«ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات.

الحر والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقن، المعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا» (البيان الشيوعي).

«منذ ما يقرب من أربعين عاما، أكدنا على الصراع الطبقي باعتباره القوة الدافعة المباشرة للتاريخ، ولا سيما الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة  لقد صغنا صرخة المعركة صراحة: يجب ان يكون تحرير الطبقة العاملة من صنع الطبقة العاملة بالذات».

(رسالة تعميم الى أوغست بيبل وولهلم ليبكنخت وولهلم براكه وغيرهم – 17/18 أيلول 1879).

ثالثا

من الناحيتين المفاهيمية والتاريخية، يسبق “الصراع الطبقي” أي “تشكيل” للطبقات بصفتها قوى فاعلة محتملة، أو أي “وعي” ضروري للطبقة.

في دراساته عن إنكلترا في القرن الثامن عشر، أشار المؤرخ والباحث الماركسي إدوارد بيمير تومسون (1924-1993) إلى مجموعة من العمليات والعلاقات أطلق عليها “الصراع الطبقي بدون طبقة”.

بمعنى انه حدد، من خلال الممارسات الجماعية والمألوفة لفقراء القرن الثامن عشر، أشكال المقاومة الجماعية لحكامهم ومستغليهم، التي استندت إلى التناقضات المتأصلة في تطور الرأسمالية في تلك الفترة، لكنهم لم يضعوها في اطار مصطلحات “الطبقة’’.

وفي دراسته الشهيرة عن الطبقة العاملة في أوائل القرن التاسع عشر أشر تومسون الى الأساليب التي طور بها العمال الإنجليز بالفعل “إحساسا طبقيا” لموقفهم، وللعداء العام بينهم وبين البرجوازية البريطانية ودولتها.

وبالتالي يمكن القول إن ممارسة الصراع الطبقي قادت العمال إلى تشكيل أنفسهم في “طبقة” نامية وواعية. (تومسون، صناعة الطبقة العاملة الإنجليزية، 1963)

ثم يقدم لنا تومسون وصفا رائعا للسمة “العلائقية” لمصطلح الطبقة:

«أخبرنا علماء الاجتماع – بعد ان أوقفوا آلة الزمن ودخلوا الى غرفة المحرك - انهم لم يتمكنوا، في أي مكان على الإطلاق، من تحديد وتصنيف طبقة.

لكنهم تمكنوا، فقط، من العثورعلى العديد من الأشخاص ذوي المهن والدخول والمراتبية المختلفة. بالطبع، هم على حق، لأن الطبقة ليست هذا الجزء أو ذاك من الآلة، بل انها الطريقة التي تعمل بها الآلة بمجرد تحريكها – لا هذه المصلحة أو تلك، بل الاحتكاك بين المصالح المختلفة- انها الحركة نفسها، الحرارة والضوضاء الصادرة عنها.

الطبقة هي تكوين اجتماعي وثقافي (غالبا ما يجد له تعبيرا مؤسساتيا) لا يمكن تعريفها بشكل تجريدي أو منعزل، بل فقط من حيث علاقتها مع الطبقات الأخرى؛ وفي آخر المطاف، لا يمكن وضع التعريف إلا في حينه - أي الفعل ورد الفعل، التغيير والصراع…. لكن الطبقة نفسها ليست شيئًا جامدا، إنها تحدث». (تومسون، خصوصيات الإنجليز، 1965).

وفي بحثها الموسوم “ الديمقراطية في مواجهة الرأسمالية: تجديد المادية التاريخية” الصادر عام 1995، اشارت الباحثة إيلين مسكنس وود الى ان الطبقة ليست “بناء ثابتا”، إنها “عملية” و”علاقة” في آن واحد.

ونجد هنا ان تومسون ووود قريبان جدا من تصور ماركس، باستثناء أنهما لا يتطرقان بشكل مباشر الى ما طرحه ماركس عن العلاقة بين الصراع الطبقي والثورة.

رابعا

الشكل الذي اتخذه الصراع الطبقي، بالنسبة لماركس، مرتبط بطبيعة نمط الإنتاج القائم. لأننا نجد في جذور الصراع الطبقي ثنائية الاستغلال والمقاومة.

وإن ما يميز أحد أشكال المجتمع المنقسم طبقيا عن الآخر، ويحدد نمط إنتاجه، هو الشكل الاجتماعي المعين الذي يتخذه الاستغلال:

«ان الشكل الإقتصادي المتميز لاعتصار العمل الفائض غير المدفوع الأجر من المنتجين المباشرين، يحدد علاقة السيد – الخادم بصورة تنمو بها مباشرة من الإنتاج نفسه، ثم تؤثر فيه، بدورها، تأثيراً عكسياً محدداً.

ويقوم على ذلك كامل تركيبة نظام الجماعة الذي ينمو من علاقات الإنتاج نفسها، وكذلك تركيبه السياسي المتميز في الوقت ذاته. إن العلاقة المباشرة لمالكي شروط الإنتاج بالمُنتجين المباشرين – وهي علاقة يتطابق كل شكل معين من أشكالها كل مرة بصورة طبيعية مع درجة معينة من تطور شكلها الخاص بشكل طبيعي دائما مع مستوى معين من تطور نمط العمل وطريقته، وما يقابله من قوة منتجة اجتماعية – هذا هو ما نكتشف فيه على الدوام السر الأعمق والأساس الخفي لمجمل البناء الاجتماعي، وبالتالي الشكل السياسي لعلاقات السيادة والتبعية، وباختصار كل شكل خاص معين للدولة». (رأس المال، المجلد 3).

ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن «الشكل الاقتصادي المتميز» الذي يُضَخ فيه فائض العمل من المنتجين المباشرين هو فائض القيمة، فائض في شكل نقود، يتم تداولها في أسواق السلع ويراكمها حاملو رأس المال.

انه شكل من أشكال التعاون الإنتاجي الاجتماعي يتميز بعدد من التناقضات والمتضادات الأساسية.

ولا يقتصر الأمر في التناقضات والمتضادات بين “المصالح الاقتصادية”، بل تشمل أيضا تناقضات ومتضادات بين المبادئ القانونية والسياسية. فائض القيمة هو أحد أشكال “القيمة”، وهو شكل اجتماعي يتضمن إنتاج السلع وتبادلها. وهذا، كما يؤكد ماركس، يفترض بالفعل شكلاً من أشكال الحرية والمساواة بين المساهمين.

إن مبادئ السوق، التي تحتفي بها الليبرالية، هي، في الواقع، ما يسميه ماركس «الحرية والمساواة والملكية وبنتام» (رأس المال المجلد الأول – بنتام = هو جيرمي بنتام مؤسس المذهب النفعي). الرأسمالية نظام - على عكس الأنماط العبودية أو الإقطاعية - قادر على العمل عندما يكون منتجوه المباشرون أحرارا قانونيا ومتساوين أمام القانون.

ومع ذلك، لا تستطيع الليبرالية تفسير الجبل الهائل من الفوائض في بعض الأيدي جنبا إلى جنب مع الفقر المادي وانعدام الملكية بالنسبة للكثيرين. وراء وتحت الحريات والمساواة الشكلية في التبادل، يكشف ماركس عن عالم الإنتاج السفلي، حيث تنقلب هذه العلاقات.

هنا يتحول النظراء الظاهرون إلى سيد وخادم، ورأسمالي وعامل؛ هنا تصبح حرية إبرام العقود عالما من “الاستبداد”، حيث يعمل بعض الأشخاص تحت قيادة الآخرين، في ظل استمرار وتوسع ذاتي لنظام التمايز الطبقي الذي تتركز فيه الموارد الإنتاجية ومنافعها في أيدي قلة من الناس.

لا يهيمن الاستغلال على الحركة الداخلية لهذه “العلاقة” فحسب، بل تشترك معه المنافسة - بين من يملك رأس المال ومن لا يملك سوى قوة العمل - مما يجعل نمطها التنموي المركزي نمطًا قائما على “التراكم” من أجل “التراكم”.

إن شرط البقاء لكل رأس مال منتج هو الابتكار اللامتناهي في طرق استخراج فائض القيمة من العمل، وتوفير التوسع الديناميكي للرأسمالية. من ناحية أخرى، إذا أدى هذا النظام غير المسبوق إلى زيادات هائلة في الإنتاجية، وجذب العالم بأكمله، بالقوة، إلى سوق عالمي واحد متفاعل، سيغدو حينئذ نظاما لا قدرة لأي شخص على التحكم فيه. إنه ينتج في آن معا ثروات لا توصف إلى جانب الفقر المدقع، توسع شرس وانهيارات متتالية، نمو هائل للإبداع البشري ودمار البشر.

إن “ضخ” فائض القيمة، المرتبط ارتباطا وثيقا بالمنافسة، ينشئ صراعات منهجية على امتداد المجتمع بأسره.

إن حاجة رأس المال اللامتناهية إلى فائض القيمة تتعارض بشكل مباشر مع احتياجات العمل المأجور، مما يجعل “الصراع الطبقي” خاصية متأصلة في نظام العلاقات الاجتماعية هذا.

الصراع الطبقي هو شأن ذو جانبين: يجب على رؤوس الأموال أن تجد طرقا لاحتواء مقاومة العمل والتغلب عليها، ويجب على العمال أن يجدوا طرقا للخلاص من نهب رأس المال لهم.

ومع ذلك، حتى إذا نظرنا إلى الصراع الطبقي في أكثر مستوياته تجريدا أو عمومية، فهو متشابك مع دوافع تنافسية.

إذا كان أولئك الذين يلعبون دور رأس المال، كما اقترح ماركس، يشكلون رابطة أخوية فيما بينهم للتصدي للعمال، فهم يشكلون أيضا (وخاصة في فترات الأزمات)، وفي نفس الوقت رابطة من “الإخوة الأعداء” (رأس المال: المجلد 3). بينما إذا كان العمل يمثل وحدة مقابل رأس المال، فإنه ينقسم أيضا من خلال المنافسة في أسواق العمل إلى “إخوة وأخوات متعادين”.

يمكن أيضا ملاحظة مسألة واحدة تكرر، إلى حد ما، العلاقة بين الاستغلال والمنافسة على المستوى السياسي: “الشكل المحدد للدولة” داخل الرأسمالية متعدد.

نمت الرأسمالية ضمن عملية صعود وتشكل نظام عالمي من “الدول القومية” المتنافسة، مما أدى فقط إلى زيادة عدم القدرة على الحكم بشكل عام للجميع.

تشير هذه الملاحظة لـ”العلاقات الطبقية” الأساسية لنمط الإنتاج الرأسمالي إلى أن ترجمة “المصالح الطبقية” إلى فعل سياسي قد تكون دائما عملية معقدة وصعبة، بالنظر إلى أن القوى الاجتماعية المحددة على مستوى نمط الإنتاج قد صُنّفت بالفعل على أنها ممزقة داخليا بسبب التنافسات والصراعات المتبادلة.

وما يضيف مشاكل جديدة الى الموجودة أصلاً، هو ان تحديد ماركس لسببين آخرين يزيدان من صعوبة مهمة البروليتاريا في حفر القبور. أولا، تحت ضغط الأعمال الروتينية والممارسات التي تعيد إنتاج التبعية من خلال “القهر الفظ للعلاقات الاقتصادية”، ينظر العامل «من خلال التعليم والتقاليد والعادة، إلى ظروف هذا النمط من الإنتاج باعتبارها قوانين طبيعية بديهية». (رأس المال: المجلد 1).

ثانيا، هناك تأثير الأفكار للطبقة (الفئات) المهيمنة: «في كل عصر الأفكار الحاكمة هي أفكار الطبقة الحاكمة ...» (البيان الشيوعي).

عرض مقالات: