إذا كان اليسار قد نشأ وترعرع في أوروبا طوال القرن التاسع عشر الميلادي دفاعا عن قيم الحداثة والتطور والمساواة والديمقراطية، في منافسة مع اليمين المحافظ المتخوف من الجماهير والمتلكئ في القبول بالمبادئ التقدمية، والمدافع عن الهرمية الاجتماعية والمؤسسات التقليدية، فإن قوى اليمين قد تأقلمت في القرن العشرين، بحيث اكتسبت القدرة على مخاطبة الجماهير من خلال إغراء الخطاب القومي والتمجيد الشعبوي، وأحيانا حتى الدعوات الكليانية. وما بينيتو موسيليني وأدولف هتلر وفرانسيسكو فرانكو ورونالد ريغان ومارغريت تاتشار ودونالد ترامب إلا بعض الأمثلة عن قوى يمينية نجحت في حشد دعم شرائح واسعة من الفئات الشعبية، متفوقة في ذلك على قوى اليسار في عقر دارها.
انطلاقا من هذا المعطى التاريخي، يطرح كتاب المفكر الأسترالي جون كين بعنوان الدكتاتورية الجديدة سؤال مستقبل الديمقراطية، في ظل ما يراه من انحراف الإجراءات الديمقراطية لخدمة مبادئ غير ديمقراطية، بل حتى لتحويلها إلى مطية لممارسة نوع جديد من السلطوية التي يقدرها أنها عصية على المقاومة، بسبب تطورها وتركيبها وقدرتها على التأقلم، بل تبرقعها بحلة ديمقراطية ساحرة. وهذا ما يدفع كين، وهو أيضًا صاحب كتاب حياة الديمقراطية وموتها الذي صدرت نسخته العربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عام 2021، إلى الاعتراف مرة أخرى بإمكانية موت الديمقراطية، والمطالبة بإعادة التدبّر في معانيها ومحاسنها وضرورة الدفاع عنها في سياق غير ملائم، تطغى عليه انحرافات السلطة وإغراءات السلطوية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقع “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” – 23 آذار 2023