فتح العلم أمام البشرية أبوابا جديدة للتقدم ولانتاج المزيد من الثروة, وأخذ عالميا يزداد ثراء، ومع ذلك فإنه يزداد أيضا هشاشة. سعى الفكر الاشتراكي في كل مراحله وممارساته الي الإمساك بالأسباب الجذرية للتفاوت المتزايد في ثروات البشر رغم الوفرة التي تزداد كل يوم، والتي تواكب، ويا للمفارقة، زيادة الفقر.

وتابعنا على امتداد تاريخ الانسانية ذلك الصراع الذي لم يكن نادرا أن يؤدي لاندلاع الحروب، وكانت جذوره غالبا ما تضرب في أرض الانقسام الطبقي، وهو الانقسام الذي أدى الي استحواذ فئات قليلة علي غالبية الثروات. وبطبيعة الحال استماتت هذه الفئات في الدفاع عن امتيازاتها، وتراكمت عبر تاريخ الانسانية الادبيات التي سعت لتبرير هذا الانقسام، وبرعت في تبريرها حين نسبته الي الله سبحانه وتعالي باعتباره هو الذي قسم الأرزاق، وجعل الاغنياء اغنياء والفقراء فقراء.

ولهذا كله اصيب ملاك الثروات بالذعر حين اخذ الفكر الاشتراكي العلمي يكشف عن اصول التوزيع الجائر للثروات داخل البلدان، وبين هذه البلدان وبعضها البعض. وتسبب التراكم الهائل للثروات في ايدي الاقلية في تنشيط وتغذية الماكينة الايديولوجية التي تبرر وتؤكد وجهة نظر اصحاب المصالح والحائرين علي الثروات.

وكما يدلنا تاريخ البشرية فإن الشعوب لم تتقبل هذه التبريرات ونشأت الحركات النضالية والفكرية التي وضعت نصب عينيها تغيير الواقع كاشفة عما فيه من ظلم وتمييز.

ولا تكف القوى المتنفذة علي الصعيدين العالمي والمحلي عن مراكمة المبررات، وبخاصة توظيف الدين لتبرير الأوضاع القائمة باعتبارها هي الأوضاع الطبيعية. وكافحت القوي المدافعة عن حقوق الناس، أو بالأحرى حقوق الأغلبية من أجل كشف تزييف الحقائق رافضة الاقرار بأن هذا هو الامر الطبيعي، لأنه من السهل جدا تقبل الامر الطبيعي وهو ما اعتاد عليه الناس.

لا أتذكر الآن من الذي قال: لا تقولوا إن هذا امر طبيعي لأن الأمر الطبيعي هو تحديدا ما يستعصي علي التغيير، إذ أن سؤالا بديهيا سوف يقول: لماذا نغيره اذن اذا كان طبيعيا؟

ثبت علي مدار التاريخ- الحديث فيه علي الاقل- ان تغيير الافكار هو اصعب الاهداف وأكثرها تعقيدا في مشروع أي تغيير. كما ثبت ايضا أن تغيير الافكار ليس عملا عشوائيا أو انبثاقا قدريا، بل هو حصيلة تراكمات واسعة النطاق، جرى التفاعل فيما بين مكوناتها وبين الظروف التي نشأت فيها.

ولا يتم التغيير في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي استجابة لأمزجة فردية أو قراءات عشوائية، ولكنه يأتي حصيلة تفاعلات وعوامل كثيرة منها الموضوعي والذاتي وعلى رأسها التقدم المتواصل للانتاج، والقدرة المتزايدة للعلم على مواجهة معضلات لم يكن من السهل مواجهتها في سياقات أخرى في الماضي.

وطالما راهن ملاك الثروات علي تأييد الوضع القائم، وفي كل مرة يتكشف لهم ان خسارة الرهان هي النتيجة المحتومة، لأن كل شيء يتغير وما من ثابت إلا قانون التغير ذاته.

ويبقي سؤالنا قائما لماذا يتزايد الفقر في العالم، وبالذات في عالمنا الذي يسمي ناميا بينما تتزايد الثروات ويفتح العلم آفاقا بلا حدود لمزيد من زياداتها.

وهنا سوف نجد المبرر الاعمق والاصدق لصمود الفكر الاشتراكي بكل مدارسه ومكوناته في مواجهة ما يبذله أصحاب المصالح من جهود وبالذات توظيفهم للدين دفاعا عن الأوضاع القائمة.

ومهما اتخذ دفاعهم من صور ومبررات وحتى قدرة على الامتاع فهم لا يستيطعون الرد علي السؤل الأولي والبسيط الذي يسأله الناس: لماذا يتزايد الفقر بينما تتراكم الثروات؟

لن يتوقف العاملون والكادحون في كل أرجاء العالم عن النضال من اجل الاطاحة بكل انواع المظالم، بينما يسعى المفكرون والباحثون الذين يتحدثون باسمهم ويدافعون عنهم الى كشف الاغوار العميقة – بل والراسخة- لأسس الظلم الاجتماعي الذي هو احد اهم مصادر الشرور والنزاعات في هذا العالم، وكان هو أحد اسباب بروز الظاهرة الاستعمارية القائمة علي الاستغلال المركب للشعوب.

ومع ذلك فإن العالم يتغير إلى الافضل- رغم كل شيء- إذ لم يكن نضال الشعوب عبر العصور هباء ولا عبثا بل كان دائما الاساس الصلب للمسعي الشريف للاطاحة بالأوضاع البائسة ومن اجل عالم ترفرف عليه رايات الحرية والسعادة لكل الشعوب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«الأهالي» – 5 كانون الثاني 2022

عرض مقالات: