لا يمكن أن يوجد إنسان بدون رأي، وبدون موقف، أو بدون سؤال، أو مجموعة من الأسئلة التي تؤرّقه، وتقضّ نومه.

هذا القلق، هو طبيعة إنسانية، يرتبط بما نعيشه ونراه، وما يواجهنا من أفكار وقضايا في حياتنا العامة والخاصة، وهو قلق مشروع، لأنه قلق حيوي، رغم ما قد يتركه فينا من تشنجات أو انزعاج، بل ربما، هو الحياة نفسها ونحن نعيشها بالفكر والوجدان، ولا نكون عالة عليها، تمر الأيام فوق رؤوسنا، وكأننا لا نراها، أو لا ترانا.

الرأي والموقف والسؤال الذي يهمني هنا، هو رأي وموقف وسؤال النخب، بمختلف أطيافها وألوانها وطبقاتها، وما لها من دور، أو تأثير في الرأي العام، إما بالخطاب والظهور الإعلامي المتكرر في وسائل الإعلام المتنوعة، إذا كانت طبعا متنوعة، وإما بالدرس والكتابة والتأليف والنشر، وإما بالسياسة، التي لا يمكن تجريدها من المعرفة والثقافة، لا السياسة التي هي سياسة بدون عقل وفكر وخيال، أو كما أملى طه حسين في مقالة من مقالاته التي كان مواظباً على نشرها في الجرائد المصرية آنذاك، بشأن العلاقة بين العلم والسياسة، وحرية كل منهما، «ومتى رُدّ إلى العلم حريته، ستُردّ إلى السياسة حريتها أيضاً».

هل مقبول أن تبقى النخب صامتة تتفرج على ما يجري حولها، لها رأي، ولا تبديه، ولها موقف، ولا تعبر عنه، ولها سؤال، ولا تطرحه، وحتى حين يُطلب منها أن تبدي رأيا أو موقفا، فهي إما تعتذر، أو تتكلم بكلام غامض، لا تستطيع أن تستشف منه موقفاً، يكون بأكثر من وجه ولا وجه له، وبأكثر من لون ولا لون له. وهل يُعقل أن يصير الرأي والموقف مطلبا، في الوقت الذي كانت فيه الآراء والمواقف متاحة، وكانت تعبيرا، ونقدا، وقولا بالجهر، لا قولا بالقهر.

حين استشهدتُ بطه حسين، كنت أحيل على عالم، وعارف، وأديب، كانت السياسة والثقافة والمجتمع، جزءا من فكره، ومن كتاباته، التي لم تقتصر على الكتب، بل كانت تصدر في الصّحف، وهو نفسه كانت له جريدة، هي جريدة «الوادي»، ولم يكن يترك قضية، أو فكرة، أو سؤالا، أو مشكلة، إلا طرحها، وخاض فيها، وعبر فيها عن نقده، ورأيه، وحدد موقفه منها، وقاله بدون مراوغة أو مداورة، ولم يدّع أن وظيفة ودور، أو فضاء العالم والأستاذ الجامعي، أو العميد، هو الأكاديمية، وغير الأكاديمية لا يعنيه.

ولن أخرج عن سياق الموضوع، إذا أنا أحلت على محمد عابد الجابري، الذي كان أستاذا، وكان مفكرا، له مشروعه الفكري الذي كرس له عمره، بكل ما يمكن أن نلاحظه عليه، أو ندلي به من رأي وموقف، فهو كان، في غمرة انشغالاته الفكرية، يكتب في الصحف الجرائد والمجلات العربية، وعمل في الصحافة، وبقي ينشر في الجرائد، ويقول رأيه، دون مراوغة، إلى أن فارق الحياة، أو فارقته الحياة.

لا يمكن، للرأي أن يكون صامتا، متكتما، مخنوقا، موجودا دون أن يسفر عن وجوده، أو يظهر للناس، أو يظهر بغير ما ينتظره الناس، والرأي هو تعبير عن قلق وانشغال، وهو لون، وليس كلاماً رمادياً لا نلوي فيه على شيء، وهذا هو الغالب عند الكثير من هذه النخب، من أساتذة، وكتّاب، ومفكرين، ومثقفين، وسياسيين، رغم أن السياسيين مثل الحرباء، جلودهم تتبدل وتتغير في اليوم الواحد، بحسب ما يقعون عليه من أصباغ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«المساء» المغربية – 18 أيلول 2022

عرض مقالات: