دار متواضعة بناؤها قديم تحولت غرفها وممراتها حتى الطابق الاول الى فوضى للكم الهائل من الكتب والوثائق التاريخية. انه دار السيد هادي جواد الطائي مؤرخ وموثق ثورة 14 تموز 1958.
التقينا به للحديث عن ابرز احداث ثورة 14 تموز، لكن قبل ان ادخل في الحوار استفزني الوضع المؤلم والمحزن للدار لعدم استيعابها الكم الهائل من الوثائق والكتب والصور والمستندات وغيرها رغم انتشارها في غرف الدار المتواضعة والتي تخص تاريخ الحركة السياسية العراقية.
نتساءل من سيتبنى هذه الوثائق بعد رحيل السيد هادي والذي نتمنى له العمر المديد؟ وهذه مهمة الدولة وبالاخص وزارة الثقافة التي اهملت هذا الرجل المناضل والمكافح والذي يعد من ابرز المؤرخين والموثقين لتاريخ الحركة السياسية في العراق.
السيد هادي الطائي يخدم القنوات الفضائية التي تتسابق في اجراء اللقاءات معه للاستفادة من شهاداته الوثائقية في المناسبات الوطنية وكذلك طلبة الماجستير والدكتوراه، وهو يقدم للجميع وبكل تواضع وبلا ملل ما لديه من ذكريات، لكنه مهمش تماماً من قبل المعنيين في وزارة الثقافة والجهات ذات العلاقة، وينبغي تخصيص دار مناسبة له تستوعب هذا الكم الهائل من الوثائق والشهادات.
- الم تتم ملاحقتك ابان حكم النظام المقبور وانت تمتلك هذه الكمية الهائلة من الوثائق المتعددة؟
- لم يكن لدي اي كتاب لانني جمعت هذه الوثائق جميعها بعد السقوط، اما من عام 1963 ولغاية السقوط فلم تكن لدي اية وثائق.
- من اين لك هذه الوثائق؟
- بعد السقوط بدأت بجمعها وشرائها من مالي الخاص من شارع المتنبي.
- من الذي يساندك حالياً في نشاطاتك؟
- منتسبو المركز الثقافي البغدادي وبالاخص مدير المكتب الاستاذ طالب عيسى الذي دعمني عند اقامتي المعرض في شارع المتنبي منذ سنة، ويتم استقبال زوار المعرض في المتنبي ايام الجمع.
- نعود الى الاحداث قبل ثورة 14 تموز 1958.
- عام 1956 ابان العدوان الثلاثي على مصر حدثت انتفاضة شملت اغلب المدن العراقية ولعل بداياتها كانت اضراب الشيوعيين القصابين في الموصل وآخر في النجف، اما في الحي فقد اعدم اثنان من رفاقنا الشيوعيين وهما عطا الدباس وعلي الشيخ حمود وقد تم تشييع جثمانيهما من الحي الى النجف الاشرف وسط هتاف المشيعين:
في الحي نصبوا المشانق
نفخر بيهه ونحييهه
ونصعدهه ازغار وكبار
يا حيدر يا كرار
اما في عام 1957 فقد تم اعلان جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت من الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي وحزب الاستقلال برئاسة الشيخ محمد مهدي كبة والبعثيين، وبما ان الاحزاب عدا الحزب الشيوعي العراقي كانت تميل الى الطائفية والقومية، لم يدعُ حزب البارتي بزعامة البارزاني الى الجبهة، لكن الحزب الشيوعي العراقي عقد تحالفا ثنائيا معه وبذلك انضم البارتي الى الجبهة بشكل غير مباشر، وقد تمت صياغة بيان جبهة الاتحاد الوطني بشكله ومضمونه ولم تعترض عليه الاحزاب الاخرى، بل وافقت عليه وكان بخط الراحل الدكتور ابراهيم كبة.
- حدثنا عن الاحداث التي سبقت ثورة 14 تموز من العام نفسه .
- في شباط 1958 تم اعلان الاتحاد الهاشمي بين المملكة العراقية والمملكة الاردنية وكان هدفه الرد على الوحدة بين مصر وسوريا ودعم حلف بغداد. وفي مايس كانت هناك انتخابات نيابية فاز بالتزكية 125 نائبا وجميعهم من الاقطاعيين ومن الموالين للحكومة بينما بقي التنافس على 19 مقعدا بدون تزكية، وللعلم في اللحظات الاخيرة قبل الانتخابات كانوا يعتقلون الوطنيين لابعادهم عن المراكز الانتخابية وعن الناخبين، وقد كان الشاعر الخالد زاهد محمد المناضل النقابي من قادة الاضرابات العمالية في الشالجية عام 1948، هوسته المشهورة:
صوت وانت بوحدك بحرية
ياهو اللي تريده من الحرامية
- استاذ ابو علي الآن حدثنا عن الساعات التي سبقت ثورة 14 تموز 1958؟
- اصدر الحزب الشيوعي العراقي نشرته الداخلية يوم 12 تموز تحت عنوان "اليقظة والحذر" واكد ان هناك احداثا مهمة ستقع في البلاد كما اتصل الزعيم عبد الكريم قاسم بصديقه رشيد المطلك الذي كان على علاقة جيدة بالشيوعيين، واستفسر هل بامكان الحزب الشيوعي قيادة الجماهير يوم الثورة لتأييدها؟ كانت اجابة رشيد مطلك للزعيم " انا استقلت والعمّاله جاهزين", لقد بث البيان الاول للثورة في الساعة السادسة والنصف صباحاً، كنت متوجها الى عملي في محطة كهرباء الصرافية وعند وصولي الى مكان العمل توجهت الى اقرب حانوت لشراء الفطور فوجدت الجماهير ومن ضمنهم العمال يطالبون صاحب الحانوت بفتح الراديو وكان خائفا ومرتبكا وقد رفض طلب العمال تقدمت انا وفتحت الراديو على مسؤوليتي واستمعنا الى اعادة بيان الثورة واليكم مقطعا منه:
"البيان الاول صادر من القائد العام للقوات المسلحة الوطنية .. بسم الله الرحمن الرحيم .. ايها الشعب العراقي الكريم بعد الاتكال على الله ومؤازرة المخلصين من ابناء الشعب والقوات الوطنية المسلحة، اقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصبها الاستعمار لحكم الشعب والتلاعب بمقدراته لمصلحتهم وفي سبيل المنافع الشخصية ...".
نزل الشعب الى الشارع وقمت انا وبمساعدة اثنين من الشباب وهما عبد السلام خضير وخضر يلدا بتجميع المواطنين ونزلنا في تظاهرة الى شارع العيواضية ثم الى البلاط الملكي في الكسرة، والتقت الجماهير القادمة من الكاظمية والاعظمية وتوجهوا الى وزارة الدفاع، بعدها توجهت الجماهير الى مهاجمة دائرة الاستعلامات الامريكية في شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي حيث تم حرقها، بعدها كان الاتجاه الى جانب الكرخ لنجد جثة الوصي عبد الاله مطروحة على الارض بالقرب من ساحة الشهداء. اما انا والرفاق فتوجهنا الى دار الاذاعة لمساندة الجيش وفي انتظار تكليفنا بأي مهمة مساندة لخدمة الثورة.
لقد وجدنا الجماهير الاخرى امام السفارة البريطانية في الشواكة تحاول اسقاط تمثال الجنرال مود الذي دخل بغداد في آذار 1917، وقال كلمته المشهور "جئنا محررين لا فاتحين"، قسم من المتظاهرين كانت مهمته اسقاط تمثال فيصل الاول قرب الاذاعة والآخر اسقاط تمثال الجنرال مود. صعدت على منصة ارتفاعها خمسة امتار ومعي ثلاثة آخرون وبواسطة حبل تم سحب الحصان علما ان عدد المتجمهرين حولنا على الارض بلغ اكثر من اربعة آلاف شخص، لقد تم اطلاق عيارات نارية من داخل السفارة البريطانية كرد فعل ضد الجماهير التي كانت منشغلة بازاحة تمثال مود، وقد ازيح سياج السفارة وخلع في هذه اللحظات السريعة وفوجئنا بوصول ضابط عسكري برتبة كبيرة بمعية فصيل من الجنود سيطروا على الاوضاع ولمنع اصطدام الجماهير بمنتسبي السفارة وحماية ارواح الموجودين ومنع استغلال الاحداث من قبل الوسائل الاعلامية العالمية، فيما بعد علمنا ان هذا الضابط هو الشهيد الخالد وصفي طاهر.
بعد ايام قليلة من الثورة تم اعلان اسماء الوزراء وكانت نزيهة الدليمي اول امرأة تتولى وزارة البلديات واحالة الضباط في العهد الملكي الى التقاعد وتعيين ناظم الطبقجلي وعبد العزيز العقيلي كقادة للفرق واعتبار بيان الاذاعة تبليغاً رسمياً لهم كما تم تعيين جلال الاوقاتي قائدا للقوة الجوية.
الاحداث كثيرة لا يتسنى لنا ذكرها، نتمنى ان يتم الاهتمام بجهود السيد هادي الطائي ووثائقه ونقل هذه الكتب كافة وغيرها الى دار تخصصها وزارة الثقافة لتبقى تاريخا موثقا تستفيد منه الاجيال القادمة مع تكريم الموثق والمؤرخ الطائي لجهوده التي بذلها عبر عمره الطويل.