في حوارحول اليسار والانتخابات الأميركية عام 2018 بين الباحثين نانسي فريزر وأندرو أراتو، جادلت نانسي فريزر بأن «الليبرالية (الجديدة) والفاشية [...] وجهان مترابطان بعمق للنظام الرأسمالي العالمي». وبالتالي، بدون يسار ثوري «لا يمكن لدوامة “التنمية” الرأسمالية إلا أن تولد قوى ليبرالية وقوى مضادة استبدادية، مرتبطة معا في تكافل منحرف». وبهذا المعنى ، فإن فوز ترامب يتحدث عن تحول الى نظام سلطوي استبدادي بدلاً من نظام نيوليبرالي متداع. هذه الرؤية أو هذا التحليل السياسي للوضع الحالي يتقاسمه العديد من الماركسيين الأميركيين. ونجد اليوم إن حجم التفاعل النقدي مع ماركس هائل، لكن الخطر يكمن في الإكتفاء بالحديث عن ماركس والانخراط في أفكاره دون التأكيد على ضرورة القيام بفعل يجسد هذه الأفكار. بكلمة أخرى الإكتفاء بالقول أن مؤلف (رأس المال) لماركس هام جدا وقد يكون أكثر صلة من أي وقت مضى بالاوضاع الحالية، ولكن ... لنتذكر ان ماركس وانجلز عندما استنتجا في وقت مبكر من تحليلهما لنمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع البرجوازي أن «كل ما كان تقليديا ثابتا يطير ويتبدد كالدخان، وكل ما كان مقدسا يعامل باحتقار وازدراء، ويضطر الناس في النهاية إلى النظرالى ظروف معيشتهم وعلاقاتهم المتبادلة بعيون يقظة لا تخشاها الأوهام» (البيان الشيوعي)، كانا مدركين لحقيقة أن هذا لا يضمن بأي حال من الأحوال أن الناس سوف يفعلون ذلك بالفعل. فطالما ثمة غياب للذات الثورية تبقى المعالجات الماركسية مجرد تنظير.
ان محاولة تقديم نظرة جديدة على العلاقات بين ماركس والماركسية والولايات المتحدة، لا تروم تقديم إجابة على سؤال قديم: لماذا لم تكن هناك اشتراكية في أمريكا؟. ولا نسعى ايضا الى تقديم عرض تاريخي شامل للحركات الاجتماعية الماركسية. ولكن يبدو ان من المفيد، بل ومن الضروري، إجراء مسح وتفسير لظاهرة الشكوك الواسعة الانتشار، ورفض و/أو التنصل من ماركس عندما يتعلق الأمر بأميركا. وبالتالي فإن المسعى هنا يتمثل في القول بعدم وجود “استثنائية أميركية” تمنع النظر الى تاريخ الولايات المتحدة ومجتمعها وثقافتها من منظور ماركسي نقدي.
تعود علاقة ماركس بالولايات المتحدة الى العقد السادس من القرن التاسع عشر عندما عمل كمراسل أوروبي لصحيفة “نيويورك ديلي تريبيون” وكذلك الى اهتمامه بالحرب الأهلية الأميركية والعبودية التي وجدت تعبيرا عنها في رسالة ماركس الشهيرة إلى “أبراهام لينكولن، ابن الطبقة العاملة البار” (سأنشر نص الرسالة في مناسبة أخرى). حيث هنأ ماركس الرئيس لينكولن على هزيمة القوات الكونفدرالية. وكان للمهاجرين الألمان الثوريين الذين وصلوا الى أميركا بعد عام 1848 دور كبير في نشر أفكار ماركس والماركسية وتشكيل الحركة العمالية في الولايات المتحدة. وحسبنا ان نذكر بعض الكتب التي عرضت بشكل رائع سردا تاريخيا لجيل 1848 خصوصا في شيكاغو ونيويورك: كتاب بول بوهلي “الماركسية في الولايات المتحدة” (1983)، وكتاب بروس ليفين “روح عام 1848: المهاجرون الألمان، والصراع العمالي ونشوب الحرب الأهلية” (1992)، وكتاب روبن بلاكبيرن “ماركس ولينكولن: ثورة غير منتهية” (2011). وعلى رغم من محاولة البعض أحيانا تصوير أتباع ماركس الأمريكيين- الألمان بأنهم متحيزون للبيض من النقابيين، إلا ان حقائق التاريخ تقول عكس ذلك. فعندما ساهم يوسف فيديماير الصديق والرفيق الحميم لماركس في تأسيس رابطة العمال الأمريكية في شيكاغو عام 1853، نجد ان الإعلان التأسيسي لمبادئ الرابطة تضمن أن «جميع العمال الذين يعيشون في الولايات المتحدة بغض النظر عن المهنة أو اللون أو الجنس يمكن أن يصبحوا أعضاء». وهي صيغة تبدو تقليدية تماما في ايامنا الحالية. لكنها كانت بمثابة المرة الأولى التي تتبنى منظمة عمالية صيغة تبين نقدها ورفضها للتمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس، وتتضمن في طياتها دعوة لإلغاء العبودية.
من عام 1852 إلى عام 1862، كتب ماركس العديد من المقالات لصحيفة نيويورك ديلي تريبيون، الصحيفة الأكثر انتشارا في العالم آنذاك، حلل فيها الصراعات السياسية الدائرة في العالم مثل حرب القرم والانتفاضة الهندية والمسألة الأيرلندية والحرب الأهلية الأمريكية. وفي الاخيرة أصر ماركس، على سبيل المثال، على أن الولايات الحدودية «حيث يوجد نظام العبودية ونظام العمل الحر جنبا إلى جنب والصراع بينهما على الهيمنة [هو] ساحة المعركة الحقيقية بين الجنوب والشمال، بين العبودية والحرية» وأن «الحرب التي تشنها الكونفدرالية الجنوبية، هي بالتالي ليست حربا دفاعية بل هي حرب غزو، تهدف إلى توسيع نطاق العبودية وإدامتها». وقد كان لتحليلات ماركس السياسية على الحرب الأهلية في صفحات صحيفة تريبيون، وبعد ذلك في صحيفة “الصحافة” النمساوية، دور أساسي في إقناع العمال على جانبي المحيط الأطلسي بأن المعركة حول يوم العمل وضد الاستغلال مرتبطة بالضرورة بالنضال ضد العبودية. وفي (رأس المال)، المجلد الأول يكتب ماركس: «في الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية، ظلت كل حركة عمالية مستقلة في حالة شلل طالما كان الرق يدنس جزءاً من أرض الجمهورية. فالعمل ذو الجلد الأبيض لا يمكن ان يتحرر بينما العمل ذو الجلد الأسود موصوم بالعار».
لقد كان لماركس وانجلز بفعل مراسلات الأول مع رفاقه الألمان الذين هاجروا الى الولايات المتحدة في اعقاب فشل ثورة 1848، وبفعل امتلاك الاثنين منهجية متماسكة للممارسات الثورية في عصرهما، امكانية القراءة الجيدة للتوترات السياسية في أميركا، ودور كبير في إقناع «الطبقات العاملة» لدعم القضية الجمهورية، و«النضال الذي لا مثيل له من أجل إنقاذ عرق مقيد وإعادة بناء عالم اجتماعي» (رسالة ماركس الى ابراهام لنكولن). وعندما وصلت حقبة الكونفدرالية «الى نهايتها»، كتب ماركس رسالة إلى إنجلز بتاريخ 25 تموز 1877، يسأله: «ما رأيك في عمال الولايات المتحدة؟» وأجاب على السؤال بنفسه:
«هذا الانفجار ضد الأولغارشية المرتبطة برأس المال الذي نشأ منذ الحرب الأهلية سيتم إخماده بالطبع، لكنه يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لتأسيس حزب عمالي جاد في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، هناك ظروف مناسبة لذلك. إن سياسة الرئيس الجديد ستحول الزنوج إلى حلفاء للعمال، كما أن عمليات المصادرة الكبيرة للأراضي (وخاصة الأراضي الخصبة) لصالح السكك الحديدية والتعدين وما إلى ذلك، ستحول مزارعي الغرب، الذين يعيشون الآن حالة احباط، إلى حلفاء للعمال. وهكذا فإن الفوضى العارمة تلوح في الأفق هناك، وربما قد يتبين ان نقل مركز الأممية إلى الولايات المتحدة كان خطوة مناسبة بشكل غريب».