بدأت الموجة الثورية عام 1848 بنضال مبهج من أجل الديمقراطية. لكنها سرعان ما انتهت إلى صراعات عنيفة بين العمال والرأسماليين، والليبراليين والاشتراكيين، والثوريين والإصلاحيين. وكان لتلك التجربة تأثير حاسم في تطور نظرية ماركس للثورة.
“شبح يطارد أوروبا – شبح الشيوعية”. هكذا أعلن ماركس وإنجلز في (البيان الشيوعي)، ذلك النص الذي استشرف الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا عام 1848. ومع ذلك، في ختام ذلك النضال العظيم، بدت أوروبا كما كانت من قبل.
لكن على الرغم من هزائمها النهائية -وفي كثير من الحالات بسبب تلك الهزائم- كانت ثورات عام 1848 نواة مكونة لتطور نظرية ماركس وإنجلز في التحول الاجتماعي. ورغم كونها غير مألوفة للماركسيين اليوم مثل الثورة الروسية عام 1917، إلا أنها جزء مهم من التاريخ يجب أن يفهمه الاشتراكيون. إنها توفر السياق الرئيسي عند قراءة كتابات ماركس أثناء وبعد الموجة الثورية. كانت هذه الثورات هي الخلفية لكتابة (البيان الشيوعي) الشهير لماركس، وأدت هزيمتها بشكل حاسم إلى صياغة نظرية ماركس عن الصراع الطبقي والثورة العمالية.
من المستحيل فهم ثورات 1848، ونهج مختلف الأطراف الفاعلة داخلها، دون إدراك بعض معالم العصر الذي جاء قبلها. كانت سنوات القرن السابع عشر، بل وحتى القرن الثامن عشر، أزمنة للثورة الاجتماعية في أوروبا والأمريكتين. ظلت الرأسمالية تنمو في مدن أوروبا القديمة، وفي عدد قليل من البلدان نمت برجوازية قوية بما يكفي لتحدي الطبقة الحاكمة الإقطاعية من أجل حكم الدولة. وكانت الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر بمثابة افتتاح هذه الموجة، ولكن الثورة الفرنسية العظمى 1789 – 1792 هي التي شكلت الحدث الأكثر حسما وإثارة للرعب للنظام القديم، إذ شهدت إعدام العائلة الملكية على المقصلة وإلغاء امتيازات النبلاء.
باعتبارها ثورة للإطاحة بطبقة أقلية حاكمة لوضع أخرى مكانها، احتوت الثورة الفرنسية على دينامياتٍ متناقضة. سعت البرجوازية الفرنسية، والمثقفون الذين تحدثوا باسمها، إلى الإطاحة بالقيود الإقطاعية الأكثر تخلفا ومخالفة للعقل، لكنهم كانوا، من أجل ذلك، بحاجة إلى مساعدة من جماهير المدن. على مدار السنوات الثلاث الجذرية من 1789 إلى 1792، دفع ضغط الطبقات الاجتماعية الأفقر بالثورة إلى المزيد والمزيد من النتائج الراديكالية. وفي النهاية، مع ذلك، قُوِّضت الثورة، وتراجعت المكاسب الأكثر جذرية.
في عام 1848، ورغم مرور ستة عقود، ظلت الثورة العظمى هي المعيار الذي كانت جميع السياسات تقاس من خلاله. المحافظون يكرهون الثورة. والليبراليون اعتقدوا أن الثورة قد تمادت أكثر مما يجب. لكن رافدا آخر من الفكر قد نشأ حول فكرة أن الثورة لم تتماد بما يكفي. كان السلف الأكثر تحديدا لهذه الأفكار هو جراكوس بابوف وحركته المسماة “مؤامرة الداعين إلى المساواة”، والتي كانت نشطة في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر. أعلن بابوف أن المشكلة لم تكن الملكية الإقطاعية فحسب، بل كانت الملكية الخاصة بشكل عام، وسعى إلى تنظيم الطبقة العاملة وفقراء المدن للنضال من أجل إلغائها. وبعد محاولة فاشلة للتمرد، قُتل بابوف. لكن أفكاره عاشت في الطبقة العاملة في باريس والمثقفين الذين تعاطفوا مع محنتهم -الأفكار التي سيطلق عليها في النهاية مصطلح الاشتراكية.
الاشتراكية، في ذلك الوقت كما هو الحال الآن، كانت تعني أشياء كثيرة لكثير من الناس. عندما دخل ماركس وإنجلز لأول مرة مشهد السياسة الراديكالية في فرنسا، كان هناك العديد من العمال الذين انخرطوا في الفكر الاشتراكي وساهموا فيه من خلال العديد من الأندية العمالية في باريس، ولكن لم يكن هناك وقتئذ نظرية اشتراكية تضم الطبقة في جوهرها.
في المقابل، كان المفكرون الاشتراكيون الرئيسيون في أوائل القرن التاسع عشر مثاليين. بالنسبة لهم، كانت المشكلة المركزية هي أن المجتمع كانت تهيمن عليه أفكار سيئة. فهم البعض هذا من منظور ديني، وكان البعض الآخر علمانيا إلى حد ما. لكن بالنسبة لهم جميعا، كانت الرأسمالية مشكلة واجهتها البشرية جمعاء، وكان على البشرية جمعاء حلها معا -وعادة ما تنطوي تلك الرؤية على مكانة خاصة للمستنيرين أمثالهم. كان على عاتق ماركس وإنجلز كسب الحركة الاشتراكية إلى منظور مادي للصراع الطبقي. لقد أمضى الرفيقان السنوات التي سبقت عام 1848 في جدالات مريرة ومناقشات ومعارك تنظيمية من أجل القيام بذلك.
لكن لم يكن الراديكاليون وحدهم هم من كانوا يحاولون اكتشاف الطريق إلى الأمام. كانت هناك أيضا اختلافات في الرأي بين أولئك الذين دعموا الرأسمالية. كانت هناك انقسامات داخل الطبقة الرأسمالية نفسها، لا سيما بين أغنى وأقوى الرأسماليين من ناحية، أولئك الذين توصلوا في كثير من الأحيان إلى تفاهم متبادل المنفعة مع حكام بلادهم، ومن ناحية أخرى الرأسماليين الأصغر، الذين واجهوا عوائق تحول دون قدرتهم على التأثير على الحكومة، أو إحرازهم التقدم الاجتماعي الذي يناسب طموحهم.
انعكس هذا الانقسام المادي في الطبقة الرأسمالية في صورة انقسام سياسي. من ناحية، كان المحافظون البرجوازيون يتحدثون نيابة عن أكبر الرأسماليين. لقد أرادوا الحرية للأعمال والصناعة، لكنهم لم يهتموا بتوسيع الديمقراطية حتى لتشمل الرأسماليين الآخرين، إذ كان من الأفضل لهم لو كانوا وحدهم من يشاركون في صنع القرار. ومن ناحية أخرى، كان البرجوازيون الليبراليون والديمقراطيون يتحدثون باسم الرأسماليين الأصغر والمهنيين والطبقة الوسطى. أرادت هذه الشرائح أولا وقبل كل شيء: الحق في التصويت والمشاركة في الحكومة بأنفسهم، وبالتالي دعموا تمديد امتياز المشاركة في صنع القرار. لكن ليس إلى حد إشراك الجماهير الشعبية، التي ظلت أشباحها في الثورة الكبرى تراود كوابيسهم.
ربما لم يكن جناحا السياسة البرجوازية متفقين على الكثير من الأمور، لكنهما كانا متأكدين من شيء واحد: أنهم لم يرغبوا في ثورة أخرى. لكنها كانت قادمة على أية حال.
لم يكن ماركس وإنجلز الوحيدين اللذين توقعا تصاعد المد الثوري. ففي فرنسا، حذر السياسي الليبرالي ألكسيس دي توكفيل زملاءه عشية نضالات عام 1848: “نحن ننام سويا في بركان … رياح الثورة تهب، والعاصفة تلوح في الأفق”.
لم يكن البركان في فرنسا كما كان عام 1789 وقتما كان التناقض يكمن بين الطبقة الرأسمالية الناشئة والدولة الإقطاعية القديمة. إنما كان النظام المسمى بملكية يوليو -في عام 1848- واضحا في ولائه الكامل للطبقة الرأسمالية، وخاصة الرأسماليين الكبار في القطاع المالي. ملأ الملك لويس فيليب حكومته بمصرفيين مثل كاسيمير بيرييه، الذي عُيّن رئيسا للمجلس. وبدلا من الصراع الطبقي بين البرجوازية الصاعدة والطبقة الإقطاعية الحاكمة، كانت الصراعات السياسية تختمر بين الطغيان والاستبداد المتزايد للدولة البرجوازية المحافظة، ورغبات الإصلاحيين الليبراليين.
كانت القصة مختلفة في بقية أوروبا القارية. طرح النجاح الاقتصادي والعسكري للدول الرأسمالية بشكل كامل، بريطانيا وفرنسا، مسألة التحديث. لكن القوى العظمى في أوروبا -إمبراطورية هابسبورج النمساوية والإمبراطورية الروسية ومملكة بروسيا التي هيمنت على ألمانيا- أجابت على السؤال برفض حاسم. حتى المعارضة الليبرالية، التي لم تطالب بأكثر من ملكية دستورية وعقلنة للقوانين، خضعت للقمع.
كانت القضية الوطنية إشكالية إضافية في هذه البلدان. في السابق، ادّعت الأنظمة الإقطاعية في جميع أنحاء العالم شرعيتها للحكم من خلال الحق الإلهي. لكن الثورات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا تحدّت هذا الافتراض. وبدلًا من الحق الإلهي، طرحوا “إرادة الأمة”. القومية مفهوم برجوازي تماما. إذ يُستخدم من قبل الطبقة الحاكمة الرأسمالية لمحاولة توحيد الأشخاص الذين لديهم مصالح طبقية مختلفة على أساس لغة أو عرق مشترك. لكن القومية يمكن أن تكون أيضا إطارا للمضطهدين للتعبير عن صراعهم ضد قوة أجنبية. وفي عصر الملكيات الإقطاعية التعسفية والخرافية، كان إنشاء دولة قومية رأسمالية بقوانين وحقوق يمثل في كل الحالات قفزةً كبيرة إلى الأمام.
هذه الضغوط القومية دعت للانقسام مثلما دعت للوحدة. في الإمبراطورية النمساوية، سعى المجريون والتشيكيون إلى الحق في الانفصال وإقامة الحكم الذاتي وحتى الاستقلال. أما في ألمانيا، من ناحية أخرى، سعى القوميون البرجوازيون إلى توحيد الشعب الألماني في إمبراطورية واحدة، واجتثاث خليط الإمارات الإقطاعية لإنشاء دولة واحدة ذات إطار قانوني وتنظيمي واحد. في المدن-الدويلات الإيطالية، وتحت السيطرة المباشرة أو الضغط غير المباشر للنمساويين، عملت في كلا الاتجاهين: الاستقلال عن هابسبورج، والوحدة مع المدن-الدويلات الإيطالية الأخرى في شبه الجزيرة.
كانت أولى انتفاضات 1848 أحد هذه الثورات القومية البرجوازية في صقلية، لكنها سرعان ما طغى عليها مركز الثورة القديم في أوروبا: فرنسا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ترجمة: محمد محروس عن: موقع “ريد فلاج” (الراية الحمراء) الأسترالي – 24 تشرين الثاني 2021