عفا الله عما سلف

                                 و استمرت الحياة اليومية تسير من هدوء الى عواصف و الى ترقّب، بضوء قرارات الزعيم . . الذي اعلن فجأة عن العفو عمّن حاول اغتياله، في موعد عيد اضحى العام التالي على اساس (عفا الله عمّا سلف) . . الامر الذي اطلق انواع الاحتفالات و تعابير الفرح في الاعظمية، و الجعيفر في الكرخ . . وسط اندهاش و وجوم في محلات و عوائل بغدادية معروفة بتوجهها الديمقراطي و اليساري، لعدم شمول العفو ابنائهم و آبائهم، و بقي المئات من المعتقلين اليساريين و الديمقراطيين في السجون دون محاكمات . . بل بالعكس اخذت اعدادهم تزداد لتصل الآلاف . .

                 و بالعكس جرت احالة وجبات جديدة من الضباط الاكثر اخلاصا للزعيم على التقاعد، بينهم العقيد سلمان الحصّان و المقدم سعدون و المقدم ممدوح من محيط العائلة و الاصدقاء، بتهمة اليسارية او النشاط السياسي في الجيش، و وضع ابرز الضباط الاحرار اليساريين و الديمقراطيين من قمة الهرم الى قاعدته، تحت مراقبة اجهزة الامن رغم مواقع الكبار منهم في ذات القيادة العسكرية للزعيم نفسه، و بسبب ذلك العفو الوحيد الجانب للقوميين و البعثيين و الإحالات الكثيرة على التقاعد للضباط اليساريين و الديمقراطيين، انتشرت بين الناس تفسيرات و تساؤلات متنوعة بين منطقية و بين انها كانت من اناس تعرف ما كان يجري في كواليس حكم الزعيم . .

هل شكّل العفو ضربة الى محكمة الشعب العلنية التي كشفت خطورة القائمين على المحاولة ؟؟ و بالتالي قلق المحكمة من انهم اذا افلتوا فإنهم سيكررون المحاولة مرّات و مرّات، (و فعلاً بإفلاتهم اتوا بعد حدود سنتين مجدداً كقادة قتلة في انقلاب شباط المشؤوم 1963 . .) هل شكّل ضربة الى محكمة الشعب خاصة و انها كانت توصف بكونها يسارية. او لأن تلك المحاولة ادّت هدفاً من اهدافها و هي انها اخافت و اقلقت الزعيم، فأعلن عن العفو عن القائمين بها . . و يصف قسم من المتخصصين بأن الزعيم قام بتلك الإجراءات لإعادة توازن القوى القومية مع القوى الديمقراطية و اليسارية.

و ردّ آخرون بان الزعيم ان كان مهتماً بإيجاد ذلك التوازن، لماذا لم يعلن و يدفع لتكوين (لجنة تنسيق للاحزاب الوطنية عربية و كردية بشعار " لنعمل معاً ") التي طرحها الحزب الشيوعي على الاحزاب الوطنية ؟؟ . . فيما تساءل قسمٌ آخر لماذا لم يعمل الزعيم فعلاً على قيام برلمان وطني بضوء انتخابات عامة، وفق الدستور المؤقت الذي أُعلن اثر قيام ثورة 14 تموز . . ام انه خاف على كرسيه الذي قد يفقده اثر انتخابات عامة تؤدي الى حكم مؤسسات دستورية ؟؟

في نفس تلك الفترة اعلن مكتب الزعيم عن تأسيس مدينة اليرموك للضباط، التي تقرر ان تُبنى على مراحل و وجبات و ستُوَزّع دورها على الضباط باسعار زهيدة عبر اقساط تستمر مدة خمسة و عشرين عاماً، عبر جمعية بناء المساكن للضباط ، في خطوة فُسّرت بكونها لإرضاء ضباط الجيش و فسّرها كثيرون انها كانت في اطار محاولة لجعل الجيش العراقي بوحداته و بنائه كـ (الحزب الذي يسند الزعيم) و بقيادته بإعتباره القائد العام للقوات المسلحة، خاصة و ان الزعيم لا يثق الاّ بالجيش و يخاف من الأحزاب، بتأثير المقربين منه . .

و خاصة من الحزب الشيوعي لأنه مدعوم من موسكو، بتصوير مقرّبيه و بأن الشيوعيين ينظرون الى ثورة تموز كثورة كيرنسكي الروسية في شباط 1917 و يهيّئون للثورة الكبرى كثورة اكتوبر بعدها، رغم مرونة الحزب الكبيرة معه . . و يخاف من الاحزاب القومية لأنها مدعومة من القاهرة التي كانت تدعو علناً الى تغيير الحكم و الى الوحدة الفورية مع القاهرة بل و حاولوا اغتياله، حتى انه لم يتفهّم الحزب الوطني الديمقراطي الوسطي بقيادة الجادرجي و لم يأخذ بإعتراضاته على سياسته بل عمل على شقّه . .

و بالتالي لابدّ من التذكير إن الزعيم لم يأتِ الى الحكم بطلب او على رأس منظمة او حزب شعبي ينتمي اليه او يقوده، و لم يأتِ الى الحكم الاّ بعد اتفاق مع (جبهة الإتحاد الوطني) الشعبية التي وافقته على القيام بحركته العسكرية لإسقاط الحكم الملكي ـ السعيدي و اقامة الجمهورية . .

و لابد من الإشارة الى دور درجة الوعي الشعبي الهائل في التأثير على الاحزاب الوطنية و سياساتها، فإن التأييد الشعبي لخطوات الزعيم في ايجاد عدد من الحلول لأوسع الطبقات و الفئات الفقيرة، قد اثّر تأثيراً كبيراً على سياسات الأحزاب، و خاصة الحزب الشيوعي الذي امتلك تأييداً جماهيرياً هائلاً، تأييداً لم ينفصل عن التأييد للزعيم، الذي لم يُثقّف به الحزب الذي دعا الى (حماية الجمهورية و تعميق انجازاتها)، الاّ ان ذلك التأييد كان تأييداً حماسياً عاطفياً لم يثمر عن حركة شعبية منظمة تحمي ماتحقق من مكتسبات و تحمي الزعيم ذاته و تحظى بدعمه. 

                 و في تلك الفترة كذلك، أُعلن رسميّاً عن قيام اتحاد طلابي جديد لمنافسة ومواجهة الاتحاد الطلابي الشرعي (اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية) . . سميّ بـ (الاتحاد الوطني لطلبة العراق)، و عن قيام منظمة نسائية تواجه المنظمة الشرعية المناضلة (رابطة المرأة العراقية)، سميّت بإسم (منظمة نساء الجمهورية) اضافة الى (دار الأخت المسلمة) التي كانت كضوء اخضر للقوى الاسلاموية للنشاط . . و فُتحت لتلك المنظمات مقرات رسمية مدعومة مالياً و حكومياً، في جهات متنوعة من الأعظمية. و هكذا سارت الحال و كأنما على تواصل و تصعيد الصراعات الحزبية و تنظيماتها . . بدلاً من العمل لتشجيع التفاهم بينها  . .

                 و يرى محللون مستقلون، ان سياسة الزعيم الداخلية لم تختلف في الجوهر عن سياسة عبد الناصر ازاء القوى السياسية المصرية، التي ادّت الى محاولة اغتياله من الاخوان المسلمين من جهة، و ساق المئات من الاخوان المسلمين و عشرات الآلاف من الديمقراطيين و اليساريين الى السجون السيئة الصيت هناك، رغم انواع المرونة التي اتبعتها القوى الديمقراطية و اليسارية معه، حتى اعلن الحزب الشيوعي المصري حلّ نفسه، و دخل اليسار المصري في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي اسسه ناصر لدعمه هو، كمنبر من جهة اخرى . .

الاّ ان الزعيم عبد الكريم رغم كل محاولاته القاسية بحق القوى اليسارية و الديمقراطية العراقية من الاعتقالات المتواصلة و الى غض نظر اجهزته عن الاغتيالات بحق ناشطيها، بقيت تؤيده و تعمل على حمايته و لكن من جانب واحد، و وصل الحزب الشيوعي الى الإعلان عن حل منظمته العسكرية، و كان هاديه هو ما حققه و يحققه الزعيم للفقراء من جهة، و تعمّق الصداقة العراقية ـ السوفيتية من جهة اخرى، اضافة الى تصديق اقسام كبيرة لتصوّرها هي ان الزعيم (ابنها البار)، و الى (تفهّم) ان سياسته ضروري قبولها لعدم توفّر بديل آخر . .

استمرت سياسة الإغتيالات التي اتبعتها القوى القومية بحق الديمقراطيين، و بتعاون مع الاجهزة الخاصة لمكاتب الزعيم . . خاصة تلك التي وحّدت نفسها في اطار (الجبهة القومية) فيما رفع البعث شعار (البعث طليعة الثورة العربية)، في سعيه لضم كل القوى القومية تحت اوامره . .

                 ففي احدى امسيات تلك الفترة عرض تلفزيون بغداد في برنامج (السلامة العامة) حادثة اصطدام مرورية على طريق النجف، لسيارة فولكسفاكن مع شاحنة كبيرة محمّلة هرب سائقها و مات كل راكبي السيارة متفحمين، و بإدراج اسمائهم كانت المفاجأة الكبيرة، ان الركاب كانوا د. عبد الأمير السكافي و اخيه و ابني عمّه الذين كانوا ذاهبين الى مهرجان انصار السلام في النجف . .

                 كان د. عبد الامير السكافي سكرتيراً لحركة انصار السلام في النجف، و كان ذهابه الى المهرجان من ضرورات انجاحه بكلمته التي سيلقيها هناك . . و قبل ذاك كان قد عبّر اكثر من مرّة عن انه يُلاحق و قد يغتالوه بأي شكل، فكان يتحرّك مع مرافقيه المسلحين و هذه المرّة كانوا من عائلته الذين كانوا جميعاً معه في نفس السيارة . . و كان ذلك الاغتيال بشاحنة كبيرة خرجت من طريق زراعي لتسد الطريق على سيارته الفولكسفاغن التي كان يسوقها، صحبة اخيه و ابناء عمه، و احدثت اصطداماً مروّعاً ادىّ الى احتراق سيارته و تفحّم راكبيها و الى هروب سائق الشاحنة، و بقيت مناقشات تلك الحادثة المشؤومة و تطوراتها تُنقل على الهواء في التلفزيون لأكثر من شهر . . و سُجّلت الحادثة على ان مسببها كان مجهولاً . . (فيما كشفت سنوات لاحقة انها كانت خطة لإغتياله).

                 و قد اقيمت مجالس الفاتحة و العزاء على روح الدكتور عبد الأمير السكافي النجفي و رفاقه في كل الوية العراق، اضافة الى مجالس الفاتحة المحلية، و في مجلس فاتحة نسائي اقيم على روح الدكتور السكافي في الأعظمية جرى النقاش التالي بين المديرة الست منيرة الاورفلي و والدتي سعاد :

ـ للاسف خيرة شباب البلاد يذهبون ضحايا لصراع الاحزاب و نظرياتها و برامجها القادمة من الخارج، بلادنا تعاني من التخلف و الفقر و الأمية و الامراض و العادات الاجتماعية المتخلفة التي تزيد البلاد تخلفاً . . اين نحن الآن من الوحدة العربية الفورية و اين نحن من الاشتراكية ؟؟ بتقديري ان الزعيم يحمل افكاراً و يقوم بأعمال تخدم الشعب و تطوره و لا افهم لماذا تهاجمه كل الاحزاب و خاصة القومية و البعثية و الى درجة ما الحزب الشيوعي . .

ـ نعم عزيزتي . . المشكلة ان التخلّف نافذ في جميع الاحزاب لأن الأحزاب هي مؤسسات اجتماعية من ذات الشعب و افرادها رغم حملهم لأفكار جديدة الاّ انهم من هذا الشعب الذي ربّته سلطاته الحاكمة على الظلم و القهر و الجهل . . النظريات العالمية مفيدة و لكن ليس ان تؤخذ كنصوص قرآنية، و انما يُستفاد منها فائدة واقعية كمرشد في اطار ظروفنا و درجات وعينا و طموحاتنا كشعب متنوع الثقافات و الاديان، لمحاربة التعصب و التخلف و الجهل و العادات و التقاليد الموروثة كأنها مقدسات . . يستطيع الزعيم دعوة كل الاحزاب الوطنية للقاء و الاتفاق على برامج عملية للحكم . . لكنه يمكن ان يكون خائفاً من فقدان كرسيه، في ظروف اقليمية اوجدت قائداً كعبد الناصر الذي سحره حلم الزعامة على العرب، الذي تشجعه انواع الجهات المتضررة من حكم الزعيم في مقدمتها شركات النفط و الاقطاع . .

. . . . .

. . . . .

                 في نتائج الامتحانات النهائية لذلك العام نجحت الاول على الصف و اهداني الوالدان دراجة هوائية (بايسكل) ماركة " هركوليس "، كنت احلم بالحصول عليها، و صار عليّ تعلّم ركوب الدراجة الذي لم يكن سهلاً و لكن . . بعد طبّات و سقطات و حوادث صغيرة محدودة آذيت بها مرفقي و ركبتي و و . . تعلّمت قيادة الدراجة التي كأنها فتحت امامي عالماً جديداً في التجوّل و رؤية الاعظمية و حواريها و شوارعها الجميلة و خاصة الشارع المبلّط على السّدة المار على حافة النهر و الواصل الى (مسنّاية شيخ بلاسم) التي كانت بناءً كونكريتياً يحمي حافة النهر لإنشاء قصر (بلاسم الياسين) احد ابرز اقطاعيي الزمان الملكي . . التي توقف العمل عليها اثر ثورة 14 تموز. و بُني عليها لاحقاً قصر استاذنا البارز المرحوم د. كمال السامرائي. اضافة الى شارع عمر بن عبد العزيز و شارع المغرب و باب المعظم و الى مناطق السفينة و شارع الشباب و المناطق الشعبية . .

في احدى تلك الجولات على الدراجة الهوائية، وصلت الى شارع عشرين من جهة السدّة و قرب كازينو الراية العربية، شاهدت و انا بين الصبيان المتجمهرين ماسكاً دراجتي، موكب عرس قطع الشارع، جلس العروسان فيه ظاهرين على مسند الجلوس الخلفي لسيارة مكشوفة، و فرقة موسيقية كانت تعزف على الآلات الهوائية معزوفة (شيش كباب) الذائعة الصيت آنذاك خلفهما في سيارة بيكاب مكشوفة، و شكّل الموكب اكثر من عشر سيارات من مدعويّن، كانت احداها لرجال دين معممين . . المفاجأة ان العروس كانت شكرية بنت ام سناء !!

و كان في احدى السيارات عزوّز و هو بملابس اوروبية و نظارات سوداء، مرقت سيارته جنب سيارة العروسين، و كان يتكلم بصوت مسموع و السيارات تسير ببطئ و قال :

ـ ها شكرية هذا منين ؟؟ . . منو ؟؟ اشو آني ما اعرفه ؟؟

ـ مو قلت لك . . راح اتزوّج و العريس من الربع ؟

ـ ولج ياربع منهم ؟؟

ـ شيخ لاتصير سخيف الله يخليّك . . واحد من المعاميل !!

ـ ولج هذا يبيّن عليه غشيم !! انتي متأكدة انه يعرف شيسويّ هالليلة ؟؟

ـ بلي بلي سوّاها عدة مرات !! و آني و يّاك على العهد كما اتفقنا . . لا تغار !!

                 و بعد عقد الزواج الذي قام به شيخ و شهود في بيت العريس الذي غصّ بالضيوف الذين كان غالبيتهم من المشهورين بالسفاهة و بانواع السفالات . . تحرّك الموكب ليلاً نحو بيت ام سناء على وقع الـ (شيش كباب)، و استطعنا انا و عدد من صبيان المحلة اللحاق بهم بدراّجاتنا لفضولنا لرؤية ما سيحصل كما توقّعنا . . حتى استقر الجميع عند باب بيت ام سناء، و كان اصدقاء العروسين يمسّدون مؤخراتهما من اسفل نحو الاعلى او (يبعصونهما بصداقة) كما كانوا يقولون، لأن العروسين كانا يضحكان من تلك المداعبات، كي يثيرانهما جنسياً احدهما نحو الآخر كما هو متعارف في اوساط ام سناء و شكرية و عزوّز و من لفّ لفّهم .

                 دخل العروسان بيت ام سناء، مع عدد من الضيوف المقرّبين لهما و هم في هرج و مرج بسبب ادخال يد احدهم في سروال احدى الضيفات من الخلف دون مقدمات، و صرخت . . و تمزيق احد الضيوف السكارى ستيان احداهن التي عيّطت بصوت عالي : جرّ ايدك . . و الله اقطع ذكرك !!

                 و بعد هوسات و قرع طبلات و وقع رقصات، و عياط و هلاهل، فيما كانت صواني البقلاوة و الزلابية تدخل مليئة لتخرج بعد دقائق فارغة . . انسلّ المدعوون ذاهبين الى بيوتهم بضجيج من نوع آخر، هو نوع من العراك على تفاهة الاجور التي دفعها اهل العريس لأهل الموسيقى و لأهل الحلويات و التاكسيات . . حتى خرج الشيخ الذي عقد الزواج و هو يشتم و يتوعد، لأن احد السكارى من المدعويين السيّئي الصيت داعبه في مكان حساس .

بعد ساعات خلا بيت ام سناء من المدعويين و بقى فيه العروسان و ام سناء و يمكن اخت العروس ايضاً . . و أُطفأت الانوار و بقيت انوار مقهى محمد راغب المجاورة تضئ الشارع، وسط هدوء عام عمّ المحلّة حتى فتح باب بيت ام سناء و أُغلق بقوة بضجيج صحىّ الجيران الذين تسمّروا على شبابيكهم مما رأوه . . كان العريس واقفاً جنب باب ام سناء، في ركن يصله قليل من الضوء و هو عاري بالتمام و يطرق الباب بقوة و يصيح :

 ـ لج شكرية يا معودة عيب، افتحوا الباب . . الناس عبالها دا نسويّ سينما بلاش !!

ـ انجب مخنّث !! مزيقة و موكب و شيش كباب لكنك لم تستطيع . . صرت اني ما اعجبك ابو بولة ؟؟؟ 

ـ متعوّد اسويّها بيناتنا بس مو تحت مراقبة . . صوج امّج اللي طلعت من ورا الستارة تراقبنا و صاحت، تريد اساعدك ؟؟ . . . طبعاً طكّت روحي و ضاع صاحبنا !!

و صاحت ام سناء :

ـ ابن الكحبة . . تقشمرون علينا ؟؟

ـ لا و الله ما اقشمر عليكم . . بس مامتعوّد على الجنس الجماعي !

ـ انجب سرسري عبالك راكضة وراك ؟؟ الى هسه عشرات يتمنوّني و بشبابي جان الف واحد يتمنى بس يشوف اظفر قدمي . . و يسميّ جنس جماعي، ولك ردت اساعدك ابو بولة !!

و قالت شكرية :

ـ اميّ على كيفج وايّاه . . مو اخبرتك احنا مسويّها مرات و مرات و كان كل شي طبيعي و كأنما يفوت على زيت . . تعال ولك كافي، عقوبتك خلصت و اطمئن ماكو رقابة بعد . . اميّ انتي كافي . . يعني يمكن مخليه عينج عليه ؟؟؟ كافي كافي . .

و فتحوا الباب و دخل العريّس المسكين ابو بولة . .

. . . . .

. . . . .

                 و في عصر ذات يوم . . . كانت الخالة الكبرى فائقة في السطح الثاني الأعلى لبيتهم تنظّف الزاوية التي اعتادت ان تصليّ عندها، بعد ان حملت معها نصف ابريق ماء لرشّها ، وبينما كانت تعدّ مشربة الماء وتضعها على سياج السطح حيث ينامون على افرشتهم المعدة في السطوح . . لَمَحتْ فجأة ديكها الذي فقدته !! كان واقفاً على حاجز الجيران الذي يلي حاجز بيتهم . .

                 وقفت تتأمله جيداً و تتفحّصه ان كان هو ام لا . . حتى صاح الديك مكرراً صياحه نفسه الذي كانت تسمعه بين يوم وآخر ولاتعرف من اين كان يأتي ، فنادت مسرعة زوجة ابنها منوّر :

ـ عيني وردة . . تعالي شوية للسطح !

وبينما كانت وردة تتوجه الى السطح صاعدة درجات السلّم الذي كان يبدأ من ساحة الدار . . صاحت لتسمعها الحاجّة  :

ـ شنو القضية خالة ؟؟

ـ ابنتي . . شوفي هذا الديك ، انه ديكنا !! الم اقل لكم انه هنا بالمحلة لأني لا ازال اسمع صياحه كل فجر و كل غروب . . شوفي انه واقف على سياج بيت السكران . .

وبعد ان وصلت وردة الى حيث وقفت الحاجة . . نظرت جيداً الى حيث اشارت ، قالت :

ـ اي و الله . . حجية كلامك صحيح ! بس هسه شراح انسويّ ؟ بيت السكران مهجور والناس تخاف تذهب الى دربونة البيت، دربونة نجية الخبازة المسكونة بالأرواح . . ماتتذكرين يوم اللي سمعتي انينها و اصواتها التي تصاعدت وقت البرق والرعود و المطرة الكبيرة . .

ـ اسكتي عيني وردة . . نعم نعم سمعت الأرواح وهي تستغيث . . اللهم صلي على محمد و على آل محمد . . . بسم الله الرحمن الرحيم . . هو الحي القيوم . .

                 وبعد ان تناقشتا بهدوء و بوجهين شاحبين لتذكرهما الأرواح . . قررتا ان ترسلا ابن وردة البكر (سراج) الى هناك عبر تسلّق السياج الفاصل بين حوشهم وحوشي الجيران . . وان يحاول مسك الديك والإتيان به لجدته الحاجة فائقة او ان يحدد على الأقل اين هو وفي اي بيت بالضبط  . .

                 كانت الحاجة فائقة الساكنة في بيت ابنها منوّر الواقع في سوق الاعظمية القديم بين بيّاعي الخضار من الجهة الخلفية، قد اشترت ذلك الديك منذ عام . . ومنذ ذلك الوقت، كان هو سلوتها و مصدر فرحها لأنه و صياحه كان يذكّرها بزوجها المتوفيّ الذي برع بهواية اقناء الديكة الجميلة ذات الصياح الجهوري الجميل، خاصة و انه يصيح في الفجر و عند الغروب . .

                 كان ديكاً ابيضاً كبيراً تتلامع ريشاته كلمعان الفضة المذهبه، تحت اشعة الشمس . . التي كانت اشعتها تحيل لون ذيله الكثيف الداكن الى الوان القوس قزح الجميلة، التي كانت تزداد جمالاً عندما كان يسير مختالاً الى جنب دجاجات المنزل الطليقة في حوش البيت وحديقته الصغيرة . .

                   و قد فقدته الحاجّه فائقة مساء نفس اليوم الذي صاح فيه جيرانهم المجاورين، (بيت القصاب) . . يخبّرون عن وجود حرامي نزل من السطح و اختفى في بيتهم، حين حدثت ضجة كبيرة اثر صرخة ابنتهم الصبية من الفزع . . وبقى الجميع يبحثون عن الحرامي الذي دخل مخدع ابنة القصاب المدللة التي كان ابوها (لا يلبّسها الاّ الذهب) كما كانوا يقولون لكثرة المصوغات التي كانت تتزين بها من اساور و خواتم و اقراط ومصوغات تطلق عليها نساء الاحياء القديمة " سْلاحْ " ، كضمان للبنت عند الحاجة الملحّة. . بحثوا عن الحرامي دون جدوى، الا ان الذهب اختفى.

. . . . 

                 بعد ان شاهد سراج المكان من السطح و حددا له البيت المقصود . . جاء راكضاً اليّ كي نذهب معاً، فتسللنا مساء ذلك اليوم قبيل حلول الظلام . . عبر السياج و ذهبنا الى حيث اشارت له امّه وردة وجدّته . . حين بدأ الظلام يلفّ المنازل القديمة المنخفضة هناك . . وبينما كنّا سائرين بحذر اجتذبتنا اصوات رتيبة على ايقاع دفوف، فشاهدنا و نحن نبحث من موقعنا، في طارمة اكثر ارتفاعاً، حلقة ذكر لرجال ملتحين بملابس وبكوفيات رأس بيضاء وهم ينشدون باصوات بدى عليها الخشوع والضبط و على ايقاع الدفوف :

                                                    طلعَ الــــبدرُ علينا              من ثنيات الوداع     

                                                    وجب الشكر علينا              مـــادعى لله داع

                                                    ايها المبعـوث فينا              جئتَ بالأمر المطاع

                                           جئت شرّفت المدينة    مرحــــبا ياخير داع

                 وعلى اصوات الإنشاد الرخيمة التي كان يكسبها نقر الدفوف ايقاعاً مؤثراً ساحراً مع خيوط النهار المنسحبة الأخيرة . . لم يبتعد عني سراج عند بحثه عن مكان الدجاج ويصيخ السمع عسى ان يسمع قأقأتها ، وهو يسير بخفة و يحاذر ان لايصدر صوتاً وسط ذلك الجو المثير للخوف الذي كانت تحدثه اصوات تتعالى بين حين وآخر وهي تكبّر بصوت عالِ :

ـ حَيْ !!  حي !!

ـ الله حي ! الله حي !!

                 وبينما كنّا نتعثّر في عدد من الغرف المظلمة، بمخزونات حبوب و اطعمة وصفائح تنبعث منها  رائحة دهن الطبخ و استطعنا تمييز زوايا لمخزونات بنزين ونفط من روائحها . . رأينا فجأة عزوّز ملفعاً رأسه بكوفيته البيضاء، وكانوا ينادوه بـ :

ـ حاجي . . شيخ . .

                 واستغربت كثيراً من ذلك، لأني لم اكن اتصوّر ان ذلك المتهتك و اللاأخلاقي عزوز يحمل مثل تلك الصفات . بل ولم استطع ان اتصوّر ان الحاج او الشيخ يضاجع النساء ايضاً كبقية خلق الله ، لأن الشيخ و الحاج اسمى من ذلك لأنه شبه مقدّس في محراب تعبّد الخالق جلّ و علا، كما كنّا نسمع من جدّاتنا. و في ذلك الظلام الذي كان يزداد هيمنة وفي جو الرهبة ذاك ، سمعت حديثاً منبعثاً كالفحيح ، لم استطع ان اتبيّن اصحابه :

ـ كم جمعتم ؟!

ـ اكثر من ثلاث آلاف دينار، غير الذهب !!

ـ بس ؟؟ . . وبعد . . ؟

ـ . . .

ـ حصّلتم سلاح ؟؟

ـ حجي صالح قال ، حصتكم اربعة مسدسات . .

ـ وينها ؟

ـ بالمقبرة !!

ـ قولوا لهم . . نحتاج اكثر . . الهراوات وحدها لاتكفي !! و القائمة طويلة مو داتشوفون ؟؟  

ـ يمعوّد حاجي وافق . . اربعة مسدسات منين نستطيع نحصل عليها ؟ يعني هذا مو بُطر ؟ . . منين يجيبوها ؟

ـ ليك يابه . . هذوله وراهم سفارات و جيوش الدنيا !! مو مثلنا عايشين على الصدقات و الجوامع !!

ـ و انتو عايشين عالصدقات و الجوامع بس ؟؟ الم يأت صاحبكم من (لنده) ـ يقصد لندن ـ امس فقط و غرّقكم بالفلوس و كلّه اخضر ؟؟

ـ بكره عندي روحه الى (الشيخ عمر) و اتفاهم و ايّاهم و الاّ . . 

قال سراج متمتماً :

ـ هذول يتكلمون مثل الكاوبوي في افلام السينما . . فلوس وسلاح وناس رايحة جايّه لأوروبا ؟ يعني ذول المتسكعين والأشقيائية عندهم علاقات و صداقات و حبايب وايّا اوربيين ؟ يمكن قسم منهم يتحدث انكليزي ايضاً ؟ عجيب غريب . . يعني اذا واحد سولفهه لن يصدقه احد . .

                 قررنا ان نرجع من حيث اتينا الى منزل الخالة فائقة، بعد ان شاهدنا قسما منهم يتوجهون نحو الزاوية التي كنّا مختفين فيها، فانسحبنا بكل هدوء وحذر بعد ان صار احدهم قريباً جداً منّا ونسينا قضية الديك . . واسرعنا الى الزاوية الداخلية التي اظلمّت تماماً و تسلقنا السياج المتهرئ وعدنا الى البيت و سراج يكرر :

ـ الحمد الله والشكر . . الف الحمد الله والشكر !!

وحين تحدث عما شاهده وسمعه لم يصدقه احد ، لا امّه ، ولاجدّته التي قالت له :

ـ ابني صير رجّال . . انت ذهبت لجلب الديك . . لاتسولف قصص و روايات من خيالك . ابني هذا حرام !

هذول ناس فقره، ماعندهم غير الدين والأسلام والله ينصرهم .

ـ والدهن والحبوب والحلويات اللي مخبيّها ؟ و سوالفهم عن الذهب و السلاح ؟؟؟  جدّه هذول حرامية من كلامهم و شكلهم !!

ـ انجبّ ولك . . هسه جاي سراج يفهّمنا . . . ابني انت صغيّر بعدك ماتعرف !! افتهمت ؟؟ لاتحجي بالخيالات تره ماحّد يصدّقك و توكع بالف مشكلة ويؤذون ابوك . . استغفر الله ياربي !!

 

    الاغتيال   

                 اضطر الوالد لترك بيتنا خوفاً علينا و حذراً من الغدر، و صار ينام خارج البيت في بيوت اصدقاء و اقارب، و كان يأتي لزيارتنا كلّما هدأت الاوضاع في المحلة و بإشارة من برهوم. و كان  يتفقد بحرص كبير ادائنا لواجباتنا المدرسية و احتياجاتنا، و كنا نتواعد معه للخروج معاً الى اقارب او الى سينما او الى معهد الفنون الجميلة في أماسي مواسم التمثيل و الحفلات الغنائية و الموسيقية و في اماسي الاحتفالات العامة للمعهد . .

                 و في تلك الفترة صار اعتداء كبير على معهد الفنون الجميلة حيث يعمل والدي، لسمعة المعهد  المتزايدة بانحيازه لليسار و للزعيم و لمواكبه الإحتفالية في ذكرى ثورة 14 تموز و عيد العمال العالمي، و لوحات و رسوم طلابه و فنانيه و مثّاليه المنحازة الى حاجات و قضايا الشعب بمكوناته و الى قضايا العمال و المرأة و الفقراء . . التي انتشرت في الجرائد و وسائل الإعلام و على الحيطان البارزة في الساحات العامة في بغداد.

و اعتبرت القوى القومية و البعثية المعهد، معهداً لتعاليم اليسار و الإشتراكية و اعتبره الإسلامويون، معهداً لـ (الكفر و الرذيلة) لكثرة اعداد الطالبات فيه و غالبيتهن سافرات غير محجّبات و يتحدثن مع الطلاب (دون احم و لا دستور) بل و قد يتضاحكن معهم !! . . فخططت تلك القوى مجتمعة للهجوم على المعهد مع التهيؤ لإحتفالات عيد العمال العالمي، و ان يكون بالسلاح الابيض غير الناري، بشرط عدم احداث ضجة كبيرة، و ان يكون بعد انتهاء لعبة كرة قدم في ملعب ساحة الكشافة القريبة على المعهد، لتحقيق تغطية بداية . . ثم تجمعٍ كبيرٍ للمهاجمين و ليحقق الهجوم مفاجأة للإيقاع باكبر الخسائر . .

و بالفعل في وقت غروب الشمس في ذلك اليوم و بعد انتهاء لعبة كرة القدم و خروج افواج المشاهدين و المشجّعين الذين تحشّد المهاجمون بينهم، من الملعب . . بدأ الهجوم على المعهد الواقع في محلة الكسرة ـ الأعظمية مقابل بناية البلاط الملكي السابق (البناية الرسمية لمجلس السيادة آنذاك) . . . بدأ الهجوم بدخول عدد من المهاجمين من الباب الرئيسي للمعهد، و دخول اعداد كبيرة منهم من الابنية المحيطة بالمعهد عبر سياجاته، حاملين الخناجر و القامات اضافة الى المسدسات و غدّارات بور سعيد . . 

                 و هاجموا كل من وقعت اعينهم عليه او عليها بالسكاكين و الهراوات و انزلوا بمحتوياته . . من لوحات ديكورات المسرحيات و الآلات الموسيقية و ملابس التمثيل، و ابواب الغرف و غرفة العميد و غرف الإدارة و الحسابات و عموم غرف المعهد و مسبحه الصيفي الخلفي و حدائقه خسائر كبيرة و جسيمة في حسابات ذلك الوقت . .

                 و بسبب المقاومة العنيدة لطلبة و طالبات المعهد و عامليه من المتواجدين فيه في المساء، بما تمكّنوا عليه بايديهم و باستخدام قطع الخشب المتكسّر، صعد اثنان الى سطح المعهد و كانا يصيحان بطلب المساعدة من مقر (سرية الخيّالة المستقلة) القريبة، بعد ان وجدوا ان المهاجمين قد قطعوا اسلاك التلفونات و صارت الإتصالات بخارج المعهد مستحيلة . .

و بسبب تلك المقاومة غير المتوقعة، استخدم المهاجمون المسدسات و الغدّارات و بدأوا باطلاق الرصاص على المدافعين و المدافعات العزّل، و صعدوا الى السطح و رموا طالبي الإستغاثة من السطح، و سقط احدهم و كسرت ساقه، و استطاع الثاني ان يتعلّق بلوحة الزعيم الكبيرة للفنان فائق حسن المعلّقة على ذلك الجدار، و استند عليها في النزول الى الاسفل . . اللوحة التي كان قد اهداها منتسبو و طلبة المعهد الى الزعيم بمناسبة عيد الجيش، التي كانت تغطيّ واجهة الطابق الارضي و العلوي لذلك القسم من المعهد . . و قام المهاجمون بحرق تلك اللوحة التي اخذت تحترق بعدئذ ببطء . . 

لم تستجب سرية الخيّالة الى نداءات طلب الإستغاثة، الأمر الذي كان مبعث شكوك و استفسارات عديدة، بل لم تستجب قيادة السرية الى دعوات و صرخات الموقوفين السياسيين من اليساريين و الديمقراطيين الذين كانوا محتجزين فيها الذين دعوها الى الاستجابة، رغم ان السرية لم تكن موقفاً اصولياً او مكان احتجاز . . لم تستجب السرية رغم وصول احتجاجاتهم الى اعلى الاصوات و الى استخدام قدور الطبخ و اغطيتها في احداث ضجّة كبيرة في المنطقة السكنية المحيطة، وسط تهديدات الموقوفين بإيصال اخبار ذلك الإهمال الى رئاسة الوزراء . .

الاّ ان لجوء المهاجمين الى اطلاق الرصاص بسبب المقاومة التي واجهوها كما مرّ، اوقع حراسة سريّة الخيّالة في حرج وسط تهديدات الموقوفين السياسيين بالإخبار عن اهمالهم . . فإتّصلت قيادة السريّة بالشرطة و اخبرتها بأنباء ذلك الهجوم، حتى حضرت سيارات (الشرطة السيّارة) و الإنضباط العسكري و سيّارات الإسعاف بصفّاراتها المدويّة . . الأمر الذي ادىّ الى انسحاب المعتدين، بعد ان تسببوا بجرح عدد كبير من الطلبة و الطالبات و من العاملين، و تسببوا بخسائر ماديّة كبيرة للمعهد في اثاثه و اجهزته الموسيقية و لوازمه الفنية المتنوعة . . و انتشرت اخبار ذلك الإعتداء بسرعة البرق و جاءت حشود شعبية كبيرة متنوعة من مختلف الجهات، ساعية للدعم و للدفاع عن المعهد و طلابه و منتسبيه . .

و بعد ايّام بدأ المعهد بإشراف عميده الفنان التشكيلي الشهير د. خالد الجادر . . بدأ بإعداد برامج احتفالية و احياء مواسم مسرحية و موسيقية، بنشاط لجانه الطلابية و المهنية كإشارة الى ان (الفن باقٍ) و يزدهر و يتطور و ان معهد الفنون الجميلة و تطور دراساته و فعاليّاته هو احد قلاعه الثابتة، رغم مخططات القوى الظلامية . .

                 و كانت تلك الاحتفالات فرصة لنا نحن الصبيان الفرحين بلقاءات الوالد و بالتعرّف على الفنون الجميلة في البلاد، و خاصة الرسم الذي كنت ناشطاً به و تعلّمت من النقاشات هناك الى خلطات الوان جديدة و الى تطوّر وسائل التلوين بالنقاش مع الطلبة الذين كانوا مستعدين لكل توضيح . . اضافة الى ميول اختيّ شذى و سوسن الى الموسيقى و الغناء و ميولنا جميعاً الى التمثيل و مشاهدة و متابعة المسرحيات الهادفة و خاصة تلك التي تعبّر عن معاناة و مشاكل و احلام المحلات الشعبية . .

                 و قد اهتم بالحضور الى تلك الفعاليات الحاشدة،عدد من وجوه البلاد السياسية التي كانت تحاول شدّ عزائم منتسبي و طلاب و طالبات المعهد، و تحاول اعلان تضامنها معهم و استعدادها للدفاع عنهم  . . و الذي لا انساه منها كان حضور العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب، في احدى تلك الأمسيات، و سلّم على العوائل التي قدمت للتضامن مع المعهد فرداً فرداً و منها عائلتنا، كان انساناً بسيطاً متواضعاً في تعامله، و جلس في مكان فارغ كان جنبي في جلسة العوائل تلك من زوّار المعهد، رغم تأكيد المضيّفين عليه الى الجلوس في صدر الجلسة . .

                 لم املك نفسي الاّ بأن حدّثته عن ابن عميّ عدنان و زيارتنا له كسجين سياسي في معتقل بعقوبة ، و كيف كنت اذهب الى بيت عميّ في الفضل و أقضيّ ليالي هناك و كيف عرفت ان الزعيم كان يزور بيت اخته في المهدية . . فقال المهداوي :

ـ نعم ابني كان الزعيم يزور بيت والدتي في محلة المهديّة و كنّا نلتقي هناك قبل الثورة، بعيداً عن انظار المخبرين السريين . . نحن من عوائل شعبية و منحازون لقضية الفقراء، و لفهم قضية الفقراء فعلاً و دورها الهام في تكوين المجتمع، عليك ان تقرأ كتباً ذات قيمة تعرّفك على المجتمع و على الحقائق السريّة غير المكشوفة و التي تُحاط بأنواع فنون السريّة و الخزعبلات و حكايات الجن و السحر . . انصحك بقراءة مؤلف (البؤساء) للكاتب الفرنسي الإنساني الكبير (فكتور هيجو) للتعرّف على مايجري حقيقة في المجتمع، حاول ان تحصل على النسخة الأصلية و ليس التجارية. النسخة الأصلية في العراق موجودة في (المكتبة الوطنية) فقط للاستعارة، و البقية كلّها تجارية . .    

                 و لم انس تلك النصيحة الثمينة و فعلاً قرأت او درست مؤلف (البؤساء لفكتور هيجو) بنسخته الأصلية الصادرة عن دار اليقضة العربية بعد سنوات، حين استعارتها لي اختي سوسن من مكتبة المناضل الديمقراطي الكبير العقيد وصفي طاهر عن طريق ابنته نسرين . . كان المؤلف مكوناً من اثني عشر مجلداً كبيراً، جرّني ماعرض من حقائق الى قراءة المؤلف الأصلي للـ (الحرب و السلام للكاتب الروسي الكبير تولستوي)، لكون المؤلفَيْن يبحثان في احداث و مجتمعات و نفوس و سلوك طبقات نفس الفترة الزمنية التي تستعرض تأريخ اوروبا آنذاك.

                 شكّل معهد الفنون الجميلة آنذاك و كأنه ملتقى دولي لأنواع الثقافات العالمية بكل وسائل التعبير الإنسانية من الرسم و الخط و الى الفنون التشكيلية و المسرحية، و ضمّ فنانين و اكاديميين اوروبيين و اوروبيات و عرب، و باحثين عراقيين و عرب و من كل قوميات و مكونات العالم، بينهم الدارسين في تراث العراق الحضاري و حضارات النهرين . .

                 و لبساطة و حميمية العلاقات و الاحترام بين منتسبي المعهد و خاصة اساتذته و طلابه و طالباته ، شاهدنا و عرفنا اشياءً جديدة لم نألفها قبلاً، كالتعرف على الأستاذ الجيكي لآلة (الفلوت) الموسيقية، الذي كان طبيب اسنان و يهوى الموسيقى في براغ، و استطاع بجهود كبيرة ان يتفرغ للموسيقى و صار استاذاً لها في الأكاديمية الجيكية للموسيقى، و جاء بعقد حكومي الى المعهد . . و صار يعالج اسنان والدي في شقّته بتكاليف قليلة . .

                 و تعرّفنا و تبادلنا احاديث ممتعة مع الأستاذ الحاج ناجي الراوي بطل المسلسل الاجتماعي التلفزيوني (الفوّال) و مقدمته الموسيقية و ردّتها (فوّال فوّال ، عدّاد نجم . . فوّال)، و مع الأستاذ حميد المحل بطل التأتأة في مسرحياته، و الاستاذ و الممثل المعروف جعفر السعدي الذي كان يدرّب طلاّب قسم التمثيل على اطلاق الضحكات المجلجلة، فكان يطلق ضحكاته التي تهزّ القاعات المحيطة، و كان يتحوّل الى الحديث الجاد فجأة ليشرح كيف يطلق الممثل ضحكة مجلجلة . .

                 و كان الاساتذة يوصلونا بسياراتهم صحبة الوالد الى باب بيتنا في حال تأخر عرض مسرحيات الموسم الثقافي الى ساعة متأخرة من الليل وفق عادات يومذاك، تعبيراً عن الود و المحبة و حرصاً على الوالد من اعتداءات قد تطاله و تطالنا معه، ليوصلوا الوالد بعدئذ الى حيث ينام تلك الليلة . .

. . . . .

. . . . .

                 فتحت حادثة دربونة نجية الخبازة، باب فضولنا الكبير سراج و انا، الذي لم نستطع الفكاك منه و من سحر سرّها و سرّ اصوات الجنّ في الليالي ؟؟ و بقينا على الدوام نراقب مدخل ذلك الزقاق و نحاول الدخول فيه والى مسافة اعمق من السابق . . بعد ان كنّا نتأكّد من خلوه من اية مراقبة او حراسة . . بل انها زادت من فضولي و تفكيري بالسعي للذهاب حتى لوحدي . .

                 ففي ظهرية حارّة تسللتُ الى داخل بيت عبود الأقرع في الدربونة و سمعت اصواتٍ مكتومة تشبه اصوات انسان او اكثر و هو مكمم الفم محاولاً الإستنجاد . . فتسللتُ الى جهة الصوت و وجدت نفسي مقابل شباك خشبي قديم ضيّق محطّم الزجاج واطئ يصل قرب الأرض . . كان مغطىّ بغطاء صوفي شاهدت من خلال تمزقاته شخصاً مكتوف اليدين مكمم الفم يحاول الصراخ من تاثير الآلام التي كانت تسببها  ضربات عصى انهال بها احدهم عليه ضرباً على اماكن متورمة من جسمه، و هو يصيح به وسط انين متواصل يأتي من اماكن أخرى لمحتجزين آخرين لا يُعرف من اين اتوا بهم و لا كيف ادخلوهم الى دربونة نجيّة الخبازة و الدربونة يقع مدخلها وسط السوق الذي تبقى دكاكينه مفتوحة الى ساعة متأخرة من الليل . . كانوا يئنوّن من آلام الضرب و التعذيب الذي يتعرّضون له، و اهل المنطقة يعتقدون انه انين لأرواح و جنّ، كما اشاع عزوّز و جماعته :

ـ ويلك متى تتكلّم . . كيف نجد ابن الصفره الكبير !! تريد تموت ؟؟

ـ م م م

ـ ويلك !! صدّق لن ينفعك شئ، فالكبير ارسل لك من الكرخ اخيه (برزان الجندي) شخصياً وهذا مجنون لايتفاهم !! متى تعقل ؟؟

فجأة دفع باب المنزل عدة اشخاص ودخلوا باحة الدار و هم يتجادلون بصوت عالي عمّن سيذهب في الموعد القادم الى (الشيخ عمر) و كانت اعلى الاصوات، اصوات حجيّ صالح الملقّب بـ (عمّاش) و عزوّز، كما كانوا ينادونهم . .

اختبأت بسرعة في بيتونة (تحت) درج قديم و انا  احسّ عنف ضربات قلبي التي كانت كما لو انها سترمي قلبي خارج بدني. وبعد ان مرّوا من امام بيتونة الدرج الى باب الغرفة، انتهزت الفرصة لأصعد الدرج من هناك الى السطح، الذي منه قفزت الى السطح المجاور الأوطأ من الأول . .

                 ومن هناك الى بقايا حائط عريض مهدّم ينحدر الى الارض، مشيت عليه بكل سهوله كما لو كان السير عليه كالسير على ممر مُعدّ و مرتّب جيداً . . قاد عبر البيوت المحروقة الشناشيل المتروكة في الزقاق المؤدي الى بيت (صبرية الخبّازة) الذي كنّا نلتقي فيه لرؤية التلفزيون كما مرّ، اي الزقاق المؤدي الى الأزقة الضيّقة الواقعة خلف دربونة نجية الخبازة في الجهة الأخرى، التي تنفتح مقابل بيت القابلة "السستر حسيبة "، حيث كانت تتجمع هناك مياه آسنة قال عنها البعض :

ـ انها مياه امطار . .

وقال آخرون :

ـ انها مياه الصرف الصحيّ التي لاتجد منفذاً بسبب انسداد مواسيرها لقدمها !! و بسبب البيوت التي انهارت بسبب الحريق الكبير هناك، و قيل بسبب معارك الثارات هناك، التي ادّت الى انسداد تلك الأزقة  وصارت غير نافذة من طرفيها بسبب فيضان مجاري المياه القذرة.

و بينما كنت متفاجأ من انفتاح تلك الازقة على بعض . . رأيت هناك سيّارة عزوّز البيكاب الصفراء، حيث اكتشفت لأول مرة ان دربونة الخبازة نجيّة ليست غير نافذه (اي ليست مسدودة)، وانما هي تنفذ الى الأزقة الخلفية المذكورة عبر السطوح و الحيطان المتهدمة التي تنحدر الى الاسفل، و التي سويّت ممراتها . . لتنفتح في النهاية على الشارع العام النازل من جسر الأئمة، و حيث يمكن من هناك دخول و خروج شاحنات و حمولات و مختطفين الى تلك الشبكة من الأزقة القديمة، و الى دربونة نجيّة الخبازة من الجهة الخلفية . . و هكذا عرفت بأنهم يأتون بالمختطفين من تلك الجهة الخلفية عبر المياه الآسنة الخلفية و بعيداً عن السوق.

 

 وداعاً خليل ابو الهوب !

 

                 في يوم خميس، كنّا انا و محمود قد تواعدنا مع والدي في (المقهى البرازيلية) في شارع الرشيد، للقائه و لشرب القهوة البرازيلية اللذيذة التي سمعنا الكثير عنها . . كي يدلّنا على (مكتبة مكنزي) التي كانت تبيع الكتب و الصحف و المجلات الصادرة باللغة الإنكليزية، بعد ان اخبرنا الوالد ان الكثير من حقائق البلاد يمكن ان نجدها باللغة الإنكليزية فقط آنذاك، او اية لغة اوروبية عالمية . . التي يُفسح لمطبوعاتها المجال لأنها تحقق ارباحاً عالية للدولة من جهة و لأن قليلين يستطيعون القراءة و الفهم باللغة الإنكليزية، من جهة اخرى . .

                 و من رصيف (مكتبة مكنزي) تفاجأنا و نحن مع الوالد بقدوم موكب هائل اوقف الحركة في الشارع و بقي الناس رجالاً و نساءً واقفين على الارصفة يترقبون قدومه و هم يزدادون عدداً . . لم تكن مظاهرة و لا احتفال مبكّر بعيد العمال العالمي الذي كان موعده يقترب، و انما كان موكباً طغى عليه سكون مهيب سُمع من خلاله قرعٌ مؤثّرٌ حزين لطبول و دفوف بمقاطع عالية الاصوات كانت تهزّ شارع الرشيد هزّاً . . من آلات موسيقية هوائية تدعو الى المشاركة في الحزن و الألم، تقدّمتهم حلقة كبيرة من شباب و كهول كانوا يدبكون دبكاً حزيناً بطيئاً، على وقع تلك الألحان الحزينة و هم يلوّحون بمناديلَ بيضاء، تلويحة الوداع . . و يرددون :

قتلوا البطل خليل ابو الهوب !

قتلوا السائر على نهج الإمام علي و نهج الخليفة عمر و نهج الحسين الشهيد !

استشهد ابو الهوب كما استشهد ائمة الحق و العدل و من سار على طريقهم !

                 كان تشييعاً اهتزت له العاصمة بغداد هزّاً كبيرأ، شاركت فيه الوف مؤلفة من الرجال و النساء، وصل تعدادها الى اكثر من نصف مليون مشارك و مشاركة في ذلك الزمن، وفق مراقبين محليين و عالميين مستقلين، تشييعاً شاركت فيه الاحزاب الوطنية و في مقدمتها الحزب الشيوعي و الحزب الوطني الديمقراطي و البارتي و النقابات العمالية و اتحادات الطلبة و الشبيبة و رابطة المرأة و النقابات المهنية من نقابة المعلمين الى نقابة المحامين . .

حين بكت و لطمت العوائل الفقيرة دماً وحزنت الارامل والثكالى والايتام لان خليل ابو الهوب هو الرجل الشهم و مساعديه الذي كان يعين المحتاجين ويساعد الضعفاء وينشر الامان والاطمئنان بين اهل منطقته و مناطق بغداد الشعبية و خاصة الشرقية منها، و ذاع صيته في العراق بأسره كمثال للمناضل الجرئ في سبيل الحق، سار على خطاه المئات من الفتوات في مدن العراق.

استشهد ابو الهوب الذي تحولت على يده و يد مؤيديه من فتوات الأحياء الشعبية، تحوّلت مئات المقاهي الشعبية الى منتديات ثقافية داعمة للثورة ومنجزاتها، استشهد الذي كان احد المساهمين البارزين في تحويل المقاهي (المشبوهة بالتعامل بالممنوعات)، الى مقرات للشبيبة الرياضية و الثقافية و الفنية، و ساهم بسد طرق الانحراف والرذيلة، وحوّل تلك الاماكن الى منتديات تربّي على الوطنية وتبني ثقافة المجتمع الجديد الخالي من (الإدمان والمقامرة والمخدرات).

استشهد الذي بشعبيته و بنفوذه الواسع في عالم الفتوات و الأشقياء، و لصدقه في التعامل و جرأته، و حزمه بحق المذنبين و الإعتدائيين . . استطاع ايقاف العديد من الأشقيائية المجرمين و المأجورين عند حدّهم في محاولاتهم لمهاجمة الناشطين الديمقراطيين، الذين رغم محاولاتهم تجنب الاحتكاك، الا ان اعداء الثورة كانوا هم البادئين والمهاجمين وحصل ما حصل . . وكان القائد الشعبي خليل ابو الهوب هو احد ضحايا ذلك الزمان.

فانتشرت اخبار و تواترت اخرى، انه في احدى مقاهي منطقة شارع الشيخ عمر اجتمعت مجموعة متنوعة من جهات معادية للثورة كان بينهم عزوّز (في مواعيده في الشيخ عمر)، جهات كانت تخطط و تنفّذ اساليب جديدة للاجهاز على ثورة 14 تموز، التي بدأت بنهج الإغتيالات الذي كان يتواصل و كانت النقاشات فيها تدور حول اختيار مَنْ للاغتيال و من هو اللاحق ؟؟ وفق قوائم شوهدت وهي مطبوعة بآلة كاتبة حكومية كما شوهد و انتشر، و كما مرّ . . على رأسها مطالبة البعض باغتيال مجموعة من الشخصيات المحيطة بخليل ابو الهوب، فجاء الامر بالبدء بـ (خليل ابو الهوب.. عندها تتفلّش كل جماعته !!).

وفعلا اتخذ القرار . . و بعد مراقبات و تتبع متنوّع تحدد المكان، ففي احد الايام كان ابو الهوب في مقهى زناد في ساحة النصر في السعدون وبينما خرج من المقهى هامّاً بالصعود الى سيارته الجيب، انهمر عليه الرصاص من محترفين من اكثر من جانب، وحاول ان يسحب مسدسه ولكن لم يقوى لإصابته البليغة . .

و هرب الجناة باتجاه شارع ابي نؤاس حيث كانت تنتظرهم سيارة خاصة رباعية الدفع، ومنها ذهبوا الى ماخور في (محلة الميدان) ليبلغ القتلة مسؤولهم بأنجاز المهمة . . بعد ان تداخلت اعمال الاجهزة الامنية الحكومية مع القوى القومية في هدف (مكافحة الشيوعية)، بإشارات خضراء من شركات النفط و عدد من دوائر الحكومة الامنية . .

و منذ ذلك الحين شاع ان الجاني القاتل الرئيسي هو (الشقي محيي مرهون) البعثي الذي صار بعد سنين كما قيل آمر الإنضباط العسكري و كانت عمليته القذرة تلك، هي جواز مروره لذلك الموقع، في زمن اعتمد فيه البعثيون على قتلة و مجرمين مأجورين ثم على عسكريين في تنفيذ خططهم كما تأكّد لاحقاً، و خاصة بعد سقوط الدكتاتور الدموي صدام و انكشاف آلاف الملفات عن اسرار ما جرى و ما كان يجري، و وفق شهادات قياديين فيه على الهواء . .

و في كلمة المحامي محمد حسين ابو العيس عضو م. س للحزب الشيوعي في الحفل التأبيني الذي اقيم للشهيد، اتهم فيها اجهزة الحكومة في المسؤولية عن الجريمة الكبرى . . حين تواطئت المؤسسات الامنية وغضت الحكومة نظرها عن الجريمة وفاعليها واهدر دم قائد وطني شعبي عراقي اصيل، و قد ارسلت قيادة الاتحاد العام للنقابات في العراق الى اتحاد النقابات العالمي عن الجريمة، فارسل اتحاد النقابات العالمي برقية الى الزعيم استنكر فيها الجريمة و طالب بالتحقيق الفوري فيها و معاقبة قتلة القائد العمالي عضو قيادة الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق، و اجاب مكتبه الى الاتحاد العالمي، بأن ابو الهوب كان مجرماً عادياً قُتل في تصفية حسابات بين مجرمين !!

و قد اكّد مؤرخون و علماء مجتمع و سياسيون مستقلون، بأن مقتل ابو الهوب بتلك الطريقة الإجرامية و غيابه، قد صعّد العنف في تعامل الاطراف السياسية مع بعضها البعض، حيث حوّل عدداً من فتوات الاحياء الشعبية الى التعامل بالعنف دفاعاً عن النفس و ثأراً للشهيد ابو الهوب و مواجهةً للسلاح المنفلت وقتذاك . . (يتبع)

عرض مقالات: