“عندما تصعد وتنزل الدرج يمكنك أن تتمسك بالدرابزين كي لا تقع، لكننا فقدنا هذا الدرابزين. أنا أفكر بهذه الطريقة، وهذا ما أحاول أن أفعله في حقيقة الأمر. فأنا لا أؤمن بأي عقيدة سياسية محددة، ولا أمتلك أي فلسفة سياسية يمكن أن تتماهى مع أي مدرسة فكرية. أنا آخذ ما أستطيع أخذه وما يناسبني”.

انطلاقاً من هذه الحرية المطلقة، ترى حنه أرندت أن كل كائن إنساني هو كائن مفكر وقادر على التأمل والتفكير الذي يودي بالقواعد الصارمة والأفكار العامة، مخضعاً جميع الأفكار السابقة إلى التمحيص النقدي.

تأسيساً على هذه الحرية وهذا التفكير، تطرح أرندت في “التفكير الحر” (ترجمة مالك سلمان، دار الساقي 2022) أفكارها في الحرية والسلطة والاستبداد والثورة في مواجهة الشمولية التي تمثل شكلاً جديداً من أشكال الحكم في العالم، حيث اعتقد هتلر وستالين أن أهدافهما متطابقة مع الطبيعة والتاريخ، بينما النشاط الفكري في رأيها هو الشرط الأساسي لفهم الحوادث، والتمتع بالحرية هو الهدف النهائي للثورة السياسية إزاء الوحشية والفساد الإداري والظلم الاجتماعي والبيروقراطية.

أما التمتع بالحرية السياسية فيتمثل في القدرة على الفعل والكلام وتعبير المواطنين عن آرائهم ونقاشاتهم العلنية. فالناس أحرار في سياق الفعل وليس قبله أو بعده، فأن تكون حراً يعني أن تكون منخرطاً في الفعل، على عكس الاستبداد الذي ميزته الرئيسة إلغاء الفضاء العام حيث يمكن للمرء الظهور والتعبير عن آرائه، وإبعاد أفراد الشعب عن “السوق” وإعادتهم إلى الحياة المنزلية الخاصة.

الحرية والسياسة

الحرية، وفق أرندت، هي السبب المبرر لوجود السياسة في حياة الإنسان الجماعية، إذ إنها تدرك من خلال التعاطي مع الآخرين، فليس ممكناً التمتع بالحرية إلا في عالم السياسة والفعل، وليس ممكناً الكلام على السياسة دون الحديث عن الحرية، كما لا يمكن الحديث عن الحرية دون الحديث عن السياسة.

إلا أنه لا يمكن للحرية أن تتجسد في عالم إنساني لا يكون مسرحاً للفعل السياسي، كما هي الحال في ظل الأنظمة الاستبدادية التي تنفي رعاياها إلى فضاءاتهم المنزلية، إذ من دون فضاء عام مضمون سياسياً تفتقر الحرية إلى واقع دنيوي يؤمن ظهورها.

ولكن بعدما شهدنا أشكال الهيمنة الشاملة، نشأ الاعتقاد الشائع أن أفضل طريقة للقضاء على الحرية تتمثل في التسييس الشامل للحياة، وعندها لا يقتصر شكّنا على تزامن الحرية والسياسة بل يطال حقيقة ترابطهما معاً، فكلما انحسرت السياسة استطالت الحرية، وكلما تضاءل الفضاء السياسي تضخم المجال المتروك للحرية.

وترى أرندت أن السياسة مرتبطة بالحرية فقط بقدر ما تضمن التحرر الممكن من السياسة، والمجال الحر الذي تمنحه للأنشطة غير السياسية، الاقتصادية أو الأكاديمية أو الدينية أو الثقافية والفكرية.

فالهيمنة الكاملة للحكومات الشمولية هي بمثابة ظهور الشر الأساسي في العالم، لأن التعددية الإنسانية تشكل قانوناً كونياً، وكل من يخرق هذا القانون يفقد حقه في العيش في ظله.

تتطرق أرندت إلى السلطة وأشكالها التاريخية والاختلاط القائم في الفكر السياسي بينها وبين الاستبداد، ترى أن أشكال الحكم الاستبدادي والسلطوي قديمة جداً، وتعود إلى العصور اليونانية القديمة، أما الهيمنة الشمولية فهي جديدة.

فثمة خلط بين السلطة والاستبداد وبين السلطة والعنف، بينما هناك اختلاف كبير بينهما، حيث الطاغية في النظام الاستبدادي يحكم تبعاً لإرادته ومصالحه، بينما يبقى أشرس أنواع الحكم السلطوي خاضعاً لقوانين خارجية أعلى من سلطته نفسها، يستمد منها شرعيته كما هي الحال بالنسبة إلى قانون الطبيعة أو “الوصايا الإلهية”، ويعمل القائد الشمولي على تبرير إجراءاته بدافع من ضرورتها للحرية كما هو يفهمها، حتى يمكن القول إن كل من يخلطون بين الشمولية والسلطوية يساوون ضمنياً بين العنف والسلطة، حيث يتم توظيف العنف للتدليل إلى استحالة قيام أي مجتمع خارج الإطار السلطوي.

أما لجهة مفهوم “الثورة”، فالثورات ظاهرة جديدة نسبياً، في رأي أرندت، إذ قبل القرن الثامن عشر كانت كلمة “ثورة” غريبة عن مفردات النظرية السياسية، وقبل ثورتي فرنسا وأميركا لم يحدث شيء بهذه العظمة والأهمية، ولم تستخدم كلمة ثورة إلا ليلة الرابع عشر من تموز 1789. لكن الثورة تبقى كلمة فارغة إذا هي اقتصرت على التحرر من الاستبداد فحسب ولم تتعدّه إلى التحرر من العوز والفاقة وحل المشكلة الاجتماعية وتحقيق المساواة. وبهذا تتفق أرندت مع كوندورسه (فيلسوف فرنسي) في أن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي تهدف إلى تحقيق الحرية في كل أشكالها السياسية والاجتماعية.

كتاب أرندت في ترجمته العربية يأتي في أوانه، حيث اختلاط المفاهيم والمصطلحات ظاهرة إشكالية متمادية في خطابنا السياسي العربي، وهو يشكل بطروحاته الجديدة والجذرية إضاءة على جوانب من هذا الخطاب لا تزال في عداد الملتبس أو المسكوت عنه، كما يشكل، في الوقت نفسه، إسهاماً مهماً في تعزيز مسألة الحرية ودور التفكير المركزي في إرسائها. ولا بد من التنويه بترجمة الكتاب التي تميزت، على عكس الكثير من الترجمات الراهنة، بالوضوح والسلاسة والنقل الدقيق لأفكار المؤلفة وطروحها الأيديولوجية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“النهار العربي” – 28 كانون الأول 2022

عرض مقالات: