مفارقات السكن

 

فشكرني الرجل وشكر الشرطي الذي قال "إشحلاتج يالعدلة عمن هذا من جماعتهم عرف لغوتهم" فأسرعت بالعودة الى البيت وعاد الي الاطمئنان بل استنتجت استنتاجا مهما مفاده إن الشرطة في حراسة معامل الشالجية تعتقد بأن العمال الذين يقومون بأعمال مشابهه لعملنا، ما هم إلا عمال مصريون هذا يعني إننا ولحد الآن غير مكشوفين. بيتنا الذي كنا نسكن فيه ضم مجموعة رفاق منهم الفنان المعروف طالب غالي (ابو لنا)، والشهيد المهندس عباس، والشهيد عبد الله، والشهيد ابو يوسف (ابو عايدة) الذي لم ينتقل الى البيت بعد ويتم له ذلك عن طريقي، بعد يومين والرفيق ودود وهو شاب من سكنة البصرة الكبيرة، وكانت هناك غرف كثيرة في طابقي البيت، كنت معروفا بين السكان على إنني أمي لا اعرف القراءة والكتابة ولكني اعرف فقط الأرقام الإنكليزية تعلمتها من أبي الذي تعلمها من الإنكليز في الشعيبة في البصرة وفي الحبانية في الرمادي، وانا احتاج هذه الأرقام في عملي الذي هو بناء، ووضعني هذا الادعاء أمام امتحانين الأول هو حاجة البيت لحوض ماء للحنفية العارية الموجودة في منتصف البيت، فقمت ببناء هذا الحوض من إسمنت وطابوق كانا متوفرين في البيت، والامتحان الثاني هو محاولة أحد سكان البيت تعليمي القراءة والكتابة، وهي قصة لا تخلو من طرافة : كان هذا الساكن طالبا في معهد القضاء العالي، وكان طوال الوقت يحفظ النصوص القانونية بصوت عال، على طريقة حفظ رجال الدين للنصوص، وكنا هو وأنا قد التقينا في ساحة البيت وأثناء بناء الحوض فيه، فتوطدت علاقتي به، وكنت راغبا في هذه العلاقة ، ودعاني لزيارته في غرفته فوجدتها عبارة عن مكتبة عامرة بكتب القانون والتاريخ ، فأظهرت تعجبي من المنظر، وهو اوضح بأن هذه هي التي نسميها كتب وهي مفيدة للحياة، وقال عن نفسه بأنه قد قرأها كلها، وقال لي وانت أيضا يمكنك أن تقرأها أو غيرها، إن تعلمت القراءة والكتابة، وقال إنه مستعد لتعليمي ذلك وامسك قلم رصاص وكتب حرف الألف وطلب مني رسم الحرف فناولني القلم ومسكته كما يمسك البناء فأسه فعدل مسكة القلم في يدي وقال باسما إرسم حرف الألف فرسمت حية "افعى" طويلة لأني تظاهرت بعدم السيطرة على يدي وكلما حاول تعليمي كلما زادت يدي ارتجافا، فيئس من تعليمي ، وقال لا فائدة، هكذا تخلصت من هذه الورطة وبقيت محافظا على صداقتي وكان هو دائما يقول لو متعلم القراءة أحسن وكنت أردد على مسمعه ما ترهم.

في البيت حدث شيئان مفاجئان لنا ...
في الصباح كعادتي أذهب الى العمل في الشالجية واقضي يومي هناك في العمل، وارجع للبيت بعد نهاية الدوام، في أحد الأيام وأثناء عودتي للبيت رأيته (البيت) مقلوبا وسكان إحدى الغرف كانوا جالسين امام غرفتهم قرب الباب وكان منظرهم مريبا فلما دخلت البيت سلمت عليهم فكان ردهم للسلام غريبا، فأسرعت للغرفة وقلت لأبي لنا "الوضع ما مريح يمكن هذوله أمن" فضحك ابو لنا وقال "لا هذوله ربعنه" فسألته من أين عرفت؟ قال "أحدهم صديقي وقد أخبرني بذلك" وكانت الواقعة أن المرحوم عبد الأمير وهو محامي الحزب في ديالى التقى مع ابي لنا فأحدهما سأل الآخر"هاي إشجابك هنا….. نفس اللي جابك" فعرف كل منهما إن كل الموجودين في غرفتينا وفي غرفتهم من الرفاق الشيوعيين الهاربين من محافظتاهما) فلا نحذر منهم ولا هم يحذرون منا(.

ادى هذا التعارف الى زعل مسؤولنا الحزبي الرفيق إدريس (ابو سلام( الذي امتعض من عدم حذرنا ومن العلاقات المفتوحة التي تكونت وقال لي بالحرف الواحد إنكم أصبحتم الآن أكثر عرضة للخطر، ثم أوضح بأن الحزب يعرف أنهم رفاق شيوعيون مختفون مثلكم ولم يخبركم لكي تتطبعوا على الحذر وعدم كشف أنفسكم .

المفاجأة الثانية هي اعتقال الرفيق أبو عائدة في مكان عمله في إحدى الورش في الشيخ معروف، حيث يعمل لحام ولدن وكان قبل ذلك يعمل فيها قبل انتقاله الى البصرة، حيث تفاجأ البعثيون ورجال الأمن الذين يعرفونه منذ ذلك الوقت السابق بوجوده في الورشة فعملوا على اعتقاله .
فكان من جراء ذلك لزاما عليّ ترك البيت والسكن في مكان آخر فوجدنا حلا مفاده ترك السكن لفترة سبوع أو أكثر فكان المكان الآخر هو الخالص في ديالى وتم ترتيب ذلك عبر رفاق الديوانية الذين معنا في البيت، حيث كان من ضمنهم الرفيق "ابو مها" وهو رفيق معلم يسكن واهله في الخالص ولديه بيت جديد تحت البناء في تيلتاوة فتم الاتفاق معي على الانتقال للسكن مع عائلته والقيام ببعض الأعمال التكميلية في البناء جرى ترتيب ذهابي الى هناك، حيث تعاون معي رفاقي البصاروة من أجل توصيلي، فقد كان هناك شاب من اهل البصرة يتردد على أحد رفاقنا في البيت وهو شاب مؤتمن ويقوم بتنفيذ مهام في البصرة لا اعرفها ولكني أعرف أمانته وحكمته، هذا الشاب يعمل سائقا على سيارة تابعة لأحد معامل صناعة الجزء الذي يلامس الأرض "الدبان والكعب" للحذاء مصنوع من مادة البوليتان يقوم بتوزيعه على صناع الأحذية في كل العراق ، تعهد هذا الشاب بتوصيلي الى بيت اهل الرفيق ابو مها، بمعية شقيق الرفيق الذي سيأتي من الخالص، وهكذا تم الموضوع فكانت عائلة الرفيق ابو مها غاية في حسن الاستقبال وفي الكرم والأخلاق العالية، لقد كانت فرحتهم بي وكأنني ابنهم أبو مها قد عاد اليهم، ولابد هنا من التوقف عند شخصية والدة الرفيق التي تشعرك للوهلة الأولى بكرم وطيبة الأم العراقية الحريصة على سلامة ولدها ورفاقه، رأيت أم الرفيق ابو مها بنفس صورة أمي. وتذكرت موقفها البطولي في المستشفى عند زيارتها لي، أم الرفيق ابو مها تتصف بقوة الشخصية وبالحكمة والتضحية بنفسها لبقاء ولدها ورفاقه سالمين، وكذلك كانت بقية العائلة، التي قضيت عندهم تسعة أيام انجزت فيها بناء الممشى في الصالة، وبعد أن عرفت إن ابو عائدة قد أطلق سراحه عدت بنفس السيارة الى بغداد، بعد أن ودعت العائلة الكريمة .

وفي بغداد كلفني الحزب باللقاء بالرفيق ابو عائدة الذي اوضح مجريات اعتقاله، وكيف أن الأمن كان يريد معرفة مكان سكنه في بغداد حيث أخبرهم إنه لم يكن له سكن سوى المبيت في المراقد المقدسة المنتشرة في العاصمة، وبعض الأحيان في الورشة التي يعمل بها ورأى الحزب أن يعود الرفيق أبو عائدة الى البصرة .