نعيمة عيال نصار .. معلمة متقاعدة .. زوجة الشهيد الدكتور عبد الرزاق مسلم الماجد .. ولها منه اربع بنات، نسرين وعبير واشراق وسحر وولد واحد هو سلام، لذلك اعتيد تسميتها باسم أم سلام  .. وابنتها الكبرى نسرين هي زوجتي، وهي صيدلانية .. ونحن في سفرة خارج السويد جاء الى سمعنا ان نعيمة تعرضت الى حادث سبب لها كسر في الفخذ، نقلت على اثرها الى المستشفى لتلقي العلاج وبعد عودتها للبيت حرصت بناتها مرافقتها والعناية بها ..  

بعد عودتنا الى السويد ذهبنا لزيارة ام سلام ، واطلعنا على المشكلات الحاصلة مع الرعاية الاجتماعية وقررنا ان تبقى نسرين مع امها، ووضع النقاط على الحروف في برنامج الرعاية الصحية .. وبقيت هناك ثلاثة ايام متتالية .. وعادت الى البيت وهي تحمل بيدها دفتر عادي، وسألتني هل أن لي مزاج في ان أقرأ .. قلت ، نعم .. قالت تفضل ولكن المكتوب على صفحات مختلفة عليك ان تفتش عن الصفحات الصحيحة لكي تكون القراءة منظمة والاحداث متتابعة  .. لم أفهم ما تعنيه، تصورت انها كتبت شئ ما وارادت ان اطلع عليه لتصحيحه او ما شابه .. بدأت بالقراءة وسرعان ما اكتشفت ان ذلك هو محاولة من نعيمة لكتابة شئ عن تاريخها .. 

للأسف الشديد هناك وجوه اجتماعية وسياسية رائعة ، يعتبر تاريخهم جزءا من تاريخ حركة وطنية .. فالتاريخ لا يحققه القادة بأنفسهم بقدر ما هو دور هائل للأفراد في مجالات مختلفة .. كل تلك الادوار تمثل حركة متكاملة تجسد تاريخ مرحلة بكل ما فيها من ايجاب وسلب .. 

وقد تأثرت بما كتبت نعيمة، وشعرت ان من واجبي ان احرر ما مكتوب وانشره لكي اشارك في تدوين جهد حاولت نعيمة انجازه في مرحلة كانت على قدر من الصحة التي لم تسعفها ربما لتدوين كل شئ بتفاصيل اكثر أو لربما لم تسعفها الذاكرة لكتابة التفاصيل ..

 

مرحلة الدراسة

 

تقول نعيمة انها عندما كانت في الصف الثالث المتوسط في الناصرية وخلال العطلة الصيفية حضر الى دارهم ابن خالها دلي مريوش ، المناضل الشيوعي المعروف ، وكانت تكتب وشاهد كتابتها ، ثم اردف يقول ان خطها واضح وجميل .. شكرته في ظن منها انه يثني على خطها فقط .. لكن تبين فيما بعد ان له غايات اخرى .. قال لها ان عنده رجاء منها وطلب .. قالت وما هو ؟ قال: استنساخ .. وافقت تقديم المساعدة .. تقول: (كان بيتنا بجوار بيتهم .. في اليوم التالي جاء ومعه كراس .. قال اريدك ان تستنسخي هذا الكتاب .. كان عندنا غرفة كبيرة ، تسمى الديوانية، لها ثلاثة ابواب ، ودائما مقفولة الا حين قدوم ضيوف فتفتح لاستقبالهم ،  خصوصا في المناسبات .. وكانت الديوانية مفروشة بالسجاد .. جاء بطاولة وكرسي ووضع فوق الطاولة رقعة زجاج .. ثم حضر عدد من اقلام الكوبيا والاوراق الشفافة والكاربون .. وسلمني الكراس .. وقرأته .. كان عن القضية الفلسطينية، كتبت الكراس عدة مرات، مع كل مرة استنسخ عدد من النسخ بفضل الكاربون .. ) 

وحالما انجزت العمل اعطاها كراس آخر فاستنسخته، ثم آخر وآخر .. وهي تستنسخ تلك الكراريس تباعا وتعطيها الى دلي ابن خالها ..  وكانت تدخل الغرفة، الديوانية، يوميا من الصباح الباكر وحتى المساء .. بحيث ان يدها اليمنى بدأت تؤلمها ومع ذلك كانت تجهد نفسها على الاستمرار لشعورها بأهمية ما تكتب ، فالكتابة لاكثر من نسخة مع الكربون يحتاج الى جهد للضغط على الورقة لكي يظهر الخط على اخر ورقة .. ونتيجة لذلك الجهد اصاب احد اصابعها التهاب لازالت تعاني منه لحد الان .. 

بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة بالمتوسطة قدمت الى دار المعلمات بالعمارة وكانت قد فتحت لأول مرة في ذلك العام الدراسي ١٩٤٤-١٩٤٥ وكانت في ذلك الوقت ملحقة مع متوسطة البنات .. ولم يمر وقت طويل حتى عمت المظاهرات جميع انحاء العراق ومنها مدينة العمارة … وقد شاركت نعيمة في تلك المظاهرات (التي كانت تطالب بالخبز للشعب الجائع وسقوط الحكومة واسقاط معاهدة بورتسموث الجائرة .. وكانت الحكومة في ذلك الوقت قد قامت بتصدير انواع الحبوب الى خارج العراق وبقي الشعب جائع يطحن الذرة والشعير ، ان توفر، وكانت النساء الريفيات حفاة الاقدام متوزرات بالعباءة الصوفية ويرددن الشعر الشعبي ، ومنه : ويلا يالخبز يابو سبع جنحان ، طاير بالسمه وملوحج الغربان.)

تقول : ( رفعني المتظاهرون على كرسي لكي القي ابيات من الشعر للشاعر العراقي الوطني الكبير ، معروف الرصافي، رحمه الله .. فالقيت الشعر وكررته امام استحسان المتظاهرون .. بعدها قامت الشرطة بضرب المتظاهرين بالهراوات والرصاص، فسقط القتلى والجرحى، ومنهم ، الشهيد عطا .. وعلى اثر هذه التظاهرات سقطت الحكومة وتشكلت بديلا عنها حكومة يرأسها نوري السعيد، التي فتحت ابواب السجون فزجت بها خيرة شباب العراق) ..

وعلى اثر هذه التظاهرات سقطت الحكومة وتشكلت بديلا عنها حكومة يرأسها نوري السعيد، التي فتحت ابواب السجون فزجت بها خيرة شباب العراق)..

تقول : بعد أيام قليلة زارتني الرفيقة أم بشرى (نجية) وبيدها رسالة صغيرة ملفوفة .. كانت نجية تدرس معي في نفس المدرسة .. كتب في الرسالة ان ارافق نجية للذهاب الى دارهم .. ذهبت ، وهناك التقيت بشخص كان ينتظر قدومي، قدم نفسه لي باسم عزيز ، وكان قد تزوج نجية فيما بعد (المرحوم ابو بشرى) .. 

في نفس السنة ، وفي ١٤ شباط ١٩٤٩، تم محاكمة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، فهد ومعه زكي بسيم ومحمد حسين الشبيبي وتم اعدامهم .. فخرجت مظاهرات بقيادة سكرتير الحزب الجديد، واسمه ساسون دلال، وخطب قائلا: ارادوها ابادة فلتكن حرب ابادة .. وبعدها تم اعدامه هو ايضا.

تقول: عدت الى دار المعلمات حيث تأجلت امتحانات نصف السنة الى ما بعد العطلة وسافرنا الى اهلنا حيث كان معي طالبات من البصرة والكوت وانا من الناصرية ..

كان دلي مريوش في الناصرية مختبئا وكان مراقبا من قبل امن المنطقة، لكنه قام بزيارتنا وهو يحمل في يده رزمة اوراق  كبيرة اسطوانية الشكل .. أخذ سترتي وفتح بطانتها وأخفى فيها الرزمة وقال لي: عليك ان توصلي هذه الرزمة الى العمارة ، الى الشخص الذي تعرفتي عليه، وهو بالطبع الرفيق المرحوم عبد علوان، ابو بشرى ..

تقول: في ذلك الوقت كنت البس العباءة والبوشي .. سافرت الى البصرة ، ولكن ليس بمفردي، بل مع رجل أوصوه أن يسهر على سلامة وصولي الى دكان والدي الواقع في العشار ..   سافرنا بالقطار المتوجه الى البصرة من الناصرية ليلا ووصلنا صباح اليوم التالي .. نزلنا مع الركاب .. وعند وصولنا الى الباب الخروج متوجهين الى الشارع اقفل الشرطي علينا الباب وقال ممنوع عليكم الخروج .. فانبرى الرجل الذي يرافقني بالتحدث واستعلام الامر فقال له ان هذه التي ترافقها يهودية وانت تريد تهريبها الى اسرائيل .. فقال له اننا صابئة ولسنا يهود ، وهذه البنت امانة في عنقي يجب علي ان اوصلها الى والدها الذي يعمل صائغا في العشار .. في هذا الاثناء كان هناك شرطي آخر يستمع لأطراف الحديث .. وعندما شعر ان الامور قد تسير الى السيء والاسوأ .. فتدخل ليقول: انا اعرف هذا الرجل واسمه فلان ، اسمحوا له بالخروج واوقفوا هذه البنت .. فصرخ الرجل متوسلا .. رافضا .. "على كص ركبتي ما ممكن اترك هذه البنت وسابقى معها، هي امانة في عنقي" .. 

تقول: قادني الشرطي الى غرفة معتمة وادخلني وكنت مرعوبة، لكنني تظاهرت بالقوة فصرخت بهم "الله اكبر، هاي وين صايرة .. انا صابئية ووالدي صابئي وصائغ في العشار وانا طالبة في مدينة العمارة وعندي امتحان ولازم اسافر الى العمارة بسرعة وانا لست يهودية، الا تعرفتم على لهجتي فكيف اكون يهودية" .. واستطردت بالكلام الكثير والمتشعب في امور كثيرة وبصوت عال .. وبالصدفة اقترب مني صبي يحمل صينية فيها "استكانات" يوزع فيها شاي الى الشرطة .. وسمع كلامي واستغاثتي .. فقال الصبي: انا اعرف والدها حق المعرفة وهو صحيح صائغ في العشار .. فقلت له : اتستطيع ان تذهب اليه وتخبره بأني موقوفة على اساس اني يهودية وفتحت حقيبتي وكان فيها ٣٠٠ فلس فقط وقلت له خذ هذه اجرة تكسي ، خذ تكسي واذهب الى والدي واخبره بما حدث .. فتناول الصبي الفلوس وركض وبأقل من نصف ساعة حضر والدي وهو يرعد ويزبد عليهم ويتوعدهم .. وكنت احاول اسكاته تلافيا لاي محضور لأني اعرف ما انا حاملة معي .. قال الشرطي القضية صارت يم معاون الامن ، والمعاون يحضر في الساعة التاسعة .. انتظروا .. لكن شرطيا آخرا قادنا الى شاطئ نهر صغير كان يجلس هناك المعاون مع شخص آخر .. على الرغم من توسلاتي بالوالد ان يسكت لكنه بدا منفعلا حدا لا يستمع لتوسلاتي .. اخيرا بدا المعاون لطيفا .. قال له: اطلب منك ان تدع ابنتك ترفع البوشي .. فرفعت البوشي واطلقوا سراحي ..

في ظهر ذلك اليوم سافرت الى العمارة ، وفي اليوم التالي ذهبت الى بيت نجية وسلمت الرزمة .. كان والدها في ذلك الحين مريضا وراقدا على الفراش .. 

تقول: في نفس هذه السنة اعتقلوا اخي المرحوم حزام عيال ، ابو قيس، وارسلوه الى نكرة السلمان حيث حكموه بخمسة سنوات بالأشغال الشاقة وحطوا الحديد في يديه وقدميه 

 المعلمة نعيمة عيال

تعينت نعيمة عيال نصار في مدرسة سوق الشيوخ للبنات ، والتحقت هناك بمنظمة الحزب ، وكانت قد انضمت الى هيئة حزبية، تقول ان سكرتيرها رجلا أميا لم يدخل المدرسة على الاطلاق، فكانت تقرأ له كل البيانات والمواد الحزبية التي تصل اليه ، هي تقرأ وهو يشرح لها .. كان مسؤولها الحزبي يسمى فرحان .. 

تقول نعيمة:  يوم من الايام اعطاني مسؤولي الحزبي، فرحان، رزمة من البيانات وقال وزعيها في المدينة، وفي البيوت.. أخذت الرزمة وبدأت أفكر في كيفية توزيعها، فكانت الفكرة الاولى التي راودتني ونفذتها هي استعمال العباءة والبوشي .. وانطلقت في توزيع البيانات على مساحات واسعة من المدينة ، بيوت الناس، عبر الازقة، وفي بيت المعلمات حيث كنت معهن في المدرسة، وحتى بيت قائمقام سوق الشيوخ ..

في صباح اليوم التالي ذهبت صباحا الى المدرسة وشاهدت المعلمات في غرفة المديرة ، وكان بعضهن يبكي ، وطلبن من المديرة الاتصال بقائمقام سوق الشيوخ ليحضر، وفعلا حضر القائمقام، واستفسر مالخبر ؟ .. قالت احداهن: انها مصيبة .. ناولته البيان وقالت له: اقرأ هذا؟! .. 

تقول نعيمة: حالما رأى الورقة انفجر ضاحكا وقال: ان حديقة بيتي اصبحت مملوءة بهذا البيان من كل الجهات .. وطمأنهن أن لا داعي للخوف ..

   تزوجت نعيمة عام ١٩٥٣ من المرحوم الدكتور عبد الرزاق مسلم وكان قد أكمل الدراسة في دار المعلمين العالية بامتياز ، اختصاص لغة عربية، وتعين في ثانوية الناصرية للبنين، وكان له نشاطا سياسيا .. على أثر هذا النشاط تم نقله اداريا الى الخالص في بعقوبة، لحقت به نعيمة، وبعد مرور سنتان على هذا النقل الاداري قررت مديرية تربية ديالى انتدابه للتدريس في معهد المعلمين في بعقوبة .. استمر بالتدريس في المعهد لمدة سنة كاملة ..

تفجر الغضب الشعبي ليدك اركان الطغاة في ثورة الشعب التي قام بها الجيش ودعمتها الجماهير والاحزاب المنتظمة في جبهة الاتحاد الوطني في الرابع عشر من تموز ١٩٥٨ .. عندها رفع اهالي الناصرية وطلبة ثانوية الناصرية عريضة طالبوا فيها بعودة الاستاذ عبد الرزاق مسلم للتدريس في الثانوية ، وفعلا جرى تلبية الطلب وعاد عبد الرزاق الى الناصرية ليشغل منصب مدير ثانوية الناصرية .. وتعتقد نعيمة انه كان عضوا في اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في الناصرية .. وكان معه صاحب حمادي ومعلم اسمه ابراهيم رحمهم الله (يبدو ان نعيمة لم تتذكر إسماء اخرى غيرهم ..)

تقول نعيمة: اما انا فكنت معلمة في مدرسة آمنة للبنات، وكنت اشارك طالباتي في المسيرات والاحتفالات المؤيدة للجمهورية الفتية وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم رحمه الله .. وايضا كنت امارس نشاطا في رابطة المرأة العراقية وكانت معي من الرابطيات اللواتي اتذكر اسماءهن فتحية القرغولي وفاطمة ورابطية اخرى تدعى (ام سعد) .. 

تقول: في كل خميس من كل اسبوع يرفع العلم العراقي في المدرسة وكنت في اغلب الاحيان القي كلمة عن المكاسب التي حققتها ثورة الرابع عشر من تموز واؤكد على ضرورة المحافظة عليها .. واهتف بالطالبات لتحيا الجمهورية العراقية ويحيى الزعيم عبد الكريم قاسم .. 

في المدرسة تبرع قسم كبير من المعلمات للتدريس في محال مكافحة الامية .. واثناء التدريس كنا نشرح كيفية العناية بالأطفال ورعاية الاسرة .. 

تقول: انها مصادفة غاية في الروعة حصلت .. في مدرسة محو الامية التقيت بمعلمتي ومديرتي في الناصرية المرحومة غنية آل عجام وكان لقاءا جميلا وسعيدا ، فهي ايضا من المتطوعات في مكافحة الامية ..

 نعيمة تلتقي عبد الكريم قاسم

تقول: انه بقرار من الرابطة تشكل وفد ضم بعض الوجوه النسوية في الناصرية منهن مديرة مدرستي الست زهرة عبد الياسين وسلمى صالح وزكية رومي (وكانت في ذلك الوقت طالبة)، للسفر الى بغداد لتهنئة الزعيم عبد الكريم قاسم بنجاح الثورة .. وصلنا الى بغداد وتوجهنا الى وزارة الدفاع حيث مقر الزعيم حاملين معنا لافتة كبيرة كتب عليها (عاشت الجمهورية العراقية .. عاش الزعيم البطل عبد الكريم قاسم) .. وكان الزعيم بانتظارنا .. فرحب بنا اجمل ترحيب .. وجلسنا حول طاولة مستطيلة .. كان الزعيم عبد الكريم جالسا الى جانبي .. وحين جاء دوري في الكلام قلت له ان رابطة المرأة العراقية تعمل بين النساء لصيانة الجمهورية وتطوير دورهم المجتمعي والسياسي ولكنها لحد هذا اليوم بدون اجازة عمل .. فقال: سوف نصدر امرا بهذا الخصوص وفعلا وبعد ايام قليلة صدر مرسوم باجازة الرابطة ..

نزيهه الدليمي وزيرة للبلديات

عندما صدر مرسوم جمهوري بتعيين الدكتورة نزيهة الدليمي وزيرة للبلديات، تقول نعيمة، اتفقت هي وفاطمة وفتحية على خط لافتة كبيرة نكتب فيها الشعار التالي: المرأة صارت بالحكم موتوا يارجعية .. وسرنا بها مسافة قليلة مع هتاف بصوت عال، فتوافدت علينا النساء من كل بيت ومن كل شارع وزقاق ، وتحول الشعار بقدرة قادر الى (موتوا يا بعثية) .. وصرت أصيح بعلو صوتي واقول (ليس هذا هو الشعار .. ليس هذا هو الهتاف) ولكن لم يكن احد يسمع او ينتبه او يبالي بصياحي .. واستمرت المظاهرة من شارع السراي ودخلت السوق الرئيسي للمدينة ثم سوق البزازين وتفرقت في سوق العبايجية .. وعموما كانت مظاهرة عفوية وغير منظمة ..

اما في بغداد فكان حضوري الى مقر الرابطة لا يتعدى ثلاثة مرات ، وفي مرة تفوهت بكلام عن دور الرابطة .. وقلت انه ليس بمستوى اداء العمل الحزبي المعول عليه .. في اليوم التالي طلب مني احد الرفاق ان اذهب الى مكان ما .. فذهبت الى هناك وكان الحاضرون كلهم رجال ومنهم الرفيق صفاء الحافظ ، رحمه الله، واعتقد انهم كانوا من نقابة المعلمين .. وكان اجتماع تعارف .. 

وتكررت لقاءاتي مع رفاق آخرين وكان هناك اهتمام خاص بي حين كنت حامل واثناء وبعد الولادة .. 

في سنة ١٩٥٩ اشتركت بمؤتمر الرابطة وكانت الدكتورة  نزيهة الدليمي موجودة .. وقد دعت كل النساء المشاركات في المؤتمر ، القادمات من المحافظات، الى تناول وجبة غذاء في احدى المطاعم الراقية في بغداد ..

التقيت بالدكتورة المرحومة نزيهة الدليمي مرة وبطريق الصدفة وكلفتني بالسفر الى الناصرية للاتصال بالرابطة هناك ولكني اعتذرت لأسباب خاصة .. 

 انقلاب شباط المشؤوم

قامت مجموعة من البعثيين والقوميين بانقلاب عسكري اطاحة بحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم في شباط من العام ١٩٦٣، وبدأت الاعتقالات لكل من ليس له علاقة بهم .. وخصوصا الشيوعيين ..

بعد عدد من الايام صدر بيان رقم ١٣ المشؤوم والذي يقضي بإبادة الشيوعيين .. فاصابني انهيار عصبي دخلت على اثره المستشفى لعدة ايام .. بعدها رجعت الى الدوام في مدرسة راس القرية في جانب الرصافة .. في المدرسة المزدوجة جرى اعتقال مديرة المدرسة وعين بدلا منها مديرة شرسة حاربتني بشتى الطرق وارسلت اسمي الى الامن .. كنت حينها اسكن في منطقة كرادة مريم مع عائلة عم زوجي الاستاذ المرحوم جهاد ضمد وزوجته المرحومة عزيزة صيهود .. وذلك لان زوجي كان قد سافر في اجازة دراسية الى موسكو .. 

تقول: في ليلة من الليالي جاءت سيارة مسلحة ونزل منها مسلحون واقتادوني الى السيارة ، ولكنني طلبت منهم ان آخذ معي اطفالي الخمسة معي، فأخذتهم ورافقتني ايضا عزيزة .. اوصلونا الى النادي (اعتقد تقصد ملعب الادارة المحلية في المنصور) في المنصور ، فخرج أحدهم وصرخ ما هؤلاء الصغار، ارجعوهم الى بيتهم ، وبدأوا يحققون معي .. وجاؤوا بطالبة في كلية الطب معتقلة فأنكرت أنها تعرفني، وأنا انكرت معرفتي بها (اعتقد انها كانت تقصد ليلى الرومي) .. كنت اعرف احد البعثيين الذي كانت له علاقة صداقة مع اخي وكان بعثيا معتدلا ، وكان لأخي افضال عليه ايضا .. لكنه لم يكن موجود معهم ، فقلت لهم اريد التحدث الى فلان .. سألوني اذا انا اعرفه .. فقلت: نعم .. وبعد الاخذ والرد أمر المحقق وقال: ارجعوها الى بيتها .. 

تقول: عندما حضرت الى المدرسة في اليوم التالي والتقت بي المديرة استشاطت غضبا .. وراحت تحرض الطالبات لمضايقتي عند دخولي المدرسة او خروجي منها او في اي مناسبة .. وكان عدد الطالبات بحدود ٤٠٠ طالبة تتجمع في مدرسة صغيرة بناءها شرقي .. لذلك مرت بي ايام لا اسمع سوى صراخ البنات المرتفع الى درجة اني بدأت أشعر بضعف في السمع .. 

تقول: لم تتحملني المديرة كثيرا فطلبت نقلي الى مدرسة اخرى، هي مدرسة الدهانة ثم الى مدرسة الاقبال وبعدها الى مدرسة الصباح في البياع .. 

 عودة الى احداث حصلت في الناصرية

تقول نعيمة: كان في الناصرية وفي المحلة الشرقية عدد من جواسيس الامن منتشرين في الشوارع يراقبون الناس الوطنيين وبيوتهم .. 

وضمن هذه الأجواء سلمني الحزب مجموعة من الكتب الثقافية الممنوعة في ذلك الوقت .. وارادني ان ابعد هذه الكتب الى مكان آخر ، أخذت الكتب وسلمتها الى ابنت خالتي التي تسكن في شارع خلف شارعنا .. وبعد مرور شهر من ذلك التاريخ اخبرني الحزب ان اسرع وانقل الكتب مرة اخرى الى مكان آخر لان الامن سوف يكبس ذلك البيت وذلك لان جرى القاء القبض على زوج بنت خالتي في مدينة البصرة .. أسرعت ولبست العباءة والفوطة السوداء .. وخرجت من البيت متوجه حيث مكان الكتب واذا بي في مواجهة مع رجال الامن وسياراتهم ومجموعة كبيرة من الشرطة الذين كانوا في طريقهم الى ذلك البيت .. دخلت مسرعة الى البيت واخذت الكتب ووضعتها تحت الفوطة ولملمت العباءة على صدري وخرجت فشاهدت رجلا واقفا جنب الباب .. سألني: هل تعرفين بيت فلان .. قلت: لا اعرفه .. بينما هو نفس البيت الذي انا خرجت منه .. بعدها شاهدت السيارات المسلحة تدخل الشارع فأسرعت ودخلت الى بيت آخر .. فتخلصت منهم وخلصت الكتب من ان تكون سببا لأذية عائلة .. 

  استشهاد زوج نعيمة

بعد الصبر سنوات طويلة وزوجي في اجازة دراسية الى موسكو ، الذي ترافق مع تدهور الاوضاع السياسية على اثر انقلاب شباط الاسود وتعاقب القوى القومية والبعثية على الوطن العزيز وبسبب الاوضاع الداخلية في الحزب لم يستطع الرجوع الى العراق الا عام ١٩٦٧ .. وناضل من اجل ان يعادل شهادة الدكتوراه التي تحصل عليها في موسكو عن مقدمة ابن خلدون .. انتهت بتعيينه في جامعة البصرة .. قسم الفلسفة .. وبعد فترة من تعيينه اغتالته القوى الرجعية في شارع الكورنيش وكان برفقة احد زملاءه الذي كان هو ايضا استاذ في نفس القسم .. 

وبقيت لوحدي اصارع الحياة واهتم بتربية اولادي الذين تخرجوا جميعهم من الجامعات .. ومن اجل تربية اولادي انقطعت عن العمل في اي تنظيم سياسي .. 

 نعيمة وحقبة البعث الفاشي
اندلعت الحرب العراقية الايرانية عام ١٩٨٠ وصدر بيان من الحزب الشيوعي العراقي يستنكر فيه الحرب ، وحصلت نعيمة على نسخة منه وسمعت بأنه وزع في الكليات والشوارع وفي كل مكان من بغداد .. وهي في طريقها الى المدرسة كانت تقرأ البيان .. واثناء الدرس اعطته الى معلمة اخرى كانت تدرس الصف الاول حيث قرأته واعادته اليها، لكنها بقيت تراقب نعيمة في الفرصة وهي تدخل الى الصف المجاور لتكلم المعلمة هناك .. حينها ذهبت الى مديرة المدرسة ومعاونتها واخبرتهم بما حصل ، فارسلوا على نعيمة وحققوا معها عن مصدر هذا البيان .. اجابتهم انها وجدته في الشارع مرميا قرب المدرسة .. 

تقول نعيمة:  كانت المديرة طيبة جدا لكن المعاونة كانت مسؤولة الامن في المدرسة .. وهددت انها سترسل الخبر الى المسؤولين في شعبة حزب البعث والى مدير التربية .. في اليوم التالي حضرت الى المدرسة المفتشة التربوية واخبروها بما حصل وطلبت من نعيمة الحضور .. 

تقول نعيمة:  حين التقيت المفتشة دعتني للحديث في غرفة على انفراد .. واقفلت الباب .. وكانت بشوشة معي وسألتني عن أحوالي وعن أولادي وعن صحتي .. لكنها لم تتطرق الى أي موضوع آخر .. وهكذا انتهت هذه المسألة بسلام .. فادركت ان المفتشة هي التي انهتها .. ربما لأنها لا تريد لي مشاكل أو ربما هي من عائلة مناضلة .. 

لكنه عندما جرى الضغط على نعيمة من قبل المعاونة وبعض المدرسات وتهديدها  .. قامت هي ايضا بتهديدهن .. وكشف كل الاوراق .. لان كل واحدة منهن تكلمت امامها بأمور كثيرة فيها مسبة للحكومة ورجال الدولة .. وهكذا كان الامر مفيد حيث توقف تهديدي وانتهت القضية .. 

بعد هذه الحادثة قررت نعيمة طلب الاحالة الى التقاعد وتحصلت عليه بعد مرور ثلاثة اشهر ..

بعد التهديد الذي وجه الى ابنتها البكر نسرين وكانت حامل قررت الهروب خارج العراق .. ثم تخرج ابنها سلام من كلية الطب وسيق للخدمة العسكرية وارسل للجبهات العسكرية .. واصبح هذا الموضوع يؤرق نعيمة فقررت ان تهرب ابنها الى خارج العراق لينتهي به المقام الى السويد كلاجئ .. 

وبعد توقف الحرب العراقية الايرانية وحرب الكويت فتح السفر فسافرت نعيمة لتلتقي بابنتها التي كانت تعيش في هنغاريا وابنها الذي كان يعيش في السويد .. كان يمكنها البقاء مع احدهم ، لكن بناتها الاخريات لازلن في العراق وعليها الاطمئنان على اوضاعهن .. فرجعت الى العراق وبدأت بترتيب امكانية اخراج بناتها الاخريات من العراق .. ثم يقوم ابنها بترتيب موضوع التحاقها به .. وفعلا حصل ذلك وسافرت الى السويد والان هي مقيمة متقاعدة هناك ..

في السويد تعرفت على الجالية العراقية وخصوصا الناس الديمقراطيين .. وكان لها علاقات واسعة فانتمت الى رابطة المرأة العراقية وجمعية المرأة العراقية وجمعية المرأة المندائية والجمعية المندائية في ستوكهولم .. 

وقد كرمت لأكثر من مرة من بعض من تلك المنظمات ومن الحزب الشيوعي العراقي كذلك .. 

 مذكرات مناضل

 تستذكر نعيمة شخصية رائعة في يوم الشهيد الشيوعي .. تتكلم عن الشهيد الشيوعي البطل (شنور عودة) .. وهذا نص ما كتبته تحت عنوان (مذكرات مناضل):

في كل عام يذكر اسم الشهيد شنور عودة بدون أي تعليق .. فتألمت كثيرا .. ولذلك فأنا اليوم أذكر بعض ما أعرفه عن حياة هذا الانسان وكيف تم استشهاده ..

في عام ١٩٥٢ عندما انهى الشهيد عبد الرزاق مسلم دراسته الجامعية وعين مدرسا في ثانوية الناصرية، كان يمارس نشاطا سياسيا منذ الاربعينات .. وفي عام ١٩٥٥ تم نقله الى ثانوية الخالص اداريا وهذا معناه عقابا بسبب نشاطه السياسي .. 

في مدينة الخالص تعرفنا على صائغ اسمه (مهدي عودة) وكان يلبس الدشداشة والكوفية والعقال وكان رجلا اجتماعيا معروفا من قبل اهالي الخالص وبعقوبة والمناطق المجاورة، مشهورا بكرمه واخلاقه الفاضلة .. وذكر لنا انه في الاربعينات كانت له صلة حميمة بوالدي الذي كان يسكن البصرة ويملك محلا للصياغة في العشار .. وكلما يلقى القبض على مهدي لنشاطه السياسي أو في المظاهرات والاضرابات وتصل اخباره الى والدي يذهب ليفتش عنه في المعتقلات ومراكز الشرطة ويكفله كفالة شخصية ويأخذه الى بيته.

في مدينة الخالص غير شنور اسمه الى مهدي عودة لأنه كان مطاردا من قبل اجهزة الامن والاستخبارات .. 

وشنور عودة هو ذلك المعلم المفصول من الخدمة والعامل في شركة النفط سابقا والذي قاد مظاهرة عددها أكثر من خمسة الاف عامل من مركز شركة النفط في K3 متوجها الى جسر الفلوجة حيث كان العمال مضربين عن العمل ومطالبين بحقوقهم المهضومة، وكانت المظاهرة متوجهة الى بغداد تريد عبور الجسر ولكن الشرطة اصطدمت بالمتظاهرين ومنعتهم من العبور وحدثت اشتباكات عنيفة وتم اعتقال المئات من العمال ..

في انقلاب شباط الاسود عام ١٩٦٣ اختفى مهدي عودة ، وبعد ايام قليلة التقى ابن اخته مع جماعة ادعوا انه لهم حسابات مالية مع مهدي وينوون مقابلته ليعطوه حقه ولم يكن يدري ان خاله مهدي مختفيا في بيتهم في بغداد .. بعدها جاء الحرس القومي بسياراتهم المسلحة من الخالص الى بغداد مدججين بالسلاح وتم اعتقال شنور عودة .. ربطوه بمؤخرة سياراتهم وضربوه في الطريق وعذبوه .. وعند وصولهم الى الخالص ربطوه الى شجرة ثم صبوا النفط عليه واحرقوه حيا .. يقال ان القاتل كوفئ واصبح فيما بعد وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي عام ١٩٦٨ والآخرون تبؤوا مراكز مرموقة في دولة البعث ..

كان الشهيد شنور متزوجا حديثا وزوجته شابة بعمر الزهور وكانت حاملا في الاشهر الاولى .. 

وهكذا انتهت حياة هذا المناضل الجسور بهذه الطريقة الوحشية البشعة .. وللاسف هكذا تنتهي حياة مناضل احب وطنه وناسه حتى النفس الاخير .. فالى جنان الخلد يا شهيد الوطن وشهيد الحزب وشهيد المبادئ والقيم السامية ..  

 

عرض مقالات: