ما حدث في رئاسيات عام ٢٠٢١ هو خاتمة لسبع دورات انتخابية رئاسية متتالية بدأت بمفاجأة، ففي العام ١٩٨٨، سئل التشيليون إذا كانوا يريدون بقاء بينوشيه على كرسي الرئاسة لثماني سنوات إضافية، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها بينوشيه ولا حتى خصومه، أن الشعب رفض له هذا «الحق» بنسبة ٥٦ في المائة.

بات من الضروري انتخاب رئيس جديد. وهكذا تحول «اللقاء التشاوري للأحزاب من أجل الديموقراطية» المعارض لبقاء بينوشيه في الحكم، إلى ائتلاف سياسي قوامه «الحزب الديموقراطي المسيحي» و«الحزب الاشتراكي» وأحزاب أخرى. فاز مرشحو «اللقاء التشاوري» بأول أربعة انتخابات رئاسية: باتريسيو ألوين وإدواردو فري عن «الحزب الديموقراطي المسيحي»، ثم ريكاردو لاغوس وميشيل باشليه (أول امراة تنتخب لرئاسة الجمهورية في تاريخ تشيلي) عن «الحزب الاشتراكي». وانتظمت الحياة السياسية حول ائتلافين أساسيين: «اللقاء التشاوري» وهو ائتلاف الوسط واليسار، و«إلى الأمام تشيلي» المؤلف من حزبين يمينيين وفّرا الدعامة المدنية للديكتاتورية العسكرية. وكانت أول مرة ينجح فيها مرشح الائتلاف اليميني، سيبستيان بينييرا، في عام ٢٠١٠ بعد خروج باشليه من الحكم. ثم عادت باشليه إلى الرئاسة عام ٢٠١٤، تلاها بينييرا مجددا عام ٢٠١٨.

الجديد في انتخابات ٢٠٢١ أنّ نظام الائتلافين اللذين تناوبا على السلطة ترهل وانتهى. لقد دلّ ما حدث خلال العقد الأخير على أن المشاكل تتراكم من دون أن تتقدم الحلول، وترسّخت القناعة بأن القيد الذي يكبل المجتمع دستوريا ونظاما فقد وظيفته. فعلى سبيل المثال، كان «الحزب الشيوعي» وحلفاؤه اليساريون والبيئيون يؤيدون دائما مرشح «اللقاء التشاوري»، إما في الدورة الأولى أو الثانية عندما يكون لديهم مرشح آخر. وشارك «الشيوعي» مع أحزاب «اللقاء التشاوري» في الأكثرية التي رشحت باشليه عام ٢٠١٤، وشارك في الحكومة. عام ٢٠١٧، تأسس ائتلاف يساري جديد حمل اسم «الجبهة العريضة»، وهو مؤلف من أحزاب معارضة لـ«نظام الائتلافين» ومن أحزاب جديدة وليدة الحراك الطلابي. وفي انتخابات ٢٠١٨ الرئاسية، رشحت «الجبهة العريضة» صحافية لموقع الرئاسة فنالت أكثر من ٢٠ في المائة من الأصوات، الأمر الذي سمح بتشكيل كتلة برلمانية وازنة. وتبلور «الخيار الثالث» كقوة فاعلة، وصار الشيوعيون و«اليسار الجديد» يعملان معا في الحراك الطلابي، في معارضة بينييرا وفي «الانفجار الاجتماعي». واقتربت «الجبهة العريضة» من «تشيلي الكرامة» (الإطار الذي ينشط «الحزب الشيوعي» من خلاله) واتفقتا على ترشيح لائحة موحدة حملت اسم «أؤيد الكرامة» لانتخابات المجلس التأسيسي، وتقدمت الكتلتان لأول مرة على مرشحي «اللقاء التشاوري». وصارت «أؤيد الكرامة» ائتلافا سياسيا رشّح غبريال بوريتش للانتخابات الرئاسية.

في الانتخابات الرئاسية، تنافس بوريتش مع مرشحَي الائتلافين التقليديين ومع خوزي أنطونيو كاست، المرشح عن ائتلاف «الجبهة الاجتماعية المسيحية» (اليمين المتطرف) الذي حاول أن يكرر تجربة دونالد ترامب الأميركية أو جايير بولسونارو البرازيلية واعدا بإعادة الأمن إلى تشيلي، كما تنافس مع ثلاثة مرشحين صغار من اليمين واليسار. وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية منذ عام ١٩٨٨، لم يصل أي من مرشحي الائتلافات الكبيرة إلى الدورة الثانية. حلّ المتطرف كاست أول بـ٢٧،٩ في المائة، وبوريتش ثانيا بـ٢٥،٨ في المائة، وتأهلا إلى الدورة الثانية. وحل مرشح «إلى الأمام، تشيلي» رابعا بأقل من ١٣ في المائة من الأصوات، وحلت مرشحة «اللقاء التشاوري» في المرتبة الخامسة بأقل من ١٢ في المائة من الأصوات.

شكلت نتائج الدورة الأولى صدمة كبيرة للائتلافين التقليديين معلنة نهاية حقبة إمساكهما بمجمل المشهد السياسي. لكن الصدمة طاولت أيضا كل الديموقراطيين بسبب تقدم كاست الذي لم يكن بارزا في استطلاعات الرأي والذي استثمر مواقفه العنصرية ضد اللاجئين الفنزويليين. أما بوريتش فبالرغم من تأهله، جاءت النتائج محبطة له إلى حد ما لأنه كان يتصدر كل استطلاعات الرأي ولأن التاريخ الحديث يعلّم أن من يتصدر الدورة الأولى يفوز دائما في الدورة الثانية. وتحسبا للأخيرة، توجه المرشحان المؤهلان إلى الوسط وليّنا مواقفهما، فيما اصطفت الأحزاب حسب ميولها السياسية وائتلافاتها. أيدت كل أحزاب اليمين واليمين الوسط المرشّح كاست، فيما أيدت كل أحزاب اليسار ويسار الوسط بوريتش. وانفرد «الحزب الديموقراطي المسيحي» بين أحزاب اليمين واليمين الوسط بتأييد بوريتش وانتقل إلى «المعارضة البناءة» معلنا انتهاء «اللقاء التشاوري» بعد تجربة دامت أكثر من ثلاثة عقود. في الدورة الأولى، كان مجموع أصوات اليمين يفوق أوساط اليسار بحوالي خمسمائة ألف صوت. لكن ارتفعت المشاركة بين الجولتين بمليون ناخب، ويبدو أن الأكثرية الساحقة منحت أصواتها إلى بوريتش الذي نال في الجولة الثانية ٥٦،٨ في المائة من الأصوات متخطيا كاست بحوالي تسعمائة ألف صوت.

بقيت مهمة تشكيل الحكومة: بعد انتقال «الحزب الديموقراطي المسيحي» إلى المعارضة، تشكل ائتلاف جديد باسم «الاشتراكية الديموقراطية» مؤلفا من أربعة أحزاب من اليسار واليسار الوسط أبرزها «الحزب الاشتراكي» وانضمت إلى الأكثرية الجديدة. وتألفت الحكومة من ٢٤ وزيرا، بينهم ١٤ امرأة. نالت «أؤيد الكرامة» نصف الحقائب وتوزع باقي الحقائب على الكتلة «الاشتراكية الديموقراطية» و«الحزب الاشتراكي» والمستقلين. وتولت حفيدة ألليندي وزارة الدفاع وعيّنت قيادية في «الحزب الشيوعي» ناطقة باسم الحكومة.

يسار متجدد

ملاحظات ختامية:

أولا، مع انتقال «الديموقراطي المسيحي» إلى المعارضة خسر بوريتش التعادل مع مقاعد اليمين في مجلسي النواب والشيوخ، لكنه كسب تجانسا أكبر في أكثريته.

ثانيا، كان تعيين حاكم المصرف المركزي (الذي خدم في ولايتي باشليه وبينييرا) وزيرا للمالية محاولة لكسب ثقة الأسواق والنخب المالية لئلا تخرب كل إمكانية للتغيير، بعدما صرح بوريتش خلال الجولة الأولى بأن «مشروعه هو تحويل تشيلي من مختبر النيوليبرالية إلى مقبرتها».

ثالثا، تتألف النواة الصلبة في الحكومة من «الثلاثي» الذي أحاط بالرئيس المنتخب خلال الحملة الانتخابية ويحيط به الآن في الحكم. وهي تضم الأمين العام لرئاسة الجمهورية جورجيو جاكسون، مهندس «الجبهة العريضة» ومؤسس حزب «الثورة الديموقراطية»، والأمينة العامة لمجلس الوزراء كاميلا فاياخو، القائدة الطلابية والنائبة الشيوعية، ووزيرة الداخلية إيزكيا سيشيس، نقيبة الأطباء السابقة وقائدة طلابية شيوعية سابقة. يجمع بين هؤلاء — ومعهم الرئيس بوريتش — أن أعمارهم تتراوح بين ٣٤ و٣٦ عاما، وقد تعرف بعضهم إلى بعض في الحراك الطلابي عام ٢٠١١، وانتُخبوا نوابا خلال دورتين متتاليتين ولم يتوقفوا يوما عن التنسيق في ما بينهم حتى عندما كانوا في أحزاب وائتلافات متمايزة.

إنهم «جيل» يساري متجدد. إنهم وجوه «الخيار الثالث» الذي أصبح الخيار الأول. إنهم تجربة اشتراكية حضنها باكرا بطريرك اليسار في أميركا اللاتينية، رئيس أوروغواي السابق بيبي موخيكا الذي يقول عنها بأنها ستأتي بـ«رياح نقية» ليسار أميركا اللاتينية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صحفي لبناني

مجلة “بدايات” – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: