لم يسلك محمد سلمان حسن الطريق الصعب دون إخلاص للوطن، لكن الوطن كان له (فخاً) سقط في مهالكه، منذ ولادته عام1928، وحتى وفاته عام 1989، حاول سلمان أن يدخل هذا العالم من أوسع أبوابه، وأن ينتسب إليه في كل نشاطاته العلمية والأكاديمية، والمهنية التي تناولها في البحث والممارسة، دون أن يحصر همه في الخضوع لسلطة الوظيفة، ورفض أسرها حين تتحول إلى قيد يحد من حريته وإبداعه، وظل هكذا يبحث عن حلول لمشكلات العراق الاقتصادية، والإنسانية، شاعراً بأنه سيظل على الطريق، المنقذ المهلك، في آن واحد.

  تلك التجربة الثرية، تناولتها الطالبة فنر محمد الزبيدي كبحث لنيل درجة الماجستير من كلية التربية في جامعة ذي قار عام 2020، وتوزعت الدراسة إلى ثلاثة فصول، تناولت نشاط محمد سلمان منذ عام 1958، ومواقفه الفكرية والسياسية، من العديد من القضايا الوطنية، فضلاً عن تخصصه الاقتصادي، وأهم إنجازاته في ميادين الزراعة والنفط، ودوره المهم في مجلس الإعمار العراقي، ووزارة التخطيط، وجهوده في عقد الاتفاقيات مع الدول، شرقاً وغرباً.

 انشغلت الباحثة في تعريف الشخصية وانتمائها العشائري، في عدد مبالغ فيه من الصفحات، وذات الإشارة يمكن أن تقال في التعريف بالشخصيات التي ورد ذكرها في البحث، عبد الكريم قاسم، نوري السعيد، الملوك، على سبيل المثال، ويبدو ان تقاليد كتابة البحث الأكاديمي، ما تزال أسيرة لاشتراطات لا معنى لها، مكررة، في كل الدراسات، لا تضيف لها غنى ومعرفة، في حين تتساهل مع عشرات الأخطاء اللغوية والطباعية، في معادلة غير متكافئة، مع تلك الاشتراطات. بيد ان البحث بمجموعه يؤلف جهداً طيباً ومخلصاً، في دراسة إحدى أهم الشخصيات العلمية الوطنية في العراق. وبداية لدراسات أعمق وأشمل لهذه الشخصية الفذّة.

 عاصر محمد سلمان حسن أحداثا عديدة منذ مقتل الملك غازي، وحركة رشيد الگيلاني، واندلاع الحرب العالمية الثانية، ونشاطه المعارض في الحركة الطلابية، ضد معاهدة بورتسموث، وتصاعد نشاطه السياسي بعد التحاقه في بعثة حكومية للدراسة في جامعة ليفربول عام 1949 لنيل الماجستير ثم الدكتوراه على حسابه الخاص، بعد أن قررت الحكومة العراقية فصله وايقاف المنحة الدراسية.

 مع ان النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي كل الأبعاد التي تتضمن حرارة الاخلاص للوطن والعلم، وهي تؤكد حقيقة واحدة، ان هذا الرجل أراد أن يعبّر عن أفكاره ومبادئه بقدر وافٍ من المشاعر الأنبل في العمل، بذكاء وشرف ونكران ذات قلّ نظيره، وظل يبحث بأناة وعمق وتأمل عن الافكار والمشاريع التي يمكنها ان تؤهل العراق لحاضر جديد، ومستقبل مزدهر، انشغل سلمان بهذا الهم في ضجة الصراعات السياسية، وانصرف إليه كلياً بصفاء التوجه والأمل.

   لعل هذه الخصائص، كانت الإشارة الأولى لانقلابيي 8 شباط 63، أن تضع أسم محمد سلمان حسن على لائحة الموت، في انتظار أن يغادر خارطة الحياة نهائياً. إذ داهمت قوات الحرس القومي منزله، واعتدوا عليه بالضرب، وعبثوا بمحتويات مكتبته وأوراقه الخاصة، وتعرض إلى التعذيب والإهانة بعد ان حكم عليه بالسجن خمسة أعوام بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي، ولعلاقته الوثيقة بصديقه وزميله الاقتصادي المعروف ابراهيم كبة. وهو لم يكن منتمياً تنظيمياً للحزب!

 لم يتوقف سلمان من مواصلة نشاطه الفكري بعد أطلاق سراحه عام 1966، لإيمانه العميق بعدالة قضيته، وشهدت أعوام السبعينات من القرن الماضي، مساهمة أوسع له

في الاحداث السياسية والاقتصادية، ونظراً لمكانته العلمية المرموقة، اختاره رئيس اليمن الجنوبي سالم ربيع علي مستشاراً له، وتولى رئاسة قسم في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حتى إحالته إلى التقاعد عام 1976.

  أغنى محمد سلمان المكتبة العربية بالعشرات من المؤلفات والمترجمات، في مختلف النظريات الاقتصادية والاجتماعية (الاشتراكية والرأسمالية)، وتميزت كتاباته بعمق المعرفة والفكر النقدي، والتحليل الدقيق للواقع الاقتصادي بوضوح دون تعقيد.

  ومن الافكار التي طرحها سلمان، ما يعرف بوثيقة الدستور العراقي التي كتبها عام 1984،التي عثر عليها بعد إقتحام داره من قبل رجال الامن والمخابرات، مع مسودات لكتب اخرى، منها تصحيح الاقتصاد العراقي بعد الحروب، وأسس تنمية دول العالم الثالث، واقتيد بعدها إلى مستشفى (المجانين) في مدينة الرشاد ببغداد، واعلن احتجاجه بالإضراب عن الطعام لمدة 23 يوماً، مما نجم عنه توقف وظائف اجهزة الهضم، وار تفاع الضغط، مع اضطراب الدورة الدموية،  فاضطرت أجهزة النظام إلى إطلاق سراحه، اغتيل نجله عمار الطالب في طب البصرة، عام 1986 ولم يعلم محمد سلمان بمقتل ولده حتى فوجيء بجثمانه في باب منزله، كما اغتيلت ابنته أروى، وسحب جواز نجله يسار، ومنعه من السفر، وبعد صراع شديد مع المرض، توفي محمد حسن سلمان في 17 كانون الثاني 1989 في بغداد.

  ماذا يمكن لهذه التراجيديا أن تعطي من دروس،؟ وما يمكن أن تأخذ منا، إذا كنا جميعاً قد بلوناها وخبرناها كل بطريقته الخاصة. تلك محنتك يا محمد سلمان، لم تذهب إليها بمشيئتك، كما فعل أبو العلاء المعري الذي إخطار العزلة، وفرض على نفسه السجن، عاش غربته بقسوة على نفسه!

 قد يكون الغضب وحده أسبق الاستجابات التي غزت رؤوسنا، أول الأمر، لكن التراجيديات تحولت إلى تكرار يدمر حواسنا، بالهزات العنيفة، وحز الخناجر المسمومة الغادرة، وإذا تساءلنا كم هو الزمن الذي قطعناه من الأعمار، ونحن نلهو بعذابنا! محمد سلمان والمئات سواه، شهود لهذا الزمن المضرج بالدماء، هكذا هو حال الوطن! يوم باعوه نفطاً ولحماً ودم، نحروه، وطأوا أرضه وكفنوه بآثامهم.

 وانت يا محمد سلمان حسن، هذا المعلم الفكري الاقتصادي، لقد وضعت في صلب منهجك، تأليق الجوهري النافع، وسعيت ان تجعل من حليتك المعرفية، موئلا للمبدعين، ومحجة للدارسين من بعدك. يمضون بأثرك الفكري إلى أبعد نقطة داكنة في العالم...

عرض مقالات: