الفصل الاول

المبحث الثاني

الممهدات الاقتصادية والسياسية لقيام الجبهة الوطنية

 مر العراق بظروف غاية في الصعوبة في العقدين الاول والثاني من النصف الثاني من القرن العشرين، تجسدت بما يلي:

  1. صراع على السلطة واستعمال القوة بين المتخاصمين.
  2. وضع اقتصادي واجتماعي متردي جراء سياسة الحكومات المتعاقبة المتمثلة بغياب استراتيجية محددة لتطوير الدولة، اضافة الى دور العامل الخارجي في تأجيج النزاعات الداخلية مما ولد انقلابات عسكرية اثرت على المواطن العادي. ومن هذا المنطلق توخينا ان نضع دراسة للجوانب السياسية والاقتصادية في المرحلة الاولى من مجئ البعث و قيام الجبهة الوطنية واخيراً انفراط الجبهة الوطنية وانتقال الحزب الشيوعي العراقي الى رفع السلاح بهدف أسقاط النظام الدكتاتوري.

قبل الإنقلاب الثاني للبعث في 1968 تدهورت الأوضاع السياسية بشكل كبير، حيث ضعف النظام العارفي الحاكم، ومن اجل ابعاد سيطرة اليسار على السلطة وخوفا من القوى الاخرى التي رفعت السلاح لاسقاط الحكم، دعم الامريكيون والبريطانيون الحزب المناؤي للحزب الشيوعي العراقي. ويشير الكاتب حامد الحمداني في  لمحات من تاريخ حركة التحرر الكوردية في العراق الى إن من اهم مميزات تلك المرحلة، ضعف سلطة عبد الرحمن وتنامي نشاط الشيوعيين من جديد وظهور اتجاهات لدى الحزب والقيادة المركزية للسعي لقلب الحكم بالقوة واستلام السلطة. ويمكن الإشارة هنا أيضاً الى:

  • محاولات القوى الناصرية تحقيق الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.
  • قرار حكومة طاهر يحيى في 6 اب 1967 باستعادة حقل الرميلة الشمالي من شركة نفط العراق والحاقه بشركة النفط الوطنية.
  • عقد اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي في 24 كانون الثاني 1967.
  • اقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية مع شركة ايراب الفرنسية للتنقيب واستخراج النفط وسط وجنوب العراق.
  • رفض حكومة عارف منح شركة بان امريكان امتيازا لاستخراج الكبريت في العراق.

وهكذا سارعت الولايات المتحدة الى تدبير انقلاب عسكري بالاتفاق مع حزب البعث.

كانت السلطة العارفية الحاكمة ضعيفة وبعيدة عن امال وطموحات ابناء الشعب، حيث كانت الاضرابات والتظاهرات للقوى الوطنية ضد الحكم الدكتاتوري الغير قادر بالنهوض بالبلاد. وقد استشعرت الاوساط الامبريالية والقوى الرجعية واليمينية في العراق والاقطار المجاورة الخطر من احتمال تصاعد النهوض الثوري، وقيام حكومة ثورية، فعمدت الى بذل الجهود لاحباط هذا النهوض واجهاضه.

كما احدثت هزيمة الجيوش العربية في 5 حزيران 1967 ضجة كبيرة في عموم الشرق الاوسط والعالم. وكان سخط الجماهيرعلى تلك الانظمة كبيراً حيث حدثت الاضرابات والتظاهرات من اجل اطلاق الحريات والتعبير الثوري ضد تلك الهزيمة ومسببيها.

وكان أبرز ملامح أزمة الأنظمة عزلتها عن الجماهير، وتزايد ضغط الجماهيرعلى الحكام في اغلب الدول العربية ومنها العراق. ولهذا أحدثت النكسة هزة عنيفة في نفسية الجماهير وافكارها، كما انها عرّت الدور الخياني للانظمة الرجعية والدكتاتوريات العربية.

في ظل تلك الظروف الصعبة في العراق والمنطقة، بادر حزب البعث لطلب لقاء مع الحزب الشيوعي، وذلك في حزيران 1968 من اجل بحث قضايا مهمة تحتاج التعاون معهم. وأرسل الحزب الشيوعي مكرم الطلباني لهذا الغرض. ذكر البعثيون في هذا اللقاء انهم مقبلون على القيام بانقلاب عسكري ويطلبون التعاون مع الحزب، وقالوا انهم جادون ويريدون جوابا ويأملون ان يكون الرد ايجابيا. لقد حصل هذا وكانت دماء الشهداء من مجازر وجرائم البعث في شباط 1963 ماتزال ندية لدى كوادر الحزب وجماهير الشعب والثقة مفقودة بهذا الجناح(جناح عفلق)، هذا من جانب ومن الجانب الاخر كان الحزب قد انتهى من اجتماعات الكونفرس الثالث الذي حّرم التعاون مع البعث اليميني. وكان رد الحزب الإعتذار عن الاشتراك دون أن يشير الى إنه سيقف في طريقهم، ولربما كان هذا مايريدونه بطلبهم ذاك. وابلغ الطالباني البعثيين بأن موقف الحزب سيتحدد بناء على تزكية الشعب لهم ولما سيقومون به.

كانت ظروف الانقلاب شبه مهيأة، فقام الانقلاب في 17 تموز 1968 حيث دخل أمر كتيبة دبابات الحرس الجمهوري القصر، فاستسلم عبد الرحمن عارف وطلب السلامة والمغادرة الى تركيا.

بعد الانقلاب طلب حزب البعث من الحزب الشيوعي التعاون، وعاد حزب البعث قبل 30 تموز وطرح موضوع التعاون مع الحزب من خلال عبد الله سلوم السامرائي ويومها كما ينقل الدكتور رحيم عجينة ان السامرائي صارح وفد الحزب بانهم مقبلون على تصفية الحساب مع شركائهم في انقلاب 17 تموز من الضباط غير البعثيين، وعرض مرة اخرى مسألة التعاون مع الحزب الشيوعي.

وحاول البعث بعد سيطرته على السلطة الاستفادة من دروس فشل تجربته الاولى في الحكم عام 1963 وادرك ان فشلها يكمن في العزلة عن الشعب ومحاربة الديمقراطية والذي شكل الموقف المعادي من الحزب الشيوعي والشيوعية الاساس فيها، فقام بمجموعة من الاجراءات الداخلية والخارجية، التي قد تحسن من صورته المرفوضة لدى الناس.

داخلياً 

  1. ركزالحكم الجديد على ان يكون للبعثيين دور قيادي في اجهزة الدولة ومؤسساتها .
  2. وتعامل مع الحزب الشيوعي العراقي والقضية الكردية والوحدة الوطنية، بشكل إيجابي، حيث اتخذت السلطة مجموعة من القرارات المهمة منها غلق سجن نقرة السلمان المخصص للشيوعيين وكذلك العفو عن المعتقلين السياسيين من الشيوعيين .
  3. خفف من القيود على حرية التعبير وحرية العمل واعاد الموظفين المفصولين لأسباب سياسية الى وظائفهم.

 

خارجيا

أقام علاقة جيدة مع الدول الاشتراكية ومنها الإعتراف الدبلوماسي بجمهورية المانيا الديمقراطية في 30 نيسان 1969 حيث صار العراق بهذا اول دولة من خارج المعسكر الاشتراكي تعترف رسميا بالمانيا الشرقية، واتخاذ سياسة متوازنة.

موقف الحزب

رحبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بهذه الخطوات ودافعت عن القرارات التي صدرت عن حكومة البعث مثل اطلاق سراح السجناء السياسيين واعادة الموظفين المفصولين لاسباب سياسية الى الخدمة وقانون العفو عن الغائبين والمخالفين والمتخلفين. ولكن تلك الصورة الايجابية لم تستمر طويلا اذ لم تعد الحكومة، العسكريين الشيوعيين الى الجيش، مما شكل أول مسمار في بناء العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث بعد عام 1968.

هناك أراء مختلفة في قيادة الحزب الشيوعي العراقي من الانقلاب، حيث تباينت اراء أعضاء المكتب السياسي للحزب من استلام البعث السلطة مرة ثانية. وقد اتفقت اراء عزيز محمد وباقر ابراهيم ومهدي عبد الكريم، على انه يتوجب مراقبة تطور الوضع وطرح مطالب للتنفيذ ما قدمته بيانات الحكومة وتجنب مهاجمة الانقلاب او الاعلان عن تأييده.

بعد دراسة للوضع القائم اصدر الحزب الشيوعي بيانا في 29 تموز 1968 هاجم فيه الفترة الماضية من حكم عبد الرحمن عارف وطاهر يحيى، وأوضح ان الانقلاب جاء نتيجة سوء الأوضاع في البلاد وهو يعمل من اجل اقامة حكومة ائتلافية ديمقراطية تحل مشاكل البلاد وتلبي حاجة ابناء الشعب.

قيم الحزب الشيوعي العراقي في هذا البيان وضع السلطة الحالية، وأوضح الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومشاكل البلاد المستفحلة. وطرح من خلال هذا البيان بعض المطاليب منها إعتبار المهمة المركزية هي الديمقراطية التي تحتاج لمجموعة من الإجراءات الضامنة. كما تحدث البيان عن الاساليب البربرية التي اتبعت لسحق ارادة المواطنين وطالب باصدار عفو عام فوري وشامل عن جميع السجناء والمعتقلين واعادة المفصولين الى وظائفهم وانهاء حالة الطوارئ والغاء محاكم امن الدولة واطلاق حرية النشاط السياسي للاحزاب والجماعات الوطنية وحرية الصحافة والعقيدة والتظاهر والتنظيم الاجتماعي والنقابي. كما طالب البيان بحل المسألة الكردية وتأمين الحكم الذاتي لكردستان العراق بما يتفق والاقرار بحقوق الشعب الكردي، ومعالجة الوضع الاقتصادي لصالح الطبقة العاملة والفلاحين وبقية الكادحين وإنهاء السياسات التي اتبعت لصالح الاقطاعين والملاكين والمستغلين. وشدد البيان على إتخاذ موقف حازم تجاه الاحتكارات البترولية وضرورة صيانة القانون رقم 80 لسنة 1961 ورقم 97 لسنة 1967الذي يحصر جميع العمليات النفطية خارج حدود مناطق الامتياز بشركة النفط الوطنية، والغاء الامتياز الممنوح الى شركة ايراب الفرنسية واستثمار الكبريت وطنيا. ودعا الحزب السلطة الجديدة الى إنتهاج سياسة عربية تهدف لتصفية العدوان الصهيوني وردع المؤامرات الامبريالية، والى ضرب شبكات التخريب والتجسس الامبريالي على العراق وإقامة علاقات ودية مع الدول الاشتراكية ومع كل قوى التقدم في العالم.

على صعيد اخر قامت الحكومة بتوطيد العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، وفي التضامن مع حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتأييد حركات التحرر الوطني في العالم ودعم نضال الشعب الفيتنامي ضد الاحتلال الامريكي والاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية كما اسلفا.

ورغم تلك الإجراءات فقد دعت صحيفة الحزب السرية (طريق الشعب)، الى اعلان العفو الشامل الفوري وذكرت بوضوح ، ان تعويل حزب البعث على تحالفه مع غلاة العسكريين المهيمنين على القوات العسكرية الضاربة في الجيش وعلى توزيع المراكز الحساسة في الأجهزة الادارية والأمنية على اعضائه واعوانه، لن يغير من طبيعة الحكم الدكتاتوري.

في اجتماع تشرين الاول 1968 للجنة المركزية وتحت عنوان (حول ابرز المسائل الملحة في الوضع السياسي)، تم التأكيد على مواصلة النضال من اجل حكومة ائتلافية وطنية وديمقراطية تمثل ارادة القوى المتحالفة في الجبهة الوطنية. واكد تمسكه بمبدأ التحالف مع الأحزاب الوطنية وتمسكه بمبدأ استقلالية الحزب الشيوعي الطبقية التي تعني تمسكه باهدافه الاستراتيجية. وأشار الحزب الى أن (الحكم الذي يقترحه حزب البعث هو في الواقع حكم لا ديمقراطي. وان مجيئه الى السلطة لم يطمئن القوى والأحزاب الوطنية العراقية). وحذر الإجتماع النظام الجديد من مغبة الاستمرار على نفس النهج 8 شباط 1963 وارهاب ابناء الشعب.

وكشفت السلطة سريعا عن جوهرها حيث إتخذت سياسة تبعيث اجهزة الدولة ومؤسساتها واستحداث اجهزة امنية ومخابراتية يراد منها السيطرة ووأد الحريات الديمقراطية. وسارع الحزب الى نقد سياسة تبعيث اجهزة السلطة وحذر من دورها في اثارة التذمر والاستياء بين قطاعات الشعب.

وأراد النظام الجديد ان يثبت اقدامه من خلال استعمال الجزرة والعصا. فالى جانب بعض الخطوات الأنفتاحية، جرى اطلاق نار على عمال الزيوت النباتية المحتجين في 5 تشرين الثاني 1968 وقتل احد العمال وجرح اخرين. وبعد ايام بادرت عصابات جهاز الأمن القومي الى الهجوم على احتفال جماهيري نظمه الحزب الشيوعي العراقي احتفالا بذكرى ثورة اكتوبر، علما ان شعارات الاجتماع لم تكن تمس السلطة والذي انعقد في ساحة عامة هي ساحة السباع التي تتوسط حياً عماليا بالقرب من ساحة النهضة، وقد قتل اثر هذا الهجوم ثلاثه من العمال(وليد الخالدي وادور عبد النور و عبيد البيدر) كما وجرح الكثير من المجتمعين. وقد وصفت جريدته الرسمية هذه النشاطات الجماهيرية بأنها مؤامرة ضد حزب البعث.

المصادر

حامد الحمداني ،لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية

تقيم تجربة حزبنا النضالية 1968 - 1979اعداد علي محسن مهدي

عزيز سباهي عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج3

رحيم عجينه الاختيار المتجدد

سيف عدنان القيسي الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر 1968-1979

طريق الشعب السرية المقال الافتتاحي عن عزيز سباهي – عقود

صحيفة الثورة الناطقة باسم حزب البعث العدد 87 ت الثاني 1968

 

عرض مقالات: