ليس تقديسا  للشهادة لكن وكما يقول الشهيد حسين مروة موت الشهيد الشيوعي موت اخر... انه ليس الموت، انه موت الموت. نعم موت الشهيد الشيوعي ليس موتاً بل حياة اخرى، فالشهداء يسكنون بين القلب والسماء ويعيشون في ضمير الشعب والوطن، واذا كان نضالنا هو الشرف الذي نعتزونفتخر به فالشهداء هم العنوان الابرز لهذا الشرف. إستذكرت كل ذلك وأنا أكتب في ذكرى رفيق وصديق جميل، جمع بين العمل الحزبي والعمل في المنظمات الجماهيرية حتى ساعة تجميد نشاطها .. كان دائم الحيوية ونموذجا لكل الرفاق، إنه محمود عسكر.

كان محمود، بملامحة الجادة واحيانا القاسية، اقوى من الصلب وأرق من النسيم، لا يعرف المستحيل ولا يجد الرضا عن النفس طريقاً لقلبه، يكره التبريرات ولا يحتمل المجاملات الزائفة.. كان ناقداً بشدة للتقاعس والاهمال والتردد، لكن تشدده كان دائما تربويا، يرعى رفاقه ويساعدهم. مناضل و قائد من نوع خاص يستعصي على الوصف.

كتب الرفيق نزار حسين رهك (الشهيد محمود عسكر الحديثي، الشاب الأسمر ذو الملامح العراقية البدوية .. قوي التقاسيم كشخصيته النضالية .. سلوكيته المبدئية كعمق المباديء التي كان يعتنقها .. لم يكن يحيد عنها حتى ولو بشعرة .. ومن يعرفه كشخص، يعرف كيف يكرّس المناضل حياته للنضال و كيف تذوبأيامه في تفاصيل هذا النضال وخططه .. وتربية أجيال من المناضلين ليكملوا المسيرة .. إنه الشاب الذي لم يكن يعرف التعب والكلل و لا حتى الهزيمة.. لذا لم يكن له طريقا آخر سوى أن يختار طريق النضال في صفوف الحزب الشيوعي العراقي .. وكان مثالا للقائد المنظم الحزبي الذي لا يساوم و لا ينهار أو يهزم … إنه المناضل الذي يتسابق مع الموت و لا يخون مبادئه ووطنه وشعبه ورفاقه).

في مساء أحد أيام عام 1977وأثناء خروج الشهيد محمود من اجتماع حزبي، وفيما كان ينتظر في محطة الباص، تعمد سائق سيارة مارة (يعتقد بانها تعود لإحدى أجهزة أمن النظام) دهسه، فنقل الى المستشفى مصابا بعدة كسور في الجمجمة واجريت له بعض العمليات، دون أن يأبه أو يلين. زرته حينها في المستشفى، كان الالم يعتصرني لما حصل له من عوق جزئي في النطق ونوبات من مرض الصرع، كان يهزأ بما حصل، لا تفارقه الأبتسامة، ويسعى ليهون علينا ما نشعر به من ألم على ما يعانيه!

خرج من المستشفى وعاد الى العمل التنظيمي بنفس الهمة وبنفس النشاط حتى كنا نتسائل منبهرين، من اين لهذا الجسد النحيف والمصاب، كل هذه الطاقة وهذه الحيوية التي يفتقدها الاصحاء. وبعد ان بدأنا العمل السري في النصف الثاني من عام 1978وتركنا مدينة الشعلة، كنا نلتقي دوما رغم اننا كنا نعمل في خطوط حزبية مختلفة. واستمرت لقاءاتنا لفترة طويلة، حتى إنقطعت عنه جراء إلتحاقي بقوات أنصار الحزب في كردستان.

خلال هذه الفترة التي تقل قليلا عن السنتين،  كان محمود رفيقا وصديقا وأخا ومعلما يفوق الوصف ويتغلب على الكلمات. لقد انقذ حياتي بالمعنى الحرفي للكلمة بشجاعته وحنكته. لا أنسى يوم اقترح علي في بداية عام 1979 أن أوجل السنة الدراسية، استغربت من المقترح وسألته وكيف ذلك؟ طلب مني ان أقدم طلب التأجيل الى الصحة المدرسية، اخذ الطلب من يدي ودخل على احد ابرز اطباء العراق في الصحة العقلية وقدم نفسه على انه أنا وعرض اصابته بمرض الصرع والمشاكل التي يعاني منها. كنت انتظره خارج غرفة الدكتور وكانت الدقائق تمر وكأنها ساعات. خرج وأبتسامته العصية على النسيان ترتسم على وجهه ملوحا بالورقة: تفضل، لقد حصلت على التأجيل.

كانت ظروف العمل السري صعبة للغاية على الرفيق الشهيد، فاضافة لوضعه الصحي المربك، لم يكن يجد بسهولة أماكن للاختفاء، الى ان وجد عائلته الثانية، والتي كان يعرفها بعلاقة جيدة مسبقا من رحمانية الشعلة، انها العائلة الشيوعية المضحية عائلة المناضل حسين رهك والمناضلة بهية الزركاني (أم طه)، فرعته كأحد أبنائها، هو والشهيد البطل خليل ابراهيم تعبان، رغم ظروف العائلة الخطرة. ورغم ظروف العمل السري الصعبة من كل الوجوه. كان الامل طافحا في روح الشهيد محمود وكان واثقا من ان مستقبل النظام الى زوال. ورغم حالات الصرع التي تصيبه احيانا في الشارع او الباص الا انه ظل مصرا على مواصلة بناء واعادة بناء الخطوط التنظيمية.

مرت سنوات عديدة على انقطاعنا وكنت أتلهف لسمع اي خبر عنه وعن رفيقي وصديقي خليل حتى صدمتني، بعدد سقوط النظام، قراءة اسميهما في قائمة اعدام لثلاثة وستين شيوعيا. ليس بوسعي الا ان أتخيل الشهيد محمود وهو يتحدى بجسده الضعيف الجلادين، ويخرج من كل (حفلات الدم) الهمجية  بابتسامته الساخرة وهو يدمدم لازمته (شتريدون تسوون سوو).  ليس بوسعي الا أن أتخيله وهو يرعى رفاقه السجناء ويرفع من همتهم وينعش الامل في اراواحهم. محمود هزم جلاديه وأهانهم فلم يجدوا ردا سوى اعدامه. ليس بوسعي الا أن أتخيله وهو يتحدى الموت بشرف وبألق شيوعي متذكرا فهدا ورفاقه الابطال هاتفا باسم حزبه وبسقوط الصنم.  

رفيقي العزيز ستبقى ورفاقك قناديل مضيئة ورايات خفاقة وأغان خالدة وستبقون الصوت الهادر في ضمير صانعي غدنا الذي تريدونه جميلا كوجوه امهاتنا.

رفيقي العزيز لم نجد لك قبرا ولم نتمكن من وداعك فجعلنا مثواك في قلوبنا وضمائرنا فأنت الحاضر دوما ملهما كلما ضاقت السبل.  

ناموا هنيئاً يا من علمتمونا تحدي الطغاة والثقة بالمستقبل ومعانقة الحزب حتى الشهادة.

اليكم المجد أيها الأحبة ولكم الحب والعرفان وواجب الذكرى المضيئة التي لا تخفت.

عرض مقالات: