كانت الحياة اليومية في محلة الشواكة تسير بشكل هادئ و كانت العلاقات بين ساكنيها من مختلف المكوّنات وديّة تسودها المحبة و التعاون، و كان الشباب في ايام الصيف مشغولين بأنواع الرياضات و كانوا يشكّلون نوادي رياضية بكل الوسائل الممكنة و المقبولة ماديّاً و معنوياً. . فانشغلنا في ذلك الصيف بالسباحة، حيث تسجّلت في مسبح المعارف الكائن في حدائق معهد الفنون الجميلة، فكان عليّ كل صباح باكر ان استقل الباص الواصل بين ساحة الشهداء و باب المعظم ثم باص باب المعظم ـ راغبة خاتون لأصل الى معهد الفنون في الكسرة بالساعة السابعة صباحاً. .

ثم سجّلنا الوالد انا و محمود و كان معنا محمد ابن الجيران. . سجّلنا عند مدرّب سباحة في شريعة الشواكة (جرف و مرفأ البلاّمة و الزوارق النهرية في الشواكة)، كان مدرّباً ماهراً و حازماً و تعلّمنا السباحة على يده كما يقال بمساعدة كَرَبْ النخيل المُعدّ لذلك من كربتين اثنتين الى كربة واحدة و الى نصف كربة و الى السباحة الحرة دون معين و دون كرب. . و تعلّمنا طرقاً اخرى في السباحة درّبنا عليها بتبرعه و اثناء سباحته هناك، السباح الدولي (كريم النواب) اخو بطل مسابقات كابري ـ نابولي العالمية (بدري النواب)، الذي كان يُلقّب بـ (ابو هيف العراق) نسبة الى بطل السباحة العالمي السباح المصري (ابوهيف) آنذاك. .

و في تلك الشريعة كنّا نصيد السمك باكياس الجنفاص (الكواني) التي كنا نمسك الكيس كل اثنين من جانب و نخوض به مياه النهر و كنا نحصل على اسماك صغيرة قرشية، كان قسم منا يأخذها الى منزله لتربيتها و قسم آخر ينظفها و يأكلها بعد تمليحها و شويها عند الجرف او في البيت. . كانت رياضة ممتعة. . الاّ اني حرمت من الدراجة الهوائية في منطقة ضيّقة الطرقات التي كانت في اوسطها سواقي عريضة لمياه الصرف الصحي التي تزحلق الدراجة من جهة، لتأتي بعدها الشوارع العامة المليئة بسير انواع السيارات و الناقلات و بارصفتها المزدحمة بالناس عادة، من جهة اخرى. .  

و انشغل والدي بالبحث عن مدرسة ابتدائية لأكمل الصف السادس المنتهي هناك، و بحث عن امكانية النقل من تطبيقات دار المعلمين الابتدائية النموذجية في الأعظمية الى مدرسة المنصور النموذجية المقابلة بحدائقها للاذاعة او الى مدرسة المأمونية النموذجية في الكرخ ـ الارضروملي في منطقة سينما قدري التي كانت تعمل فيها الست ام مهين الجارة المسيحية الطيبة الساكنة في دربونة الدفتري. . و لكن دون جدوى لأنها جميعاً كانت مزدحمة و لديها اعداد زائدة و لا تتمكن من قبول تلميذ غريب جديد من محلة اخرى في طرف بغداد الآخر. . الى ان حُلّت المشكلة بتدخل اسطه مهدي الكبابجي! الذي كان يوصف بكونه اهم من المختار بسعة معارفه و اقاربه و محبيه، اضافة الى ثقة الناس به و علاقاته الحميمة في المنطقة . .

حيث اشار اسطة مهدي الكبابجي الى ان مدرسة الشواكة الابتدائية القريبة من سكننا، الى كونها مدرسة جيدة و مديرها و المعلمين من اهل المنطقة و معروفين بكونهم من الناس الطيبين و خاصة مديرها (عبد الرزاق خطّار) و المعاون الطيب (الأستاذ النجاتي) المعروفين بكونهم ديمقراطيين و (ابناء اصل) كما قال. . و فعلاً انتقلت الى مدرسة الشواكة. .

كانت المدرسة عبارة عن بيت شرقي قديم تملؤه الرطوبة، و على ضيقه كان الاصطفاف الصباحي اليومي يجري في الباحة الداخلية، اضافة الى استعراض الكشافة الاسبوعي ببوقهم الصباحي، و كانت في الباحة في طارمة مسقوفة هناك، منضدة كبيرة وفق القياسات الاصولية لكرة المنضدة. و كانت المدرسة تعجّ بأنواع النشاطات و يسير دوامها بانتظام رغم وجود مدرسة اخرى تشاركها نفس البناية و تجعل الدوام على مرحلتين، الدوام الصباحي و دوام بعد الظهر. . و كنت الاحظ الفرق الهائل بين مدرسة التطبيقات النموذجية في الاعظمية بحدائقها و مرسمها و مدرسة الشواكة، و كان يصيبني ذلك بالحزن، و بتساؤلات تدور عن لماذا أُجبرنا على الانتقال الذي كان و كأنه تهجيراً بالقوة من محلة بروابطها و اهلها و الاصدقاء الى محلة اخرى تماماً. . ؟؟

كنّا ننتظر بشوق درس النشيد و الموسيقى الذي تناوب عليه الملحّن الذي اشتهر في السنين اللاحقة (محمد جواد اموري) و الموسيقي (فكري بشير) ان لم تخني الذاكرة في اسمه الاول و هو اخو الموسيقار العراقي الشهير (منير بشير) . . حيث كانا يحاولان تدريبنا على سماع و تقليد الالحان و ضبطها، بعزفهما على الكمان مع الإنشاد و ان يكون الإنشاد متناغماً مع اللحن و الموسيقى. .

من جهة اخرى، حرص المعاون (الاستاذ النجاتي) و كان اكبر المعلمين سنّاً و وجهاً بارزاً للقائمة المهنية الديمقراطية للمعلمين. . حرص على التعرّف على كل طالب شخصياً و الطلب منه بمراجعته عند مواجهته في حالة اية صعوبة قد يواجهها. . و كان اهتمامه بالطلبة الفقراء و مساعدتهم بكل الوسائل الممكنة من الملابس الجيدة و الى الحقائب و الدفاتر، اضافة الى لهجته الابوية الحنونة و بحميمية كلامه في طرح المواضيع و التوجيهات. . كانت تقرّب عموم الطلاب منه و تجعلهم يحبوّنه و يعتبرونه اباً ثانياً و كان قسم يقدّسه و يطيع توجيهاته. . 

و هنا مررت بموقف لم انسه في حياتي كطالب. . حيث جاءنا مطبّق في درس اللغة العربية عُرف عنه انه كان من المعلمين التقدميين الديمقراطيين. . كان حريصاً على افهامنا مايريد طرحه لنا كمعلّم و لو بالتهديد و الاستهزاء ممن لم يفهم! و كان قد اعطانا موضوعاً عن (صيد الدرّاج) لكتابة موضوع إنشاء عنه. . 

الاّ انه و كأنه صُعق من مواضيع الطلاب و صار عصبياً و صاح بنا:

ـ انتم اغبياء. . سرسرية !!!

شعرت بالإهانة و كأنه يوجه الشتيمة لي و اجبته:

ـ احنا لا اغبياء و لا سرسرية !!

ـ اغلق فمّك و اجلس في مكانك! و كان و كأنه يتهيأ للهجوم عليّ او لضربي. .

لم اجلس و انما تركت الصف راكضاً الى غرفة المعاون (الاستاذ النجاتي) الذي تفاجأ بدخولي عليه دون استئذان و تفاجأ بمظهري و اصفرار وجهي و كنت الأول على الصف حينها، و قال:

ـ ادخل ابني. . شنو القصة؟؟؟

و جاء المطبّق بعدي مباشرة و تفاجأ بإشارة الاستاذ النجاتي له بأن ينتظر و ان يعود الى الصف و طلب منيّ بهدوئه ان اقصّ عليه ما حدث. . و حدّثته بذلك و قال :

ـ ابني . . المعلم كالأب او كالأخ الكبير و على الطالب احترامه و اطاعته. .

ـ لم اسمع من ابي كهذا الكلام بحقيّ !

ـ ابني . . ابوك رجل محترم و طلابه الآن معلمين و كثير من المعلمين يتخذوه كقدوة لهم. . في سبيل كلمة و موقف عانى و يعاني من محاولة قتله من اشرار فاسدين الى حرقهم لبيتكم. . لا مجال للمقارنة. احنا وْلد هالمجتمع اللي بيه الطيب و بيه الشرير ابني، يعني هالاشرار و العنيفين و الانفعاليين هم ايضاً ولد مجتمعنا. . لانعرف عوائلهم و لا ظروفهم كيف ولدوا و كيف عاشوا و ماذا عانوا حتى صاروا ينادون بالتغيير و الثورة. . لا نعرف ما في داخلهم. .

ـ لكن يقولون عنه انه ديمقراطي؟؟

ـ ابني ان يكون الإنسان ديمقراطي ليس بقراءة الكتب لوحدها. . التقدمية و الديمقراطية هي خُلق في التعامل مع الناس و الوقوف الى جانب الحق و العدل، الناس تحترم الديمقراطيين لأنهم يضحوّن بكل غالي و حتى بارواحهم في سبيل حرية الشعب و حياته الكريمة. . و لدينا في مجتمعنا الشرقي منبع الأديان، لدينا القرآن يعلّم على الخُلُق الفاضل، و رجال الدين الأفاضل المشهود لهم بالنزاهة و محبة الناس، تحبهم الناس و تطيع مايشيرون به، و هم غير رجال الدين من الذين يتاجرون بالدين للحصول على منافع انانية بالخداع او بالقوة و يقول تعالى في كتابه الكريم (وجادلهم بالتي هي احسن) و (لا إكراه في الدين) . . اضافة الى ماتعلّم به كتب النظريات و الفكر الإنساني التحرري. . لايكفي ان يُقال ان ذلك تقدمي او ديمقراطي بكلامه الاّ بالتجربة الحياتية معه و التعامل معه. . هسّه ابني تروح للصف و تعتذر من الأستاذ!

ـ لكني لم أخطئ ، هو المخطئ بشتائمه على طلابه !

و بعد صمت بدا عليه انه يقلّب افكاره قال الأستاذ النجاتي:

ـ ابني تروح هسه للبيت و من الغد تلتزم بالحضور و في حصة المطبّق تأتي اليّ لأذهب معك بهدوء و كأن شيئاً لم يحصل و تواصِلْ بالحضور للصف. . سلامي لوالدك ابني.

. . . . .

. . . . .

في فجر صباح احد الأيام سمعنا اصوات اطلاقات نارية تأتي من جهة الشط و لم نستطع تحديد مصدرها . . و خرجنا الى طريق المشاة الممتد على طول النهر و وجدنا ابرز وجوه المنطقة متجمعين هناك و يتبادلون الاحاديث عن اضراب عمّال السيكاير في معامل دخان عبود الواقعة في الكسرة في طريق يمتد بمحاذاة البلاط الملكي القديم. . و تبيّن ان عدداً من الحاضرين كانوا يتابعون احداث الإضراب و هم في نقاشات متنوعة:

ـ اضراب العمال هو للمطالبة برفع الأجور في معامل (حكومية) . . و هو حقهم الطبيعي وفق آليات عمل الإتحاد العام لنقابات العمال، لكن ان تصل الامور الى اطلاق الرصاص على العمال المضربين فهذه جريمة . . جريمة !!

ـ اطلاق الرصاص لم يبدأ اليوم . . بدأ منذ بضعة ايام و لكن كان اطلاق رصاص متفرّق و ليس كثيف كما يحدث اليوم . .

و قال الاستاذ ابو التمن :

ـ مرّ علينا في الشركة (الأستاذ عبد القادر اسماعيل) القيادي المعروف في الحزب الشيوعي، اثناء تفقده لمكتبة الأنوار التقدمية الشهيرة القريبة من الشركة، و التي يديرها الكادر (يعرب البراك)، إثر الهجوم الذي حصل عليها امس من عصابات تسببوا في حرقها و حرق مئات الكتب فيها، و قال اسماعيل ان اضرابا عماليا بدأ قبل شهور في احد معامل النسيج في الكاظمية حيث كان العمال يطالبون بزيادة الأجور و تحسين اوضاع العمل و العطل و الضمان الصحي و ان يُعترف باللجان النقابية قانونياً لتلعب دورها، و هي مطالب عادلة، و انتشر الاضراب الى كل معامل النسيج هناك، الأمر الذي جنّن الزعيم عبد الكريم و امر الإنضباط العسكري بكسر الإضرابات بالقوة، و قد عملت اللجنة المحلية للحزب هناك على التفاهم مع العمال بإنهاء الاضرابات قبل ان تُكسر بالقوة، و وعدهم بأن الحزب سيتابع امر تحقيق مطالبهم بالتفاهم مع مكتب الزعيم و الحفاظ على العلاقة الطيبة معه من جهة، و التفاهم مع اصحاب المعامل من جهة اخرى . . فخلدوا الى الهدوء منتظرين تلبية مطاليبهم التي لم تنفّذ الى الآن، و تفاجأ الزعيم باندلاع اضراب عمال السيكاير و قرر ايقافه بالتهديد باستخدام القوة، الاّ انه لم يتوقف فارسل وحدات من الإنضباط العسكري لإنهائه بالرصاص، الاّ ان صمود العمال و مقاومتهم بالحجارة اطال الإضراب رغم سقوط عدد من العمال جرحى بسبب استخدام القوة . .

ـ لماذا لا يلبيّ الزعيم مطالب العمال؟؟

ـ لأنه لايريد توسيع جبهة اعدائه كما شار له مستشاريه، لرفض اصحاب المعامل لتلك المطالب. .

ـ زين ليش مايعلن الحزب تضامنه مع مطالب العمال مباشرة او عبر نقابات العمال حيث نفوذه الكبير فيها خاصة و انه يعلن عن كونه (حزب الطبقة العاملة) ؟؟ يعني يجوز موسكو ترفض لأنها تؤيد الزعيم او بسبب سياسة خروشوف في التعايش السلمي و عدم تصعيد الصراعات الطبقية التي اقرها المؤتمر العشرون لحزبهم عام 1956 ؟؟ . . او لتشجيعهم العراق للانضمام الى منظمة دول عدم الإنحياز التي دعت لها و تقودها : يوغسلافيا تيتو، الهند انديرا غاندي، مصر عبد الناصر و التي اغضبت الغرب و خاصة الولايات المتحدة الأميركية . .

ـ بس موسكو شنو دَخَلْها ؟؟

ـ لأنها تقود الأحزاب الشيوعية في العالم . .

ـ بس مو الى هذا الحد . .

ـ احسن شئ سياسة الصين الشعبية التي تدعو الى تصعيد الصراع الطبقي ضد الرأسمالية الأميركية و الغربية في انحاء العالم . .

ـ الاسبوع الماضي جرت مظاهرة تندد بأميركا و عقوباتها و تهديداتها ضد يوغسلافيا الإشتراكية و ضد زعيمها تيتو، و كان اغلب المشاركين من الديمقراطيين و اليساريين و رفعوا شعارات تندد بأميركا و رددوا " كلنا تيتو . . كلنا تيتو !! " . . يعني اكو شيوعيين على خط تيتو ؟؟

ـ يعني احنا ربعنا على اية سياسة يسيرون ؟ السوفيتية او الصينية او التيتوية ؟؟

ـ السوفيتية . . لذلك يشاركون في مؤتمرات الاحزاب الشيوعية و العمالية في موسكو، الذي تقاطعه الصين و حزبها الشيوعي . .

ـ زين احنا شنو دخلنا بصراعاتهم ؟؟ نشكّل حزب عراقي للفقراء و يناضل من اجل حقوقهم، و شعبنا و شبابنا عندهم كل الطاقات لتحقيق اهداف على ذلك الطريق، و احسن امثلة على ذلك هو وعيهم و شجاعة نضالاتهم ضد الملكية و ضد الإقطاع و ضد الحرامية الكبار المتعاونين مع الإستعمار، و كانت اوسع الجماهير تؤيدهم و تشارك في نضالاتهم ان دعوا لها . .

ـ عزيزي ما تشوفون حدة الصراعات عندنا ؟؟ . . كل دعوة للتقدم و الحرية و الثقافة و المعرفة و الخير للبلاد و لأبنائها و بناتها تُواجه بالحديد و النار و القتل، في بلادنا الغنية بالثروات الارضية الطبيعية و بالزراعة و انتاج القمح و الخضار و المياه و بالشباب النشيط . . تواجه بالعنف من الدول الإستعمارية و دول الجوار اللي تتصارع بينها للإستحواذ على البلاد و تعمل بكل الطرق لتجنّد ناس و احزاب لها و تبث انواع الدعايات و الأراجيف و المخاوف على ادياننا و مذاهبنا بين شعب مضيّع فقير، تدنىّ وعيه بسبب افعالهم المشينة و بالقوة بتكريسهم للجهل و الفقر و المرض. .

الدعايات التي تحذّر من خطورة نشاط اي حزب ينحاز لقضية الفقراء بشكل جذري و يثلم عروشهم بل و يحرّضون على قتل ناشطيه و ملاحقتهم لكونهم كفّار و ملحدين و اباحيين، لكونهم يقفون ضد ارادة الله و رزقه لمن يشاء كما يدّعون  ؟؟ . . و عندنا كبار الإقطاعيين و كبار ملاّك الارض و رؤساء العشائر يتحكّمون بمصير و ارواح الناس بإسم الدين و المذهب و اكثر من هذه تجد رؤساء عشائر نصّبوا انفسهم ملالي و ائمة دينيين على عشائرهم و عشائر جيرانهم و على اقوام بكاملها، وفق وثائق و شهادات مزوّرة مدفوعة الثمن بكونهم من سلالات انبياء و اولياء طاهرين و بكونهم ليسوا بشر و انما مقدّسين مرسلين من السماء. .      

فأي حزب ينوي و يعمل على التغيير الثوري للمجتمع يحتاج الى من يساعده من احزاب و قوى وطنية داخلية و شخصيات اجتماعية لها نفوذها و مكانتها المحترمة في المجتمع، و من دول الجوار و العالم، ليؤمنوا له و لنشطائه المساعدة في نشاطاتهم، من اعلام و طباعة و نوع من الحماية و تأمين الهاربين من الملاحقات البوليسية، اضافة الى نشر اخبار عن حقيقة مايجري الى العالم و تحقيق تضامن احرار العالم معه، و الى تبادل تطورات الفكر و الخبرات، خاصة و ان هناك قوى ثورية تقدمية مثلنا في منطقتنا و في العالم. . و هي مساعدات متبادلة و ليست تبعية كما يفهمها قسم من الحزبيين و من الناس، بسبب قلة وعيهم و جهلهم و حتى البعض منهم صاروا قادة سياسيين من طامحين للشهرة و للمنافع الأنانية . .

ـ في كل الاحوال احنا نضالنا انساني يهدف الى التحرر و الديمقراطية و بالتالي الإشتراكية و العدالة الإجتماعية و الى انهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان . . لذلك احنا مع كل فكر و خط سياسي يمكن ان يحقق انتصار لبلادنا على ذلك الطريق، او ان يحقق الإنتصار للشعوب و للبشرية كي تخلق ظروفاً افضل لنجاح قضيتنا. 

و كانت تلك النقاشات تستمر و تتواصل كل مساء في تقليب انواع الطروحات و الأفكار، و تتأسف على ضعف اهتمام الحزب الشيوعي بالاضرابات و القضايا العمالية و ضعف رعايته لها، لأنه سيضعف النضال من اجل الديمقراطية في البلاد و ضد تفرّد الزعيم عبد الكريم الذي يتزايد و الذي سيجعل منه دكتاتوراً . .

و قد اشار مؤرخون و سياسيون بعد سنين الى ان تذبذب سياسة الحزب الشيوعي ذي الجماهيرية و الشعبية الواسعة آنذاك . . تذبذبها بين تأييد الزعيم و بين الإنتقاد الخجول لسياساته و لإسلوبه في الحكم الذي ادىّ الى عدم او ضعف الوضوح لدى اوسع الأوساط الشعبية و الى ملاحقة و اعتقال المئات من ناشطي الاحزاب الوطنية، بضمنها حزبه و مناضليه الذين أُعدم عدد منها، و الى ان تلك السياسة المتذبذبة، بكونها كانت تعود الى الصراع في قيادة الحزب، بين التأييد الأعمى للزعيم و بين الدخول في صراع ضده. .

الصراع الذي ادىّ الى ابعاد سكرتيره العام سلام عادل عن مسرح الأحداث و الى طرح سياسة (كفاح تضامن) و ان المرحلة ليست مرحلة (لا) بالكامل و لا (نعم) بالكامل و انما مرحلة (النعم و اللا معاً) . . السياسة التي ادّت الى ضبابية الرؤيا بسبب صعوبة تقرير الـ لا و تقرير الـ نعم لقرارات الزعيم، ايّها لا و ايّها نعم !! في مجتمع و احزاب الخمسينات و الستينات و درجات معارفها و وعيها و درجات وعي و معرفة قياداتها آنذاك، في مناخ الحرب الباردة التي كانت تسود العالم، مناخ انتصرت فيه ثورات في اعداد متزايدة من دول المستعمرات، التي قام بها عسكريون او حركات كفاح مسلح، و التي كانت تتناقلها الإذاعات و تثير حماس الشعوب للنضال و العمل من اجل الخبز و الحرية و التقدم.

و اشاروا الى انه فيما ادّت تلك الضبابية الى النقاشات الحادة للتوصل الى الموقف الصحيح من الأحداث، داخل الحزب و النقابات. . فإنها ادّت الى تفاوت المواقف و اختلافها بين منظمات و اخرى على اساس ماهية المواقف الصحيحة التي كان يقررها ما كان يتحقق فعلاُ من مكاسب حقيقية على ارض الواقع للكادحين، بتقديرهم . . و لم تستطع قيادة الحزب ان توحّدها و كان لها نتائج متنوعة . .

منها تصاعد دور نقابات و منظمات بعينها في معارضة قرارات مكتب الزعيم و بالتالي اختلافها مع قيادة الحزب، على ارضية غلبة افكار كيفية تحقيق الجماهير الكادحة و الجنود لإنتصار ثورة اكتوبر الإشتراكية عام 1917 اثر ثورة شباط الديمقراطية في نفس العام، التي جعلوا من ثورة 14 تموز و كأنها ثورة شباط آنفة الذكر في روسيا و كأنما الامور ستجري ميكانيكياً كما جرت في روسيا القيصرية المترامية الأطراف و المتعددة القوميات و الثقافات، دون حساب الفروق في ظروف البلدين و واقع الشعب العراقي و الشعوب في روسيا القيصرية آنذاك. في وقت سعت فيه القوى القومية و البعثية الى محاولة قلب نظام حكم عبد الكريم بإنقلاب عسكري بدعم نظام عبد الناصر في القاهرة . .

و قد توضحّت سياسة الحزب بعدئذ اكثر و استطاعت ان تلف اعداد متزايدة من المنظمات حولها، اضافة الى تحسّن العلاقة مع النقابات العمالية، و الجمعيات الفلاحية التي بدأ يتنفذ فيها عدد من اغنياء الفلاحين. . اثر عودة سكرتيره العام سلام عادل الى لعب دوره، و عمله على تشكيل هيئة للاحزاب الوطنية و دعوته الى اللقاءات الدورية بينها لتحديد وجهة وطنية واسعة للإصلاح، تعمل على اساس سنّ دستور دائم للبلاد و البدء بالتحضير لانتخابات وطنية. .

الدعوة التي لم تستجب لها الأحزاب سوى الجناح اليساري للحزب الوطني الديمقراطي ـ ناجي يوسف، و الحزب الديمقراطي الكردستاني، فيما ازداد تقرّب الاحزاب و القوى القومية و البعث من الدوائر المحيطة بالزعيم، في اجواء بدأت الناس فيها تحسّ بتجمع غربان و سحب سوداء على البلاد، اثر صدور قانون تأميم النفط رقم 80 . .

 

       ـ 16 ـ

 

   محطة لسنوات مريرة قادمة

                   

و استمرّت فترات نهاية ذلك الصيف على تلك الوتيرة و الاوضاع و الى تصاعدها و تبلورها اكثر و خاصة على الصعيد السياسي و تقلباته و انحداراته، الذي كان يؤثّر على كل اوضاع و ظروف الحياة بأصعدتها المتنوعة و علاقاتها في بلادنا، من عموم البلاد الى حياة العاصمة و حواريها و ناسها بفسيفسائهم المتنوع . . حتى صارت الحديث اليومي للناس و مثاراً لأنواع المخاوف . .

و في ظروف عائلتنا المادية الصعبة تلك، انشغل الوالد بتربية الدجاج للحصول على البيض الضروري لحياة العائلة و الأطفال و الذي كانت اسعاره تتصاعد بشكل لامعقول، و انشغل بمتابعة و دراسة انواع الكتب عن تربيتها، ساعده في ذلك اصدقاؤه المقربون الذين جمعتهم نفس الفكرة، من عبد الحكيم نعمان (حكوّمي) اخو د. عبد الصمد و الى الوجه الإجتماعي المعروف المربيّ جاسم الرجب اخو الحاج قاسم الرجب صاحب مكتبة و دار نشر المثنى و الى ابراهيم شيخ رشيد الأعظمي، حين شكّل الجميع ما كان يشبه المجتمع الصغير بلقاءاتهم الإسبوعية التي كانت تتناول الشؤون الإجتماعية و تبادل الخبر في تربية الدواجن . .

اضافة الى مناقشة تطورات الاوضاع السياسية التي كانت تزداد تعقيداً و خطورة، حيث استمر تزايد نفوذ القوى القومية و البعثية و قيامها بكل مايشقّ وحدة الصف الوطني بكل الوسائل، بدل اللجوء الى التفاهم، اضافة لاستخدامها العصابات الإجرامية المأجورة. . و استمرت في ممالئة و محاولات التقرب للزعيم على حساب مواقع الضباط الديمقراطيين و الحمايات و تزايد دورهم في الشرطة خاصة و بقية القوات المسلحة، و كانت تجري بخطط قام بها ضباط كبار و متنفذون مقرّبون من الزعيم، الذي كان قلقاً على زعامته من مخاطر الأحزاب و نفوذها و خاصة من اليسار. .

في وقت شدد فيه الزعيم و حكمه العسكري من ضغوطه على اليسار و من تقريبه الجهات القومية لخلق توازن بين الطرفين كما تصوّر هو، حيث اصدر عدة قوانين جرى فيها تسريح المئات من الضباط الأكفاء من الديمقراطيين بإحالتهم على التقاعد من جهة، و تصعيد الضباط القوميين و البعثيين، سواء بالرتب او بالمواقع الإدارية، حتى جرت خطط لتعيين ضباط قوميين كمساعدين او كوكلاء او نوّاب، للضباط القادة ان كانوا يساريين او من اصدقاء اليسار، و كان ابرزها التي صارت حديث الشارع، تعيين الضابط البعثي المقدم عمّاش وكيلاً لقائد القوة الجوية زعيم الجو الركن جلال الأوقاتي، علماً ان عمّاش كان ضابط مشاة !!

من جهة اخرى بدأت تنتشر اخبار عن ولاءات لعدد من الضباط الكبار ليس للقيادة العسكرية و انما للمرجعية الدينية العليا للسيد محسن الحكيم الذي بدأ ينشط سياسياً ضد اليسار في اول خرق كبير لمسار المرجعية العليا الذي دأبت عليه منذ مئات السنين بعدم تدخلها بالسياسة و عدم الإنحياز لطرف سياسي داخلي ضد طرف آخر حفاظاً على الوحدة الوطنية. .

حيث انتشر خبر تسويف او عدم تنفيذ اوامر الزعيم من قبل العميد حميد الحصونة قائد الفرقة الاولى التي غطّت ساحة عملياتها عموم المنطقة الجنوبية، حيث لم ينفّذ الاوامر بوضع الفرقة في حالة الإستعداد، اثر المفاجأة في خطاب الزعيم الذي اعلن فيه عائدية الكويت للواء البصرة و وضع الفرقة الأولى في حالة الإستعداد، حيث لم ينفّذ الإستعداد تنفيذاً لأمر المرجعية العليا للحكيم في النجف، في وقت طارد و اعتقل فيه افراد شعبة استخبارات الفرقة المذكورة من كان يبيع او ينشر علناً جريدة (اتحاد الشعب) لسان حال الحزب الشيوعي، او نشرياته و مطبوعاته . .

ذلك الأمر و غيره كانا يشيران الى زيادة توسع و انتظام الجبهة المعادية لليسار و الديمقراطية و المعادية للزعيم ذاته، و كانت تثير قلقاً حقيقياً بين عموم القوى التقدمية و اوسع الأوساط الشعبية الكادحة آنذاك. . التي كانت تحذّر من محاولات انقلاب عسكري لن يبقي و لن يذرّ . .

و انتشرت اخبارٌ عن انذارات في ايّام او اسابيع، كانت توجهها قيادة الحزب الشيوعي لمنظماتها بالإستعداد لإفشال او مواجهة محاولات انقلاب عسكري تقوم بها قوى تزداد تقارباً و تنسيقاً، مع شركات النفط و ايران و الى الكويت و مرجعية السيد الحكيم في النجف و الاقطاع و القوى البعثية و القومية الناصرية . .

انذارات وجّهتها القيادة بضوء (معلومات خاصة) كانت تصلها على حد تعبيرها، الاّ ان تلك المواعيد للإنذارات لم تكشف عن وقوع تلك المحاولات و افشالها. . حتى اخذت منظمات الحزب التي وضعت نفسها بالإنذار في البداية بكل حماس و لكن دون جدوى، فاخذ يفتر حماسها و يضعف ثقتها بالقيادة على ذلك الصعيد.

و بعد مرور سنين و بنتيجة دراسات قام بها عدد من الباحثين الجادّين و عدد من قياديي الحزب اللاحقين. . افادوا بأن تلك الإنذارات عن مواعيد انقلاب ما، بأنها كانت نتيجة ما سرّبته بعناية و دقة كبيرة دوائر خارجية عالية المهارة لإحداث خدر في منظمات الحزب الشيوعي، وفق ماخططت له من اجل انجاح القيام بثورة مضادة تجهز على كل المكتسبات الشعبية و التقدمية التي قامت بها ثورة 14 تموز و رجالها، و لتضمن لها الرجوع بالاوضاع و بعقود الاتفاقيات الى ماكانت عليه و بشكل اكثر صرامة قبل ثورة تموز 1958 .   

. . . .

. . . . 

في تلك الفترة صار عندنا في البيت دجاج بيّاض (الذي يضع البيض بانتظام) العائش مع ديكة المجموعة في بيتونة السطح و يتجوّل في السطح عند فتح ستارة البيتونة المكونة من نسيج سلكي واسع الفتحات و المستعمل بكثرة في عمل اسيجة الحدائق، و وجبات صغار الدجاج و افراخ الدجاج (الكتاكيت) التي وضعناها في غرفة صغيرة في الطابق الثاني، كانت معدّة لمؤونة البيت و التي بقيت متروكة في وقتنا. . و هكذا توفّر البيض عندنا في وقت تصاعدت فيه اسعاره في السوق و تسببت بمشاكل معيشية حقيقية خاصة للعوائل محدودة الدخل.     

من جهة اخرى، كان نوم السطوح قرب النهر و اعداد شُرباتْ الماء (تُنَكْ الماء) و وضعها على سياج السطح يتميّز بنوع من الفرح و بشاعرية خاصة بتوفر ماء شرب بارد في قيض الصيف. . حيث كان العديد من الجيران في الأماسي يجلسون عند السطوح و يتحدثون بانواع الأحاديث سواء كانت عمّا دار في ذلك اليوم او عمّا كان يدور في المحلّة و في عموم البلاد . .

و كثيراً ماكانت انواع الضحكات و الشهقات و الصيحات العالية تتصاعد عن حدث ما سواء كان مفرحاً او فضائحيّاً او كان يدور همساً و تصاعد فجأة، او عمّا كان يَعرض التلفزيون الذي كان عدد من الجيران يحملوه معهم الى السطوح، يشاهدون البرامج و هم يكرّزون انواع الحبوب او يتناولون اشياف الرقيّ التي وضعوها على السياج لتبرد قبلئذن. .

بل و شكّلت السطوح اوقات العصر و المغرب، في محلات بغداد الأصلية و القديمة و كأنها عالماً آخر فإضافة الى قصص العشق و الهيام في السطوح في الأماسي . . هناك قصص اخرى في الظهاري الحارة وقت الصيف حين تخلو السطوح بسبب الحرّ اللاهب، و التي صارت عناوين لروايات و كتب و دراسات وصولاً الى . . (حب في السطح)، (رسائل السطوح)، (قبلات في السطح) و الى (مفاجآت في السطوح)، (جريمة في السطح) و غيرها و كأنها تروي قصصاً عن عالم آخر . .                     

و بتغيّر مساقط سطوع الشمس بمرور الصيف، اخذت اشعتها تسطع على فراشي بوقت مبكر كثيراً، الأمر الذي اضطرني بمساعدة محمود ان انقل سريري الى زاوية تتأخر اشعة الشمس عند الوصول اليها، و صادف ان كان الجيران عبر السياج في تلك الزاوية، من جيران السطوح المطلة بابهم على الزقاق الآخر، و كانوا كثيري الأحاديث و بأصوات عالية حتى خلال الليل . .

و في هزيع متأخّر من ظلام احدى الليالي، ايقظتني من النوم صرخة شبه مكتومة لإمرأة جعلتني اقف محاولاً استجلاء ما كان يحدث خلف سياج السطح (التيغه)، و سمعت حديثاً مثيراً :

ـ على كيفك حاجي . . عوّرتني !!

ـ ليش عيني ام جهاد . . احنا مو اتّفقنا نسويّها الفجر !! و اخبرتك بأني سأكون اقوى عند الفجر كما سمعت من اصدقائي و تجاربهم . .

ـ اي بس هذا صاير عبالك ما ادري شنو ههههههههههه اتذكّرت حجاية اميّ لمّا كالت هو ما ادري شنو . . لاهوّ عظم و لا هوّ عصب و لا هوّ عضلات . . هو شئ الله خالقه رحمة للناس ههههههههه.

ـ ههههههههه اي اضحكي عيني، المرة الجايّة انتبه اكثر لأن بعدج زغيرة . . هاي زوجتي الاولى مكسورة الركبة كانت دائماً تتأفأف سواءً بتالي الليل بعد ما ناكل بقلاوة او عند الفجر . . مريّه صلفة ماعدها ذوق ابد حتى في الفراش . .

ـ لا و الله حاجي آني غشيمة . .

و اخذت تترنم مغنيّة :

ـ بين الجرف و الماي . . بطة و صدتني تره تره تره رم

ـ ههههههههه ولج عيني اني اموت على البطّة

و مع بدء البرد و تقلبات الحرّ و البرد، صرنا نواجه مشاكل من نوع جديد لم نألفها من قبل . . فقد قفز جرذ كبير من فتحة التواليت و اخذ يجري بسرعة اخاف بها اختي الصغيرة و هرّنا الذي صار كبيراً بعد ان وجده والدي في احدى سواقي الماء الوسخ الجاري في الزقاق مكسور الذنب، و اخذنا نعتني به و صار هرّاً كبيراً بل صار و كأنه جزءاً من حياتنا اليومية تلك . . العجيب ان الوضع هنا قد اختلف و صار الجرذ هو الذي يخيف الهرّ و يركض وراءه و كأنه وجد طريدة ما . . و ازداد عدد تلك الجرذان.

كانت الجرذان تغطيّ بيوت المنطقة المطلّة على النهر . . و كانت تخرج عادة في البيوت عند الخريف من فتحات المجاري التي تصبّ في النهر . . بحثاً عن الدفئ، كانت كبيرة الحجم تدخل من فوهات انابيب المجاري المفتوحة على النهر و تسير عبرها الى اماكن الدفئ من فتحات التواليتات و البالوعات، و تتسبب بخوف و رعب عند الأطفال خاصة و عند والديهم خوفاً من مهاجمتهم للاطفال الرضّع، حيث انتشر خبر عن جرذان هاجموا رضيع و قتلوه بعد ان نهشوا لحمه . .

و تذكّرنا احاديث عزّت ابن بيت النجار عن بيت خاله و خوف زوجته الشابة من تلك الجرذان حتى صارت تبول على ملابسها ان رأتهم و لذلك انتقلوا من المحلة، و احاديثه عن صنف ذي خط اسود على طول ظهره من تلك الجرذان الوحشية، التي قد تهاجم البشر ان عضّ عليها الجوع . . و لم تفد مع تلك الجرذان مصيادات الفئران المعدنية، لأنها كانت تستطيع ان تسرق الطُعُمْ الموجود فيها و تفلت منها، او تضرب طرف المصيدة لتقفز و تفلت الطُعُم . . 

دخل الشتاء و بدأ موسم الأمطار التي كانت غزيرة كثيراً في تلك السنة و تسببت بالعديد من المشاكل للعائلة جرّاء السكن في ذلك البيت القديم حينها، فبعد ان انتقلت اختي الكبيرة شذى و تسجّلت في (متوسطة الوثبة للبنات) التي كانت في البناية الكبيرة المجاورة لبيت (توفيق السويدي) في الصالحية، حيث تسجّلت في الوجبة النهارية الثانية للدوام اليومي (بعد الصباحية) لتقوم بالعناية باختي الصغرى ذات السنتين بغياب الوالدة لدوامها كمعلمة في شمال العاصمة كما مرّ حتى عودتها، لعدم وجود من تستطيع تركها لديهم في المحلة . .

اصيبت اختي الكبرى شذى بالتهاب قصبات متكرر تطوّر الى التهاب مزمن رغم انواع العلاجات و مراجعات الاطباء، بسبب برودة البيت و الرطوبة العالية فيه التي كانت تسببها المياه التي لم تتفرّغ بسهولة من ارضية البيت لارتباك المجاري القديمة، و الرطوبة العالية لجدران حوشه الداخلي، حتى تطوّر الالتهاب الى (ذات الرئة) الذي بقي ملازماً لها طيلة حياتها، زاد منه تعبها و ارهاقها بسبب عنايتها و انشغالها بالأخت الصغرى و بسبب جهودها الكبيرة للتفوق الدراسي . .  

و ظهرت مشكلة حقيقية اخرى غير مألوفة في ذلك الشتاء. . حيث نزلتُ في صباح يوم ممطر من غرفة نومنا في الطابق العلوي لأذهب للتواليت الواقعة في منتصف دراج السلّم نصف المكشوف المبلل بالمطر . . فاحسست بلسعات كهربائية كانت تزداد قوة كلّما نزلت السلّم اكثر و كنت اتصوّر انها من خدر الساق و القدم بسبب النوم، الاّ انها ازداد قوة حتى صارت و كأنها صعقات كهربائية من جهة ارضية الدراج، و من الجدار الرطب الى يدي ان استندت اليه . . كل ذلك مع ضرورة الحذر الشديد ان خرج جرذ من فتحة التواليت . .

و بعد آراء و نقاشات متنوعة مع الجيران و ذوي الخبرة و ممن عرفوا البيت و بيوت المنطقة تبيّن، ان البيت لقدم بنائه و عدم الاهتمام بإدامة و تصليح تأسيساته الكهربائية، جعل اسلاك وايرات الكهرباء عارية تسرّب الكهرباء ان صارت الجدران الملاصقة لها رطبة . . ولم يكن امامنا الاّ اتخاذ التدابير الوقائية بعد ان لم يستجب صاحب البيت مالك فندق بورسعيد في ساحة الشهداء لطلبنا المتكرر منه بالتصليح . .

و على ذلك اخذنا نرتب تلك التدابير بلبس قبقاب خشبي عند صعود و نزول الدراج و لمّا لم يكن ذلك عملياً وصلنا الى قطع كهرباء البيت من الميزانية عند المطر، و استخدام الفانوس عند الصعود و النزول ليلاً، و كان كل ماتقدّم مرهقاً الاّ اننا كنا مرتاحين لسكننا بأمان في بيت يأوينا رغم الإيجار الذي كان يرهقنا، بعد ان حرقوا بيتنا و ضيّعونا كعائلة و اطفال . .   

. . . .

. . . .

في احد الأيام زارتنا جدتي امينة صحبة الخالة سعيدة و كانت تحمل انباءً سارّة بأنها استطاعت تصليح بيتنا الذي احترق في الاعظمية بالتعاون مع برهوم و اخيه محمد، و تحمّلت هي و الأخوين مصاريف التصليحات و انهم استطاعوا عرض بيتنا في الأعظمية للإيجار و انهم وجدوا مستأجر و انه سينتقل و يدفع الإيجار اعتباراً من الشهر المقبل. . و كان ذلك خبراً سارّاً فعلاً لأنه سيخفف من اعبائنا المالية و يمكن ان يجد حلاًّ لنا للانتقال الى بيت احسن و أأمن و يمكن ارخص . .

و في غروب ذلك اليوم و في غمرة تلك الأحاديث الشيّقة و النقاشات و اين يمكن ان نسكن . . في الوزيرية ام في الصليخ ام في الكاظمية. . ؟؟ لمحت الخالة سعيدة رجلاً عند سياج السطح و هو جالس و يراقب اهل البيت في ساحة الدار و كنّ كلهن نساء ماعدانا نحن الصبيان . . و صاحت باعلى صوتها :

ـ حرامي !! حرامي !!

و اثر صياحها تقسّمنا نحن الصبيان بين من صعد الدراج الى السطح و بين من خرج الى الجيران و كنّا جميعاً كأنما خالتي وجدت حلاَ بالصياح . . كنا نصيح ايضاً بأعلى اصواتنا :

ـ حرامي !! حرامي !! 

و امتلأت سطوح الجيران و الزقاق بالناس رجالاً و نساءً و اطفالاً . . بينهم من حمل هراوة و من حمل عصى و من حمل خنجر او سكيّن مطبخ و الكل يسأل : كيف مظهره ؟ ماذا يلبس ؟ دشداشه ام بنطرون ؟؟ و كان الشرطي الساكن في زاوية خان المولى و المسمىّ (محمد حرامي) بطوله و بكرشه و بدشداشته الفضفاضة الشاد عليها حزام عريض و مثبت عليها مسدس و خلفه زوجتيه، احداهما ببلوزة حمراء كانت تعدّل من حمّالة صدرها . . كان الشرطي يردد و عينه تتلامع من السّكُر :

ـ مستحيل حرامي يقترب من محلة (محمد حرامي) . . اكص راس اللي يقترب من محلتنا و ادخّله منين ماطلع . . و  و

حتى صاحت زوجته ام البلوزة الحمراء :

ـ على كيفك حموّدي كافي . . احنا مو اتفقنا اليوم السره مالتي . . لاتصير عصبي بعد عيني انت . . تره بعد ماتكدر !!

و رغم التضامن الحقيقي و الجاد لأبناء المحلة و وقوفهم وقفة رجل واحد لمواجهة اي انتهاك لحق او لحرمة ما فيها، الاّ انهم لم يجدوا غريباً او مشتبهاً به و انفضّ ذلك التجمع بالتدريج رغم بقاء عدد من الرجال و هم يقضين عند الزوايا و المواقع المهمة في الزقاق، حتى هدأ الموقف . .

و قد فتح ذلك الخبر السار الذي حملته الجدة أمينة و ما ساعدتنا في عمله لنا . . فتح باباً لفرحة لاتُنسى حينها و بقي السؤال (ماذا سنعمل ؟؟ ) قائماً و الى اين سننتقل ؟؟ . . حيث كانت نقاشات و اقتراحات الوالد مع اصدقائه المار ذكرهم تستقر على ان ننتقل الى الكاظمية، حيث سنكون قريبين اليهم و خاصة الى حكوّمي الذي انتقل من الأعظمية الى الكاظمية في (كاع حمّد) و كان يريد ان يكون اقرب اصدقائه قريباً اليه، و كذلك الساكنين منهم في الأعظمية و شارع المغرب حيث سيكون بيننا فقط عبور جسر الأئمة . .

اما الأهل و الأقارب، فكانت جدتي و برهوم مع الإنتقال الى الكاظمية لنكون قريبين اليهم في سكنهم في الاعظمية ـ محلة الشيوخ و الدهدوينة و بيناتنا فقط (عبرة الجسر) . . و كان عميّ الاصغر الصحفي و الاديب اللامع عبد القادر البراك الذي اسس اكثر من جريدة يومية اهتمت بالأدب و التراث، كان مع الانتقال الى الحارثية حيث كان يسكن في حي الصحفيين الجديد بشوارعه المبلطة حديثاً ، لنكون قريبين على بعض . .

و اخيراً انحلت النقاشات و استقرّت على ان نتحوّل الى الكاظمية، ففي لقاء جمع الوالد و حكوّمي في مكتب المحامي اليساري المعروف (كاظم الطائي) الواقع في الكاظمية ـ باب الدروازة، اشار المحامي الى عرض بيت للإيجار يملكه السيد (بُخيّ) و كان قصاباً شهيراً عُرف عنه حسن تعامله، و ان البيت يقع في حي جديد قرب (ثانوية الأنباريين للبنين) عند شارع المحيط القديم (لأنه كان يحيط بمدينة الكاظمية قبل عقود) و الذي سميّ بعد الثورة بشارع موسكو، الاّ ان الإيجار كان مرتفعاً و لاقدرة للوالدين على دفعه. .

و اخذ صديق الوالد الكظماوي (مهدي الملاك) على عاتقه ايجاد بيت للإيجار لنا، الى ان اخبر الوالد يوماً عن بيت مبني حديثاً في البيوت الجديدة لـ (محلة بستان شيخ حسين) في الكاظمية، الواقعة عند نزول جسر الأئمة من جهة الكاظمية. . و استقر الوالدان عليه بإيجاره الذي كانا قادرين على دفعه آنذاك، مع استلامهما بدل ايجار بيتنا في الاعظمية. .

في وقت استمرت و ازدادت فيه اوضاع التناحر في الأعظمية حيث بيتنا المُلُك و اصبح من المستحيل العودة اليه، و لم نستقر في الشواكة لأوضاع السكن الصعبة و خاصة الرطوبة و تسرّب الكهرباء و ضرباته و الجرذان المخيفة . . التي جرى الحديث عنها، و غلاء الإيجار الذي رفعه مالك الدار مرة اخرى . .

اضافة الى كثرة المصاريف والجهود حيث بقيت الأم تعمل معلمة ابتدائية في الصليخ الواقعة في اقصى شمال العاصمة، حيث كانت تذهب (ذهاباً و اياباً) كل صباح بباصات المصلحة من الشواكة الى باب المعظم ومن هناك بباص المدرسة الى مدرستها في الصليخ ومعها ابنتها الثانية سوسن، في الوقت الذي كان فيه الأبن الأكبر مفيد يداوم في متوسطة الكاظمية، التي انتقل اليها منذ ان كانوا في الأعظمية بسبب تكرار الإعتداءات عليه هناك، اضافة الى استمرار الوالد بالدوام في معهد الفنون الجميلة في الكسرة . . (يتبع)

 19 /7 / 2022

 

عرض مقالات: