حلوى المعدمين والفقراء.. أحبها الصغار والكبار، يتذكرها بحنين جيل الأربعينيات والخمسينيات، فالمكاوية حلواهم المفضلة وهم أطفال، أحداث وشباب تقاسموا بيعها في حواري ومناطق بغداد المختلفة. باعة من مختلف الأعمار داروا وعلى رؤوسهم صواني المكاوية المزينة بجوز الهند الملون، وشكلت المكاوية رزق عشرات العوائل في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي..

 وظلت المكاوية والبادم والمريس حلوى محفورة في ذاكرة جيل تربى على القيم الأصيلة. يبتسم الحاج نصير غازي صاحب محلات الحمداني للحلويات ويقول: طبعا أتذكرها والفضل يعود لحلوى المكاوية التي مكنت أبي من التوسع في صناعة الحلويات وامتلاك مجموعة من المحلات ، كنا نسكن في دار صغيرة لا تتجاوز مساحتها الـ 40 مترا ومن بيع حلوى المكاوية استطاع أبي فتح محل صغير في إحدى حارات الكاظمية ، والخير عم علينا من بيع أرخص أنواع الحلويات كالبادم والمكاوية والمريس، ومع الأيام توسعت التجارة واشترى أبي محلا آخر في شارع 14 رمضان (شارع الرسول)، ويشرح الحاج نصير كيفية عمل المكاوية وهي عبارة عن طحين أسمر يعجن بالدبس مع إضافة الخميرة وتوضع في صواني وينثر عليها جوز الهند ثم تشوى في أفران الصمون وكان العمال يبدأون بصنعها منذ السابعة صباحا وحتى العاشرة مساء ثم يأخذها الباعة وجلهم من الأحداث لبيعها في مناطق الكرادة والكاظم وسوق دانيال وغيرها من مناطق بغداد، وتعتبر في ذلك الوقت من أرخص أنواع الحلويات ويقبل على شرائها الأطفال وطلاب المدارس. وعن أصل المكاوية أضاف نصير، المكاوية موجودة في العراق منذ الزمن العثماني وموطنها ربما تركيا والمؤكد أن هذه الحلوى ليست عراقية وفي مصر يعرفونها وصادفتها شخصيا قبل سنوات طويلة هناك وبنفس الإسم ولكنها أيضا انقرضت الآن، ويتابع نصير: هناك حلويات أخرى انقرضت وانقرض معلميها مثل الشكرية وشعر البنات والموجود منه في الأسواق الآن ليست له علاقة بشعر البنات الأصلي ، وفي الثمانينيات كان والدي يصنع الشعر بنات في رمضان ويعطيها كهدايا مع الحلوى، ويشير الحاج نصير: حاول والدي مرارا تعليم العمال كيفية صناعتها ولكن العامل يهرب من المحل عندما تلسع أصابعه لشدة حرارة المواد المصنوعة منها . ويتذكر الحاج نصير كيف اضطر والده الى تغيير اسم محل الحلويات الذي افتتحه سنة 1955، على جسر الأحرار وسمي على اسم الجسر وأجبره النظام السابق الى تغييره مدعين بعدم جواز وضع اسم وطني على محل تجاري فقام بتغييره وأسماه المنار.

ويشكك الحاج نصير بإمكانية عودة هذه الحلوى للحياة بسبب دخول الحلويات الغربية كالكلكسي والتوبليرون والماكنتوش وزمن المكاوية ولى من غير رجعة. أما إيهاب خالد فهد صاحب حلويات العريش الذي امتلك جده فرنا للمعجنات في منطقة الصالحية منذ سنة 1952 فيتذكر المكاوية جيدا الى جانب البقجة والبادم وعش العصفور ويرى أن الكثير من المعجنات العراقية انقرضت بسبب سوء الأعمال وانقراض الأيدي العاملة التي تصنعها واستبدال أصحاب محلات المعجنات الأيدي العاملة بالآلات التي استوردوها من إيطاليا وألمانيا وتركيا، ولم يحسن العامل تشغيلها فتسرب العمال من هذه المعامل للبحث عن أبواب رزق أخرى، وبذلك توقف خط انتاجي كامل عن العمل وأغلقت محلات عديدة، ويستطرد إيهاب، ومع ندرة العمال: قمنا بتوفر المعجنات للمستهلك عن طريق شرائها من معامل خاصة تصنعها ودورنا هو مجرد وسيط. ويتابع فهد، آباؤنا تعبوا من هذه المصلحة وجيلنا يرفض العمل كفرانين ويعتبرونها مهنة بالية، ويختتم كلامه شخصيا أنا متولع في هذه المهنة وأعمل في المصلحة منذ خمس سنوات وتعلمتها من خالي الذي تربيت في بيته، وتابع: الذي يعمل ويخدم في هذا المجال بصدق يربح الكثير وبسبب ثقة الناس ورضا رب العالمين صارت لدينا أملاك. وعند أفران الحي العربي توقفت سيارة مرسيدس ترجل منها الحاج عادل قاسم هاشم الذي جاوز السبعين، وفوجئ الحاج عادل عندما سألناه عن حلوى المكاوية وقال ضاحكا: أنها حلوى الحياة الجميلة والبسيطة، ورثت الصنعة من والدي والمعروف محله (بكعك الجمهورية) الوقع في أول شارع الكفاح ووالدي ورث المهنة عن جدي ومحله كان في باب الشيخ، ويتابع قاسم : في صغري أحببت المكاوية وصنعها والدي بخلط (كونية الطحين ووزنها 85 كيلو مع 15 كيلو دبس وتضاف اليها الخمرة وتوضع في صواني ويدهن وجهها بالدبس ويرش عليه جوز الهند الملون ويزدهر موسمها في العطل الدراسية وتختفي شتاء وتوقفنا عن صنعها بسبب قلة العمال، ويستدرك الحاج عادل ولكني أحاول أن أتمسك بصنع بعض المعجنات التي اختفت مثل (جرك أبو الجين ) الذي أشرف عليه بنفسي ، وتعامل الحاج عادل بحنكة وذكاء وصلا حد الدهاء مع أولاده الخمسة وأقنعهم بالعمل معه : أولادي الخمسة شربوا الصنعة مني.. نعم ولدوا وهم أثرياء وفي البداية تمردوا على المهنة فخيرتهم إما إكمال الدراسة أو العمل معي، ويستطرد قاسم: الكبير أكمل الثالث متوسط وامتلك السيارة والبيت ومعمل والده موجود والبدل دفعته عنه والزواج أمره سهل، كل هذه الأمور وفرتها لأولادي الخمسة فلماذا يتمردون. ويتمنى الحاج عادل أن لا يهجر أولاده المهنة التي كافح سنوات وتحمل المشقة كي يصنع أسما له، ولا ينسى قاسم كيف قضى شبابه وهو يجر عربانة الدفع المحملة بالجرك والصمون منذ الصباح الباكر ليوزعها من محل إلى آخر، ويتذكر جيدا سنوات التسعينيات وبداية الحصار عندما منعت صناعة المعجنات بسبب ندرة الطحين ولإنقاذ مخزون البندق وبقية المكسرات الموجودة في مخزنه تحول الى عمل حلوى المدكوكة. ويختتم: محلاتنا اليوم لا تستطيع الصمود أمام طغيان الحلويات الغربية ولا نستطيع تلبية طلبات جيل هذه الأيام. وتجولنا في أحياء بغداد الحديثة واستوقفنا ثلاثة شبان وسألناهم هل يعرفون ما هي المكاوية والبادم فأجابني أحدهم (هاذي شنو خالة هل هي أسماء تدليل لسيارات ؟؟؟). شلة من المتقاعدين يلعبون الدومنة التقيناهم في شارع الحي العربي : يقول خالد طوبية يوسف تاجر قديم :كنا صغار نشتري قطعة المكاوية بعانة أو 4 فلوس بعد خروجنا من مدرسة في منطقة صبابيغ الآل، وحجي (كنش) هو الوحيد في المنطقة الذي باع المكاوية وطبعا توفرت المكاوية والبادم والمريس في أفران الشكرجية وتباع بنفس السعر. وعلى عكسهم قال صاحب علي الغبان من العوائل البغدادية العريقة :كان والدي تاجرا يعمل في التبغ وأتذكر كيف كان الباعة يتجولون في منطقة الفحامة في الكرخ وعلى رؤوسهم حلوى المكاوية ولم استطعم هذه الحلوى ولم أحبها قط ، فيما لا يشاطره الرأي صديقه أبو لؤي ويؤكد كنا نعتبرها مثل قطعة الكيك نأكلها بعد الغداء ووقت العصريات مع الشاي ونشتريها من الباعة وجلهم كسبة من الطبقة الفقيرة أو محلات الحلويات المنتشرة في الكرادة والدهانة (وصبابيغ الآل) ولا تعتبر وجبة مشبعة ولكنها رخيصة ولا تقضي على كل المصروف اليومي الذي نأخذه من الوالد الذي عمل في تجارة الأقمشة، ويشتاق أبو لؤي إلى حلوى العلج ميوة والمكاوية والبادم ويقول أحن إليها ففيها طعم ونكهة خاصة تذكرنا بأيام الخير والعصر الذهبي. وفي حواري سوق دانيال وأزقته الضيقة ينصحنا باعة الأقمشة بالبحث عن سيد علي محمد حسن الأعرجي وهو أقدم قماش في السوق، ووالد الأعرجي امتلك المحل منذ سنة 1948 وتسلّمه الابن عام 1957 ماضيا على خطى جده ووالده في تجارة أقمشة البرادي. هي حلوى أحبها الصغار وسعرها لم يتجاوز الفلسين أحببت طعمها الممزوج بالهيل والزعفران، وبعشرة فلوس كنا نحصل على كيس كبير مملوء بحلوى المكاوية أحملها للبيت ونأكلها مع الشاي، وقد انتشر باعتها قرب المدارس وفي رأس الدرابين يحملونها على رؤوسهم وهم يرددون أبيات شعر تغزلا بالمكاوية.

ويؤكد الأعرجي أن حلوى المكاوية عرفها البغداديون في وقت كانت الأحوال الاقتصادية تعاني الكساد والسوق خامل، وكان الموظف يشتري قماش البدلة بالدين ويدفع للقماش والخياط بالأقساط وفي الوقت الحاضر اختفت هذه الحالة لانعدام الثقة بين الناس . وفي وسط بغداد وبعد جسر السنك وعلى دوار الساعة المكتظ بعشرات عربات الجر وتحوي مختلف أنواع الأطعمة والمأكولات التقينا طه رحمة رميض وعربته المملوءة بالسميط الحار الذي قال : بعت حلوى المكاوية في شبابي تركت المدرسة قبل نهاية الصف الثالث بسبب رسوبي في مادة الإنكليزي وبسبب ظروف العائلة المادية الصعبة ومرض والدي اضطررنا أنا وأخي الى تعلم صنع المكاوية والجقجة قدر وقمنا بعملها منذ الثامنة صباحا أما الشعر بنات فنحصل عليه من أفران الحلويات وكانت هذه الحلويات مصدر رزق العائلة الوحيد ومن موردها انتقلنا الى بيت جديد، ولكن الأحوال تغيرت وأمانة بغداد والبلدية لا يرحمون أحدا وأخذت تطارد الباعة أصحاب عربات الجر الذين يقفون عند مدخل الشورجة ولاحقونا يوما فتركت العربانة هاربا منهم وضاعت مني العربانة والفلوس ومعها المكاوية. وفي الستينيات تغيرت الظروف وهجر العمال الأفران ليخدموا في العسكرية واختفت المكاوية وغيرها من الحلويات وتحول الباعة المتجولون الى بيع السميط والكليجة. واختفت المكاوية ولكن الكسبة الفقراء وعرباتهم لم تختف من أسواق بغداد. ويؤكد أحمد يوسف الربيعي من مواليد 1965 وصاحب أحد المطاعم في شارع الرسول: شخصيا بعت المكاوية في شبابي إضافة إلى حلويات أخرى كالبالوتة والطحينية وحلاوة الشعرية وكنا نأخذها من معامل الحلويات في منطقة الدهانة، ويضيف الربيعي كنت طالبا في مدرسة الفرزدق وصيفا أعمل بائعا للمكاوية للحصول على مصروف الجيب، عشر سنوات وأنا أبيعها كي لا أكون عاطلا عن العمل أثناء العطل الصيفية، ففي المناطق الشعبية إذا مر الحدث أو الشاب مرتين في الدربونة يستوقفه رجال الدربونة ويسألونه (شكو عندك رايح جاي بالدربونة؟؟). وعن سعرها في ذلك الوقت قال الربيعي: كنا نأخذها من المعامل بنصف دينار للكيلو موضوعة في صواني ونبيع القطعة بـ 75 فلساً أو مئة فلس حسب حجم القطعة ويختتم الربيعي كلامه: أسطوات أهل أول توفوا وانقرضت المصلحة وجاءت فترة الحرب ودخل المصريون وتسلموا المعامل، أما عمال المصانع من أبناء البلد فذهبوا وقودا للحروب، واختفى الحرفيون والبزازون والصاغة وغيرهم واختفت حلوى المكاوية وفي الثمانينات لم أشاهد قط صواني المكاوية في مناطق وأحياء بغداد الشعبية. 

 

عرض مقالات: