لم يكن إرتباط مفهوم الثورة بالحرية إختراعاً ماركسياً كما هو معروف، بل كان إرثاً مهما للثورة الفرنسية، التي اشاعت فكرة قيام “أغلبية الشعب” بإسقاط “الأقلية الحاكمة” وخلق مجتمع جديد. الا أن تحقيق الأغلبية اللازمة لقيام الثورة الاشتراكية صار ممكناً، حين كشفت الماركسية عن إمكانية تحول البروليتاريا من “طبقة في حد ذاتها” إلى “طبقة لذاتها”. وقد تجسدت مساهمة ماركس بذلك، في العلاقة التفاعلية بين نشاطاته المتعددة، كفيلسوف وكاقتصادي وكمنظم فذ، وتخليصه الفلسفة والاقتصادَ من الإجابات التجريدية على أسئلة عصره، عبر كشفه عن التناقض الجوهري بين علاقات الإنتاج ونمو القوى المنتجة، ودور العمل المأجور في خلق فائض القيمة وتراكم رأس المال، في مجتمع لا يملك فيه صانعو هذا التراكم شيئاً سوى أغلالهم، مما يجعلهم الأقدر، ليس على خلق الثروة، بل وأيضاً التحكم بإعادة توزيعها، من خلال إستيلائهم على مركز القرار.

نطرية ثورية

ولعب الحوار حول سبل الوصول إلى هذا المركز دوراً حاسماً في تحول الماركسية، من نظرية للعلوم الإجتماعية الى إستراتيجية للإستيلاء على السلطة. وكانت أولى الخطوات الضرورية لذلك، إن تعي البروليتاريا حاجتها للتنظيم، الذي يغيّر من طبيعة موقعها في الهرم الاجتماعي، وكذلك حاجتها لفهم طبيعة الاقتصاد الرأسمالي والمجتمع البرجوازي ودورها فيه.

وقد شهد القرن التاسع عشر، صراعاً فكرياً حاداً حول استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة، وتحول وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، والغاء جميع اشكال  التمييز الطبقي، وبالتالي الغاء البروليتاريا لنفسها، وموت الدولة كأداة للقمع، حيث لا يتبقى شيء لتقمعه. وتبلور هذا الصراع بين من سعى للتعاون مع الأحزاب الليبرالية من أجل تغيير تدريجي في المجتمع وبين من تمسك بالمقولة التي تؤكد على أن نقل وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة لا يمكن تحقيقه دون امتلاك السلطة السياسية.

بين الإصلاح والثورة

واعتمد الطرفان على الإستراتيجيات الثلاث التي تبناها ماركس في نشاطه، الدعوة للتحالف مع البرجوازية ضد الرجعية، وتبني التحالف بين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة، وأخيراً التنظيم الطبقي للبروليتاريا من أجل “تحرر الطبقة العاملة”. وانطلق بالتالي نهجان مختلفان، الإصلاحي والثوري، الأول الذي تمسك بالإستراتيجية الأولى وحذف الثورة السياسية من برنامجه واستبعد إلغاء الطبقات، والثاني الذي تمسك بالإستراتيجية الثالثة، وأكد على أن اشتداد الصراع الطبقي وزيادة عدد البروليتاريا وقوتها المعنوية سيؤدي حتماً لإنتصارها وهيمنتها على السلطة السياسية واسقاطها للرأسمالية. 

وهنا، لابد من التأكيد على أن ماركس لم يجد تعارضاً جوهرياً بين الطريقين العنفي والسلمي في الوصول الى ذلك، وهو ما جسده في خطاب ألقاه عام 1872 في لاهاي، وأشار فيه الى إمكانية تحقيق العمال في بعض البلدان، هدفهم بالوسائل السلمية. كما نظر إلى مسألة الإصلاحات المختلفة في المجتمع البرجوازي من منظور هذه الاستراتيجية، فإعتبر الإصلاحات في ظروف العمل والمعيشة، والتي تتحقق في خضم الصراع الطبقي، مهمة جداً، لانها تغير بدرجة ما، من موقع البروليتاريا بالنسبة لمركز القرار.  

غير إن ذلك لم يكن ليعني لديه، إنهاء الصراع بين البرجوازية و البروليتاريا، بل كان يعني بان مستوى “العنف” الذي سيتميز به هذا الصراع سيكون مختلفاً بإختلاف البلدان، وما تسودها من تقاليد ودرجة تطور مؤسساتها الديمقراطية، أي إنه لا يعتمد على نشاط البروليتاريا فقط بل وعلى مقاومة البرجوازية أيضاً، إنه تعبير عن ميزان القوى بين الطبقات. ولهذا كتب ماركس يقول (لا يمكن أن يكون التطور التاريخي “سلمياً” إلا إذا لم تضع السلطات أي عقبات عنيفة في الطريق. فإذا انتصرت الطبقة العاملة في إنجلترا أو الولايات المتحدة، مثلاً، وسيطرت على الأغلبية في البرلمان أو في الكونجرس، فيمكنها قانوناً إزالة القوانين والمؤسسات التي تعيق تطورها، ولن يتحول التطور “السلمي” إلى تطور “عنيف”، الا إذا ما تمرد أولئك الذين يريدون الحفاظ على النظام القديم، وصاروا أنفسهم خارجين على القانون) (1).

وحين صار الإقتراع العام حقاً للجميع، من يملك ومن لا يملك، أكد أنجلز على ضرورة قيام الجمهورية الديمقراطية، كشكل للدولة البرجوازية، يمكن في ظله خوض النضال الحاسم الاخير بين البروليتاريا والبرجوازية، مشيراً الى أن البروليتاريا، ستصّوت لممثليها وليس لممثلي الرأسماليين، رغم عدم تمكنها بعد، من تحرير نفسها (2).

الموقف من الدولة

ولم تك دعوة ماركس لتحرير العمل، عبر سحق الدولة، كأداة سياسية بيد البرجوازية، مشروطة بإستخدام العنف. كما لم يدع الى تسليم سلطة الدولة من طبقة حاكمة الى أخرى، بل قيام ثورة تحطم هذه الآلة الخاصة بالسيطرة الطبقية، حيث كتب يقول (لا تستطيع البروليتاريا، كما فعلت الطبقات السائدة وفصائلها المتنافسة المختلفة بعد تحقيق انتصاراتها، أن تستحوذ على الجسم القائم للدولة وتحركه لتحقيق أهدافها الخاصة، فالشرط الأول هو تدمير هذه القوة كأداة للحكم الطبقي. إن هذه الآلة الحكومية الهائلة، الملتفة مثل ثعبان حول المجتمع السليم بشبكاتها المنتشرة في كل مكان، نشأت في عصر الملكية المطلقة كسلاح للمجتمع البرجوازي من أجل التحرر من الإقطاع) (3).

وبناء على وجهة نظره من إعتماد الدولة على المجتمع، والتي تقضي بتغييرها عندما يتغير، لم يجد ماركس للدولة الحالية وظائف عند بلوغ الشيوعية، وخلص الى وجود فترة انتقالية سياسية بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تحّول فيها دولة ما نفسها بشكل ثوري، فترة لن تكون الدولة فيها سوى دكتاتورية البروليتاريا.

عالم اليوم 

لقد أظهر التطور التاريخي وما تعيشه المجتمعات المتقدمة صناعياً وتقنياً، من إنتاجية عمل عالية وتكنولوجيا متقدمة وتعليم متطور ومجتمع مدني فاعل، وجود استقلالية نسبية للدولة، حين تلعب دور المنظم للهيمنة داخل المجتمع الطبقي، لاسيما إذا لم تستطع إي طبقة فرض هيمنتها الكاملة والدائمة، كما هو قائم في دول الإتحاد الأوربي مثلاً. ولعل أهم ما يدل على ذلك، تحقيق مكتسبات كبيرة من خلال النضال الطبقي والسياسي المتواصل والفعال ضد الرأسمالية، سواءً في مجال الخدمات اوالحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، اوفي مواجهة شرور العولمة المتوحشة وتشويهها لدور الدولة القومية ونهبها لخيرات الشعوب وتخريبها للبيئة. ولهذا، سيوفر ذلك أمكانيات متزايدة لبناء تحالفات مختلفة، تصل الى السلطة وتحقق التغيير السلمي نحو الاشتراكية، وتحرر الدولة من القيود الرأسمالية وتطور المجتمع الى الحد الذي يمكنّه من استبدالها بالتسيير الذاتي. كما أن التوزيع العادل للدخل وتخفيض ساعات العمل وتحسين الظروف المعيشية للجميع وتنميتهم ثقافياً وضمان حق التعبير والتعددية الفكرية والسياسية، سيؤدي الى خلق قوة مادية هائلة تصون التغيير، قوة لا تستطيع البرجوازية قهرها.

وأود في الأخير أن أشير الى تهافت الإتهامات التي يسوقها الخصوم لتشويه موقف الماركسيين من السلام والديمقراطية، مستغلين ما رافق بعض الثورات الاشتراكية من “عنف”. فرغم بعض الفشل الذي منع البلاشفة، حينها، من خلق التوازن الصحيح بين ظروف الحرب الأهلية وحاجة الطبقة العاملة إلى التنوير، كانت السوفييتات وسيلة لاتخاذ القرار الحر تحت السيطرة المستمرة للناخبين فيما وُضعت المؤسسات القمعية للدولة (الجيش والشرطة) تحت سيطرتها، وكادت أن تبدأ عملية الموت التدريجي للدولة، لو حدثت ثورة اممية في بعض الدول، لاسيما تلك التي تمكنت حكوماتها من التدخل لخنق الثورة. كما أن تآكل السوفيتات وعرقلة جهود البلاشفة في خلق ديمقراطية بروليتارية في روسيا المتخلفة، لم يكن أمراً هينا، بل شهد مقاومة عنيفة من الشيوعيين، استمرت لعقد كامل، قبل أن تثنى الوسادة لستالين.

ـــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1.ماركس: المناقشات في الرايخستاغ حول القانون ضد الاشتراكيين ( 47) 1983.

2.أنجلز: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، (220) دار الفارابي 2016. 

3.ماركس : الحرب الاهلية في فرنسا (59) 1987 دار التقدم.

عرض مقالات: