهناك من يتحدث عما يسمى “اللحظة الشعبوية” التي يمر بها العالم… والشعبوية تبرز أكثر في أوقات أزمات النظام الرأسمالي، وهذا ما حدث بعد أزمة ١٩٢٩ وأدى لتمكين النازية والفاشية… والآن هناك أزمة محتدمة يعانيها النظام الرأسمالي، وعندما تختفي الفوارق ويغيب التمييز بين اليمين واليسار ينفتح المجال أكثر أمام الطرح الشعبوي.

وفي الكويت مع تنامي الحس الطبقي المناهض للرأسمالية، الذي لم يتحول بعد إلى وعي طبقي، فقد تحول التذمر الشعبي البرجوزاي الصغير وأصبح يشكل توجهات شعبوية، مع ملاحظة أنها لا تمثل قطعاً مع النظام الرأسمالي ولا تقف على أرضية معادية للملكية الخاصة لوسائل الانتاج ولا تطرح البديل الاشتراكي، بينما برنامجنا كيساريين هو تحويل الحس الطبقي المعادي للرأسمالية إلى وعي طبقي يتبني البديل الاشتراكي.

ولعلنا لحظنا خلال السنوات الأخيرة بروز الخطاب الشعبوي المعارض، بل لحظنا كذلك بروز الخطاب الشعبوي العنصري اليميني.

وقد برزت النزعات الشعبوية في الانتفاضات الشعبية التي شهدتها لبنان والعراق قبل سنوات في الموقف السلبي تجاه مشاركة الأحزاب ككل في الانتفاضة، بما فيها الحزب الشيوعي الذي اضطر للنزول كأفراد أكثر منه كحزب.

لهذا كله علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.

 

ثانياً: التعريف:

مع أن تعريف الشعبوية ما زال قيد البحث، وليس محسوماً، بل ربما هو مصطلح لا يخلو من غموض… وهنا أشير إلى معلومة نشرت مؤخراً عن اجتماع عقده خلال شهر آذار من العام ٢٠٢٠ عشرات الأكاديميين من مختلف أنحاء العالم في كلية لندن للاقتصاد، وذلك بهدف تعريف الشعبوية، وفي النهاية فشل المجتمعون في الاتفاق على تعريف واحد، وخلصوا إلى أنه لا يمكن في الوقت الحاضر أن يكون هناك شك في أهمية الشعبوية، لكن لا أحد يعرف ما هي؟.

إلا أنه مع ذلك كله، فبالنسبة لي يمكن أن نحاول تعريف الشعبوية بأنها أولاً تمثل نزعة سياسية واجتماعية وأسلوب تفكير تبسيطي أحادي بالتزاوج مع أسلوب خطاب تهييجي يخاطب العواطف وأسلوب عمل وتحرك يركز على الفرز السياسي بين خندقين الشعب والنخبة أو الأقلية، أو نحن وهم، “الناس اللي تحت والناس اللي فوق”، أكثر من كونها تمثل اتجاهاً ايديولوجيا متكاملاً له أبعاده المعرفية والمنهجية، وبالطبع فإن الشعبوية لا ترقى لأن تكون فلسفة أو نظرية سياسية… أو لنقل في أحسن الأحوال أن البعد الأيديولوجي في الشعبوية هش وضعيف وغير متماسك.

وثانياً يمكن القول إنّ الجذر الطبقي للشعبوية يعود في الغالب إلى البرجوازية الصغيرة التي تتميز كطبقة اجتماعية بعدم التجانس من جهة، وبالإزدواجية من جهة أخرى لكونها طبقة مالكة وكادحة في آن واحد معاً، وبالتالي فهي ذات مواقف متذبذبة ليست معادية جذرياً للرأسمالية ولكنها تعاني من مزاحمة وضغوط الفئات العليا من الرأسماليين أو البرجوازية الكبيرة… بمعنى أن الشعبوية نزعة سياسية واجتماعية برجوازية صغيرة، تبرز في الظروف التي تعاني فيها البرجوازية الصغيرة من الضغوط والإفقار والتهميش.

وثالثاً فإنّ الشعبوية تنطلق من كون الشعب ككل له مصلحة واحدة، متجاهلة بأن الشعب ينقسم إلى طبقات اجتماعية مختلفة ولها مصالح متفاوتة ومتناقضة، وهذا الشعب أو الناس العاديون يقفون في مواجهة نخبة أو نخب فاسدة أو معزولة عن حياة الشعب أو الناس العاديين وواقعهم… والشعبوية هي المعبرة عن إرادة هذا الشعب أو إرادة الناس العاديين أو ما يسمى “الأغلبية الصامتة” وهي صوت الذين لا صوت لهم.

ورابعاً فإن الشعبوية مثل أي ظاهرة سياسية واجتماعية تتأثر بالتناقضات الدائرة داخل المجتمع، ولذلك تتجاذبها ميول مختلفة يمينية ويسارية، مع أن أحد أسباب أو عوامل بروز الشعبوية تتمثل في ضبابية الفروق بين اليمين واليسار، إلا أن هناك ميلاً يسارياً يضع الشعب في مواجهة الرأسماليين ويركز على المساواة والمظالم الاجتماعية والاقتصادية وأحياناً على الانقسامات الثقافية والمشكلات البيئية والميول الجنسية… وهناك في المقابل، وهذا هو السائد في أوروبا والولايات المتحدة ميل يميني يضع الشعب في مواجهة الأجانب مثلا ويركز على قضايا اجتماعية وثقافية أخرى مثل الهجرة والموقف ضد الأجانب، مثلما حدث في بريطانيا قبل أسابيع… ولذلك يمكن القول إن هناك شعبوية يسارية وشعبوية يمينية… بل هناك من ينظّر مثل شانتال موف إلى أن أفضل مواجهة للشعبوية اليمينية هي تطوير نوع من الشعبوية اليسارية… لسحب الجمهور من اليمين الشعبوي إلى اليسار الشعبوي (مع تجاهل أن غالب الجمهور قد لا يكون مصوتاً لليمين الشعبوي، بل ربما لم يصوت بالأساس).

 

ثالثاً: وقفات أمام ملامح شعبوية كويتية:

١- برز أمامنا التحدي الشعبوي في العام ٢٠٠٠ عبر كتلة العمل الشعبي، التي سحبت البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية الديمقراطية كمعارضة تاريخية مع بروز الميل الليبرالي لديها… وفي المقابل أنشأ قسم من اليسار داخل المنبر الديمقراطي، وكنت أحدهم، التيار الشعبي في المنبر الديمقراطي كرد فعل، وكانت تلك محاولة لتأسيس يسار شعبوي كويتي واستمر ذلك التيار الشعبي في المنبر فترة من الوقت وعقد اجتماعات واصدر بيانات لكنه تلاشى، لأن المفقود حينذاك كان حزب الطبقة العاملة المستقل.

٢- يمكن القول بأنّ التحرك لإسقاط القروض يقدّم مثالاً نموذجيا للطرح الشعبوي في الكويت… من حيث تبسيط الموضوع والشعار والمطلب والحل…بينما نجد في المقابل أن الرأسماليين ومعهم الليبراليون ينكرون وجود المشكلة، ويرفعون في وجهها شعارات وماذا عن “العدالة”؟ …أما اليسار ممثلاً بالحركة التقدمية الكويتية فإنّه على خلاف الشعوبيين والليبراليين يبدي تفهمه لوجود مشكلة مقترضين معسرين ومتعثرين ويدعو إلى البحث عن حلول ومعالجات متنوعة.

٣- هناك أمثلة على النظرة للصراع السياسي من من منطلق شخصاني… كالخطاب السياسي التهييجي الشخصاني عند بعض أطراف المعارضة في السنوات الأخيرة الماضية وإطلاق تسميات ساخرة على الخصوم السياسيين، وهذه “فشة خلق” لا تنمي وعياً سياسياً، على خلاف ما يطرحه اليسار من أن المعارضة إنما هي بالأساس معارضة مصالح وقوى طبقية متنفذة، ومعارضة نهج وسياسات وقوانين وقرارات وليست معارضة أشخاص.

٤- وهناك مثال آخر على طبيعة النقد السياسي الشعبوي غير الجذري تجاه السلطة بالتعويل على طرف سلطوي في مواجهة طرف آخر، وتقديم أحد شخوص مراكز النفوذ المتنافسة داخل السلطة كمنقذ مع تجاهل كونه جزءا من الطبقة المسيطرة.

٥- الخطاب الشعبوي العنصري ضد الأجانب أو حتى ضد بعض فئات من الكويتيين.

٦- تقديس الزعامات الفردية وتبني موقف سلبي تجاه العمل السياسي المؤسسي المنظم.

 

رابعاً: كيف يجب أن نتعامل مع الشعبوية؟

بداية، فلعله من المهم بالنسبة لنا كيساريين أن نميز أنفسنا وتحليلنا وخطابنا وأسلوب عملنا على مستويات عدة، وليس تجاه الشعبويين فقط… وذلك عبر تمييزنا تجاه التوجهات الليبرالية والرأسمالية… وتمييزنا كذلك تجاه قوى الإسلام السياسي الرجعية الساعية لتقويض الدولة المدنية… وتمييزنا بالإضافة لما سبق عن الطرح الشعبوي التبسيطي الديماغوجي الغوغائي الانفعالي… بمعنى تمييز مضموننا الطبقي وانحيازنا الاجتماعي نحو الطبقة العاملة والفئات الشعبية والمهمشة… تمييز توجهنا الديمقراطي الحداثي العلماني.

ومن المهم أيضاً التوجه نحو الناس البسطاء وهذا يتطلب مراعاة ذلك في خطابنا السياسي على مستويات عديدة: نستوعب ونتفهم مشكلاتهم وهمومهم ومطالبهم ومخاوفهم وتحفظاتهم وتدني وعيهم السياسي… نبتعد عن الخطاب النخبوي المتأستذ الفوقي… ولكن مع مراعاة أنّ تبسيط خطابنا لا يعني الانجرار وراء التبسيط الشعبوي الضار، وإنما تبسيطه لتسهيل وصوله وتسهيل تقبله وتسهيل فهمه، مع مراعاة الدقة والموضوعية.

مع الانتباه والحذر من تقديم أنفسنا كيسار شعبوي إزاء اليمين الشعبوي، بل لعله من المفيد إبراز تناقضات الشعبويين وضيق أفقهم وعدم علميتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منصة “تقدم” – 17 أيلول 2024

عرض مقالات: