البدايات

نسيمة حربي حبيب، والدتي، مواليد 1930 في مدينة الناصرية، تنتمي الى عائلة مندائية معروفة .. سجلت في المدرسة وتحصلت على شهادة الابتدائية .. توفيت والدتها بعد بضعة اشهر من ولادتها، فتكفلت خالتها (دنيا) على رعايتها فأصبحت لها اماً حنوناً ..

عام 1946 تزوجت نسيمة من والدي المرحوم عواد سعدون السعدي، وكان معلماً في كرمة بني سعيد .. هناك وجد طريقه الى الحزب الشيوعي العراقي واعلن انتماءه الى زوجته التي أيدته وساندته منذ اللحظة الأولى .. وكذلك الى والدتها التي احست ان هناك لربما اخطاراً معينة قد تواجههم في حياتهم بسبب ذلك .. فتجربة العمل السياسي على الرغم من حداثتها، لكنها كانت تستشعر مخاطرها .. كان والدي يدفع اشتراكه الشهري للحزب كلما سافر الى الناصرية فيحضر معه بعضاً من الادبيات والورقيات الحزبية .. وبدأت جدتي تدفع له تبرعا شهرياً بعد ان استهواها ما كان يقرأه عليها والدي ووالدتي ..

كانت أمي قارئة جيدة، فكانت تكثر من القراءات وكل ما يصل اليها، وتتفاعل مع كل ما تقرأ وتتعاطف مع الأفكار بحيث وجدت نفسها في طريق العمل السياسي، فانتمت الى الحزب الشيوعي العراقي عام 1953 ..  

انتقل والدي فيما بعد الى سوق الشيوخ ليعمل معلماً هناك .. ولأجل ضمان حياة جيدة للعائلة تفننت والدتي وجدتي في وضع نظام صارم للصرف بحيث توفر شيء ما لكل طارئ .. هناك تعززت علاقتهم بالحزب وتعززت علاقتهم بالمجتمع وأصبحت تحركاتهم اكثر ديناميكية ..

بعد ذلك جرى نقل والدي الى الناصرية للعمل كمعلم في المدرسة المركزية للبنين فكان عليهم العمل على بناء البيت الذي ورثه عن ابيه .. للبدء بالتحضير الى المرحلة الجديدة وهي مرحلة الاستقرار في الناصرية .. وعليه وجب بناء البيت ليكون مكاناً صالحاً للعيش ضمن الظروف الجديدة ..  

الناصرية

انتظمت والدتي، نسيمة، بالعمل الحزبي في الناصرية واصبح لديها علاقات رفاقية واجتماعات .. وقد استغلت ابنتها البكر في توصيل البريد الحزبي من والى رفيقاتها، وكان البريد الحزبي عبارة عن لفائف من الورق الشفاف كورق السكائر مكتوب عليها القضايا المطلوبة ..

كان للعائلة أول تجربة مع أجهزة الامن حين جرى اعتقال والدي بتهمة الشيوعية، بتهمة كيدية تشير الى ان هناك اجتماع حزبي وان احد المجتمعين عنده سيارة .. وكانت بالفعل سيارة احد الاقرباء الذي اشتراها توا ورغب ان يريها لهم .. انتهى الاعتقال بعد ان توضحت لهم الصورة ..

كانت الوالدة، نسيمة، وأمها دنيا، والوالد عواد، يحضون باحترام فائق من قبل جيرانهم على الرغم من مظاهر التفرقة الاجتماعية المتعلقة بالدين ..

بعد اندلاع ثورة الشعب ، ثورة الرابع عشر من تموز 1958 أصبح النشاط السياسي كثيفاً .. وبدا الكل يعمل كخلية نحل .. وتشكلت رابطة المرأة العراقية لتأخذ دورها العلني، وساهمت نسيمة في كل النشاطات التي قررتها الرابطة ، وأخذت على عاتقها مسؤولية قسم من تلك النشاطات مثل تعليم الخياطة والتطريز للنساء، كما كانت واحدة من قياديات الرابطة، وكانت في الطليعة عندما يطلب منها القيام بمهمة ما .. وكان هناك تنسيق بين الرابطة والحزب وكانت نسيمة وبإيعاز من الحزب تقود العديد من النشاطات التي تبرمج من قبل الرابطة والحزب .. وكان حينها المرحوم الدكتور عبد الرزاق مسلم سكرتيراً لمنظمة الناصرية حينها وهو أحد أقربائها .. كما شاركت في التهيئة الى كل الاحتفالات التي أقيمت في الناصرية برفقة والدي .. وقد ساهمت مع العديد من النسوة في التهيئة للاحتفال الذي أقيم بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاقة الثورة وكذلك في مناسبة عيد العمال العالمي ..

على الرغم من الأيام الجميلة التي عاشها الشعب بعد الثورة الا انه خلال عام 1959 بدأت القوى المعادية بالنهوض وأصبحت الاعتداءات على المناضلين تنحى منحى يومي ، وتأخذ ابعادا شتى .. وبدأت النساء يعين خطورة الوضع فتحولت كل الورقيات الحزبية لوالدتي ووالدي الى لفائف تتحزم بها دنيا، جدتي .. وهكذا عندما حصلت العديد من حملات التفتيش لغرض التعرف على الممنوعات الشيوعية او دليل على وجود نشاط شيوعي باءت جميعها بالفشل .. فمع شراسة الهجمة كان نساء البيت، نسيمة وامها، دائما رابطتا الجأش في استقبال زوار الظلام .. دون ان يعثروا على ما جاؤوا من اجله ..

في هذه الفترة بدا العمل الحزبي صعباً وانتقل تماماً الى العمل السري وكان نقل البريد الحزبي بين المدن صعباً .. ولكن البريد الحزبي كان لابد له ان ينتقل بانسياب من الناصرية الى البصرة وبالعكس، ولابد من وسيلة ما .. فوقع الاختيار على نسيمة، وهي لم يمض على ولادة ابنتها سوى بضعة اشهر .. لقد شخصت السيارة وكان السائق احد الرفاق، وهو ابن المطرب المعروف داخل حسن، وداخل حسن كانت تربطه بجدي من أمي، حربي حبيب، علاقة متينة تمتد لسنوات خلت .. ويحظى داخل حسن وابنه احترام عامة الناس في الناصرية والجنوب العراقي.. جلست نسيمة في المقعد الخلفي وانطلقت السيارة باتجاه البصرة دون اية مشكله تذكر وتوجهت الى المكان المعني فحظيت باستقبال لائق، وكان هذا البيت هو بيت الرفيق همام عبد الغني المراني، حيث زودها بما لديهم من بريد حزبي، وكمية كبيرة من سمك الزبيدي .. وفي طريق العودة توقفت السيارة عند نقطة التفتيش، وبينما هم يضغطون على نسيمة للنزول من السيارة للتفتيش واذا بابن داخل حسن يبادرهم بالتعريف عن نفسه .. فاعتذروا منه وتركوه يسير بدون مشكلة .. وبعد عودتها لم ترغب ان يوصلها احد الى بيتها خوفاً من المحظور، فبعد ان سلمت البريد ذهبت مشياً على الاقدام وبيدها ابنتها الرضيعة .. وتكررت الزيارات الى البصرة حاملة البريد الحزبي مرات أخرى.

وبسبب الكثير من المضايقات للوالدة والوالد قرروا ترك المدينة فقدموا على طلب النقل الى بغداد حيث تحصلوا عليه في السنة الدراسية 1961-1962 ..

فرتبوا أمور سفرهم الى بغداد وكان في حوزتهم مسدس بقي لديهم عهدة من الحزب لا يستطيعوا تركه في أي مكان فلابد ان يأخذوه معهم .. فالأمور الحزبية من ورقيات وغيرها تحزمت بها دنيا، جدتي، اما المسدس فكان مصيره الملابس التي لفت بها الطفلة، وكانت والدتي تلبس العباءة العراقية السوداء .. وكالمعتاد يصعد الشرطة الى القطار للتفتيش .. وتقدموا الى العائلة يسألوهم ويفتشوا اغراضهم .. فلم يجدوا شيئا فتركوهم بسلام ..

تتذكر والدتي بعض الأسماء في علاقاتها الرفاقية والرابطية في الناصرية فللعمر احكام والذاكرة لم تعد لتتسع الكثير .. فمن الشخصيات تذكر، الرفيقة تنزيل وهي والدة المناضل الراحل زهير الدجيلي، واخت زهير الدجيلي، لا تتذكر اسمها، وقسمة جعفر التي أصبحت فيما بعد زوجة زهير الدجيلي، وسيدة تتذكر ان اسمها ام سيد حسين، وام كامل، وحياة.. وهناك رفيق توثقت علاقات عائلية بينهم وكان اسمه كاظم، لم يكن عندهم أولاد فكانوا يسمونه أبو جواد ..

 بغداد

ومرت الأيام وعمل والدي معلماً في مدرسة الصراة في كرادة مريم، وانتظمت صلاته الحزبية وكذلك صلات والدتي الحزبية والرابطية ايضاً .. تعرفت على الكثير من الرابطيات .. ولمزيد من الاحتياط لم تبح باسمها الكامل بل اكتفت بما يطلق عليها باسم (ام سعدي) أو اسمها الحزبي ..

في البداية كانت إقامة العائلة في الصالحية وبسبب الايجار فكان على نسيمة ان تنجز كل شيء بيدها كي يكون الراتب كافياً .. فكانت تخيط الملابس وتحوك البلوزات وتتسوق وتطبخ وتراعي الأولاد لمساعدة أمها .. وكان والدي يذهب للمدرسة ويساعدها في الاعمال الأخرى عند عودته .. هذا إضافة الى كل متطلبات العمل السياسي .. وتعرضت كغيرها من الرفيقات والرابطيات الى الكثير من المفارقات الطريفة والحزينة في نفس الوقت .. كانت نسيمة عند ذهابها لأية فعالية جماهيرية تلبس اجمل ما عندها للتظاهر بالذهاب الى مناسبة عند السؤال من أيا كان .. وفي احدى المرات والمسيرة في شارع الرشيد متوجهة الى الباب الشرقي هاجمت قوى الامن المتظاهرين فتفرقوا بدون نظام وكان من نتائج هذا التفرق ان فقدت والدتي فردة حذائها الجميل، وبقيت تمشي بفردة واحدة .. نزعت الثانية واستمرت في المشي حافية الى ان وصلت الى بيت احدى زميلاتها في الرابطة فأعطتها حذاء لتصل به الى البيت منهكة القوى .. وفي مناسبة أخرى حين كانت هناك انتخابات نقابة المعلمين والتنافس شرس بين القائمة المهنية والجبهة التعليمية الموحدة، قائمة البعثيين والقوميين، ولإسناد القائمة المهنية انطلقت مظاهرة في الكرخ عبر الشواكة وساحة الشهداء فكان بالمرصاد لها قوى الامن حيث جرى تفريقها ببشاعة وقوة مفرطة .. كانت نسيمة واحدة من المتظاهرات وكانت حامل بواحدة من أخواتي، وبسبب التدافع سقطت ارضاً، وكادت الجموع تدوس عليها، لكن مجموعة من الرفاق احاطوها وساعدوها على النهوض والمسير الى البيت، وصلت الى البيت وكانت مرهقة وتكسو الاوساخ ملابسها ..  

انقلاب شباط الاسود

عند انقلاب شباط الأسود عم السواد ارض العراق وصدرت الفتوى المشؤومة وبيان رقم 13 القاضية بإبادة الشيوعيين، وكان على الشعب ان يواجه مصيره المحتوم .. فاعتقل الانقلابيون الالاف من الشابات والشباب العراقي الذين تعرضوا للتعذيب النفسي والجسدي والاعدامات بدون محاكم وانتزاع الاعترافات والتبرئة من الحزب .. رتبت نسيمة نفسها لكل الاحتمالات ولكن بكثير من واعز الخوف بداخلها على القادم من الأيام .. لم تعترف عليها أيا من رفيقاتها، لذلك لازالت تذكر رفيقاتها بألف خير ..

بعد الانقلاب وجدت نسيمة نفسها امام واقع انها مسؤولة عن تربية عدد من البنات والبنين والعمل السياسي محفوف بمخاطر حقيقية راح ضحيتها الكثير من الرفاق والرفيقات القريبين عليها وعلى نفسها، فقررت اعتزال العمل السياسي ..

وفي هذه المرحلة تتذكر الوالدة بعض من الأسماء التي لازالت عالقة في الذاكرة، حيث وبعد بضعة أيام من الاستقرار في بغداد طلبت الرابطة من الرابطيات التجمع في مكان ما بالكريمات ومن هناك واصلن مسيرتهن في الباصات الى الوزيرية حيث مقر الرابطة هناك وكان هناك جمع غفير من النساء الرابطيات، وما ان دخلت الوالدة الى المقر واذا بإحدى النساء تتوجه اليها وتقدم لها نفسها، وكانت المرحومة ساجدة بركات الرومي التي ربطتنا بها فيما بعد علاقات اجتماعية حميمة ..  

وتتذكر أيضا بعض الرفيقات في الكريمات كل من الرفيقة فليحة والرفيقة صبيحة، لكنها تتذكر باعتزاز عائلة شيوعية بطلة .. ولحد هذا اليوم تكثر في الحديث عنها بفخر .. عائلة بسيطة رب الاسرة هو الرفيق عباس الترك ويلقب بابو أدهم وزوجته ام ادهم وأولاده تتذكر منهم ادهم وروسي وبناته، وتتذكر منهم رفيقاتها ليلى وشكرية .. هذه العائلة ربطتهم بها علاقات متينة .. في الانقلاب كان عباس الترك وأولاده وبناته ضمن مجموعة كبيرة في الكريمات يتصدون للجيش اللاشعبي الذي راح يفرض سيطرته على كل الاحياء بالقوة .. وكانت الكريمات واحدة من تلك المناطق ويقود الحملة ضد الحرس اللاقومي عباس الترك وأولاده .. وبعد ان شح العتاد كان لابد للمقاتلين الراحة فانسلوا بين البيوت واختفوا .. لكن رجال الامن عثروا عليهم فيما بعد، لا لكونهم مقاتلين بل لكونهم شيوعيين .. وكانت مواقفهم في غاية من البطولة فبالرغم من التعذيب لم ينطق أي منهم باي اعتراف .. لكنهم بقوا في السجون لفترة طويلة .. لم تلتقي والدتي بهم فيما بعد الا مرتين .. في احدى المرات وكانت تتسوق في الشواكة واذا بها وجها لوجه مع ام ادهم .. ومرة أخرى وبينما هي تتسوق في البياع واذا برجل يناديها، لم تعرفه في اول الامر لكنه عرف عن نفسه انه روسي ابن عباس الترك وتحدث لها عما حصل لهم ..

ربت نسيمة أولادها على حب الحزب والوطن والفكر الشيوعي .. فهي ام لسبع بنات، وخمسة أولاد .. ومعظمهن انغمسن في العمل السياسي حيث استشهدت ابنتها اكرام على يد الفاشيست الصداميين بعد اعتقالها عام 1980، بعد عدة أيام من احتفالها بمولدها السادس والعشرين .. كما أنها حرصت ان يكمل جميع بناتها وابنائها التعليم الجامعي ليكونوا افرادا نافعين في المجتمع .. 

وبعد الكثير من المضايقات من قبل رجال الامن تتبعاً لأبنائها الشيوعيين الذين استطاعوا الهرب من العراق بعد اشتداد الهجمة على الحزب الشيوعي .. وبعد ان فتح السفر خارج العراق عند فترة الحصار الاقتصادي سارع الوالد والوالدة بمعية أولادهما وبناتهما للسفر خارج العراق تباعاً وهي الان تعيش في السويد، وهي متابعة جيدة لأخبار الحزب وقارئة جيدة لكل أدبياته ..

عرض مقالات: